شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل السابع
كنت أفهم من استمرار اعتمادنا على (القنّيطة ولحم الصفائح) في الغداء والعشاء، وعلى أوراق الورد الجافة والسكر البني اللون، للتعويض عن الشاي الذي لم يعد له وجود في أسواق المدينة،.. أفهم أن الحصار على المدينة مستمر، ولا يدري أحد إلى متى سوف يستمر؟؟ وكان السؤال الذي يتردد على ألسنة من يحدث أن يزورنا من الرجال ـ أصدقاء عمي ـ بل ومن النساء أيضا، هو (هل ينتهي هذا الحصار بدخول البدو الذين يحاصرون المدينة وما زالت قذائف مدافع جبل سلع تؤكد أنهم يحاولون الهجوم؟؟) (وإذا انتصروا ودخلوا فما الذي سوف يواجهه الناس منهم...)... ثم قد يتهامس بعض الزائرين من الرجال، بأن عبدالمجيد باشا هو الذي مازال يرفض التسليم للأمير الذي أقام مخيمّه في منطقة العيون... رغم أن هناك من أهل المدينة من قابلوه ونصحوه بأن يقبل التسليم بشروط مرضية، ولكنه يرفض لأنه مايزال يعتقد أن حكومة الشريف في جدة لم تسلم، وأنها وعدت بأن ترسل إليه الكفاية من المال بالطائرة لدفع رواتب العسكر..
وأضاف أحدهم ذات مرة: أنه يقلد فخري باشا ولكن فخري أخرج الناس من المدينة خوفاً عليهم من الجوع... واحتفظ في مستودعاته بالأرزاق الضرورية لمعيشة العسكر... والدليل هو هذه القنيطة واللحم الذي وجده الدكتور ضياء في مستودعات الصحة (في درب الجنائز) وقدم الكثير منه لعبدالمجيد.. ولكن ماهي إلا أيام ولا يبقى لا قنيطة ولا لحم..
وهنا ارتفع صوت أحدهم يقول:
:ـ ولكن الناس؟! أهل البلد كلهم من أين يأكلون، لم يبق في الأسواق شيء، كل الدكاكين مغلقة.. والتجار الكبار لا يبيعون ما عندهم إلا بدم القلب... بالمصوغات والمجوهرات... وهذه لا يملكها إلا الأغنياء.. أما الناس.. أهل البلد.. فإني أسمع أن في البيوت كثيراً من النساء والأطفال مرضى، ولا سبيل إلى الدواء، ولا إلى الغذاء. ومع أن البعض كان يصر على أن عبدالمجيد مخطيء يعرّض البلد للجوع والمرض، فقد كان هناك من يذكر المجلس كله، بالمخاوف المحتملة ـ بالمذابح إذا تم التسليم ودخل هؤلاء البدو المدينة... والكل يعلم أنهم لا يرحمون...
ولكن ما أسرع ما يردّ آخر قائلاً:
:ـ ولكن لم نسمع أنهم قتلوا أحداً في مكة عندما دخلوها.
:ـ لأن (بن سعود) نفسه كان السلطان عليهم.
:ـ خلاص... يا أخي... في (العيون) الآن (ولد بن سعود)... وهؤلاء البدو يستحيل أن يخالفوا أمره.. والذين قابلوا عبدالمجيد أكدوا له أن الأمير يوافق على تنفيذ جميع الشروط...أهمها فك الحصار... وعدم الاعتداء على أحد من الأهالي أو على العسكر إلا إذا اعتدى أحد عليهم..
:ـ لكن عبدالمجيد قال انّو يعتبر نفسه خائناً للأمانة في عنقه... وأنه أرسل برقية إلى حكومة الشريف في جدة يخبرها... وينتظر الرد.
:ـ ولكن يقال أن حكومة الشريف في جدة يمكن أن تسلم خلال أيام...
* * *
واشتد تأثير الحصار على الناس... وعلينا نحن أيضا في البيت.. وكان أسوأ ما جاءتنا به (أمي بشرى) هو أنه لم يبق ((من القنيطة)) إلاّ عشرة فقط... أما اللحم فماتزال الصفيحة الثانية ممتلئة... فكيف يكون الحال إذا أكلنا العشرة الباقية؟.. هل نظل نأكل اللحم فقط؟
ومع هذا الحصار، والجوع، والأخبار عن عناد الباشا، قل تواجد الأطفال الذين ألعب معهم... ولذلك فقد تعودت أن أعوض عن اللعب بالجولة التي أقوم بها في الأسواق المقفرة ـ جوّة المدينة ـ وباب السلام والعودة عبر سوق الخضرة إلى (الساحة) وكان مما يلفت نظري أن متجراً كان يظل مفتوحا وصاحبه يسميه الجميع (العم عابدين)..
كان يرى جالساً وراء المنضدة الطويلة التي يسمونها (البنك) وحوله مع الصناديق الصغيرة في الأرفف، شابّان أسودان علمت فيما بعد انهما مملوكان للعم عابدين.
في إحدى هذه الجولات ـ وعند مروري بمتجر العم عابدين ـ استوقفني بنداء يقول:
:ـ أنت يا ولد... أسمع.. تعال
وتوقفت، بل وتقدمت نحوه ـ فإذا به يسألني:
:ـ مو أنت ولد الدكتور ضياء؟
:ـ ايوه... عمي..
:ـ طيب... تعالى.. لا تروح...
والتفت نحو أحد المملوكين وهو يأمر:ـ
:ـ هات القفة المليانة.
وجاء المملوك بقفة كبيرة مما جرت العادة أن يحملها الشيالون من الصبية الكبار، في خدمة المتسوقين.
وكانت القفة ممتلئة فعلاً بالكثير من الأكياس الصغيرة، والأوعية الكبيرة والمتوسطة، وكان الأكثر لفتاً للنظر كيس كبير نوعا... حمله المملوك الآخر على كتفه... وحين حمل أحدهما القفة على رأسه وضع الكيس على كتفه... والتفت إلى العم عابدين وهو يقول:
:ـ يروح هادا بحملته معاك البيت. وتسلّم على أبوك وتقول له هادي هدية من صاحبه عابدين بغدادي.. وإذا شفته زعل واتغير وجهه.. قل له يقول لك عابدين: (النبي قبل الهدية).
* * *
ولن أنسى حتى اليوم كيف استقبلت (أمي بشرى) هذه الهدية.. وعلى الأخص ذلك الكيس الكبير نوعاً ـ فقد كان ما فيه هو (الرز) الذي لم نذقه طوال شهور الحصار،..: ومع أن أمي لم تستطع أن تخفي فرحتها، فقد شرعت تحقق معي.. ما الذي جعلني أذهب إلى (جوّه المدينة) ؟ و ؟.. كيف تعرفت إلى هذا الرجل؟! بل كيف أعطاني كل هذه الأغذية ومنها (الأرز المعدوم من الأسواق).. بل والسمن أيضاً؟ وهنا قاطعتها (أمي بشرى) وهي ترفع بيدها قرطاساً كبيراً وهي تقول:
ـ هادا يا ستي كمان ورد ناشف وورق (بافرة).. وهادا.. هنا، شوفي.. سكر أبيض...
وكنت أعلم أن الورد الجاف أصبح البديل للشاي ويمكن أن يكون البديل للدخان أيضاً. ولكن لفّ (السيجارة) ورق من الورد الجاف كان يحتاج إلى الورق (البافرة) وقد انعدم من الأسواق أيضاً وتحتفظ أمي (بدفتر) من هذه الدفاتر لنفسها تلف به ورق الورد للتدخين ولعمي الذي خفف كثيراً من حاجته إلى هذه (السيجارة) في هذه الأيام.
وشاركت الجميع هذه الفرحة الخالة هوندجية وزوجة ابنها (مريم)... وعلقت أنها تعرف عابدين بغدادي، ولكنه رجل بخيل.. فكيف هان عليه أن يعطي كل هذا الخير...
ومع استمرار هذه الحال، فوجئنا بمرض عمّي مرضاً ثقيلاً يسمونه في المدينة (الجمبة) أو هي (ذات الجنب).. وأذكر أنه قال هكذا كنت مريضاً عندما سلّم فخري للشريف. ولذلك فقد أخذ البيت يمتليء بالزائرين من أصدقائه الكثيرين، ومنهم زملاؤه أطباء المستشفى العسكري الذي أذكر أنه لم ينقطع قط عن العمل فيه، إلا عندما مرض... كان رحمه الله مثالاً نادراً لأداء الواجب في عمله، وفي علاقته بالأسرة، وهي أمي وأختي التي بدا عليها الهزال، فنصح أمي بأن لا تتركها تلعب أو تخرج معي لأن صحتها تحتاج للراحة.. وإذا لم تخنّي الذاكرة فقد شهدت هذه الأيام ميلاد أخي شاكر الذي كان رضيعا يوم رأيت مشهد تسليم المدينة..
كنت قد سمعت من عمي أن عبدالمجيد باشا قد وافق أخيراً على التسليم، لأن حكومة الشريف في جدة قد انتهت منذ شهور.. ولكنه مايزال متردداً إذ يفترض بأنه قد وافق على (الغطغط) الذين يمكن أن ينتقموا منه إذا دخلوا رغم وجود الأمير (ولد بن سعود)..
كان عمّي مايزال طريح الفراش، عندما سمعت زميلاً من زملائه يقول له بالتركية التي أصبحت أفهمها.،.
:ـ تم الاتفاق بين الأمير والباشا.. ويقال انهما سيدخلان من باب الشامي فيراهما جميع الناس بعد صلاة العصر..
ورفع الرجل كفَّيه وهو يردّد.
الحمد لله.. الحمد لله.
وعندما رأيت جمهرة من الأطفال في صباح ذلك اليوم وجميعهم قد علموا أنهم سيرون الأمير والباشا بعد صلاة العصر.. اتفقنا جميعها على أن نقف عند عتبة باب (السلطانية) المرتفعة عن أرض الشارع ليتاح لنا ونحن أطفال أن نرى هذا الأمير، ومعه الباشا يدخلان من باب الشامي. لأن الأمير يأتي من مخيمه في منطقة العيون.. والباشا يهبط من قلعته في حبل سلع ويتقابلان، ثم يمشيان ليدخلا المدينة معاً.
وقبل صلاة العصر، كنّا على عتبة باب (السلطانية) وكان عدد من الجنود ـ ومعهم منصور أفندي الضابط الذي قام بدوره في حادث المدفع الذي انفجر وتسبب في أكبر ضجة من نوعها ـ كانوا منتشرين في المنطقة يمنعون الناس من التزاحم في الطريق.. وكان هذا في تقديرنا هو الدليل على أن الأمير والباشا قادمان فعلاً.
ولم يطل بنا الانتظار... فقد تسارعت حركة الجنود تبعد الكثيرين عن الوقوف في الطريق... ورأينا مجموعة أخرى من الجنود، ربما كانوا من جنود الباشا يدخلون في ثلاثة أو أربعة صفوف من باب الشامي وعلى أكتافهم أسلحتهم.. ثم ما كادوا يدخلون، حتى رأينا الباشا في ملابسه العسكرية على حصان، وإلى جانبه الأمير الشاب في عباءته وعقاله على الشماغ على حصان آخر، وخلفهم عدد كبير من الفرسان والمشاة أدركنا أنهم جميعاً رجال الأمير، وخلف هؤلاء فصيل من الجنود.
ومر الموكب أمامنا... إلى الباب الذي يخرج منه إلى ساحة المناخة... وترامت إلى مسمعنا، همسات الناس الذين وقفوا يشهدونه... ومنها.
:ـ الحمد لله ـ ربنا يختار لنا ما فيه الخير ـ المهم خلصنا من الحصار.. من الخوف ليل ونهار الخ...
وكان أعجب ما رأيناه ونحن نعود إلى بيوتنا، هو تلك الدكاكين التي كانت مغلقة طوال شهور... وقد فتحت وأصحابها يبيعون ما يطلب منهم وللقلة من الزبائن الذين ربما كانوا يشترون القليل الذي يمكن أن يشتري بالنقود التي لا يملكون سواها في ذلك المساء، ولم أستطع أن أفهم لماذا كانوا يغلقون دكاكينهم مادام فيها ما يباع للناس.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :751  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 78 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج