شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
جراح الموسيقى في شعر سعد الحميدين
تلقيت ديوان سعد الحميدين الذي ركب موجة التجديد حتى في العنوان الذي ارتضاه لمجموعة القصائد التي فاضت بها قريحته في فترة من عمره الفني بدأت على الأرجح في عام 1966م، فسمّاه (رسوم على الحائط)، قبل أن أتلقى أعمال الأستاذ أحمد قنديل في (قريتي الخضراء) و(الراعي والمطر)... وكان علي أن أفرغ للحميدين فأعالج دراسة رسومه أو أعماله، قبل أن أكتب ما كتبت ونشر في هذه المجلة عن شعر القنديل، وليس ذلك مراعاة للترتيب الزمني في تواجد أعمال الشاعرين بين يدي، وإنما لأن أعمال الحميدين تمثل بالنسبة لي نافذة طالما تطلّعت إلى أن تفتح في معمار الأدب والفن في بلادي، لأرى عبرها كيف ينمو الغراس وكيف تتفتح الأزهار وتنضج الثمار، وإلى أي مدى اشتدت الجذوع إلى الأفضل والأجمل، ولا تزال شحيحة مقتّرة في مطلب الأدب والفن.
ولعلّي حسبت للوهلة الأولى أن السهولة واليسر وخفة المعاناة تتوافر لي مع الحميدين أكثر مما تتوافر مع الأستاذ أحمد قنديل، وهو من أساطين الشعر وقممه القليلة عندنا، إذ طبيعة ارتياد القمم تستلزم جهداً أكبر واستعداداً أوفر، ووقتاً يظل يتلوّى فيطول، وأنا في أشد الحاجة إلى أن يستقيم فيقصر، ولكن لشد ما خاب ظني إذ اكتشفت خطأ تقديري، حين صاحبت الحميدين بعض الوقت ذات ليلة، فوجدت أن دراسته تتوعّر، وأن الانطلاق في مسار أي قصيدة من شعره، يتعذّر، إذ تعترض سبيلي غابة جهمة قد لا تلتف فيها الأشجار الباسقة، ولا تتكاثف فيها الظلال القاتمة، ولكنها - مع ذلك - غامضة المسالك موحشة الآفاق، ضنينة بالانفراج والإشراق، ولذلك فإن تناول أي عمل من أعماله في هذه الرسوم بالتحليل المستوعب العميق، لا بد أن يستغرق، ليس من الوقت فقط، وإنما من الجهد وأعمال الذهن أكثر كثيراً مما تستغرقه أعمال القنديل، فكان مما يتفق مع هذا الواقع أن أنطلق مع أعماله فأكتب عنه، وأن أطيل التريّث مع الحميدين فلا أكتب حتى اليوم.
ولا شك أني قد أطلت التريث والأناة أكثر كثيراً مما ينبغي، ولعل الأستاذ الحميدين قد انطوى على إحساس بالعتب الصامت إن لم يكن على شعور بالحرد والضيق، كهذا الذي ينطوي عليه بعض شبابنا نحو الشيوخ، فيذهبون إلى حفر الخنادق وشق الأخاديد يعزلونهم أو يعتزلون عنهم بها، بحيث لم يعد مما يستغرب أن نجد المجتمع المثقف عندنا قد انقسم إلى حد التنافر والاجتواء، بل إلى حد النزول إلى حمأة الردح في بعض الأحيان.
ولقد ظللت أتحيّن الفرص وألتمس الخلاص من هذه المشاغل التي لا تزال تتلاحق في حياتنا هذه الأيام، فأفرغ لهذه الرسوم على الحائط، أتأملها وأستغرق في معالمها، التي وجدت أنه يسهل أن تلمحها عن بعد فتستهين بالمسافة والبعد بينك وبينها ولكن لا تكاد تمضي قليلاً، حتى تدرك أن مشارفة هذه المعالم والتحليق في آفاقها يفتقر إلى ملاح عبقري يعرف كيف يبحر ليصل إليها، والطريق إلى كل منها يلتوي هناك ويستقيم هناك، ثم قد يستغلق وتنتشر عليه سحابة من الغموض والإبهام، ويلفه دخان بخور أسطوري، وهذا إلى ما ينتشر في المسالك نفسها من صخور مغمورة تهشّم المجداف أو تحطم الزورق، فإذا بك تصارع موجة تعابثك بضحكاتها لترمي بك في النهاية على رمال شاطىء مهجور...
ولقد أعياني أنظار هذا الملاح... لم أجده حتى في ساعات الفجر الأولى التي اعتدت أن أجد فيها متعة اللقاء بمن أحن إلى معايشته فيما أقرأ من أعماله... وأحسست أن الأستاذ سعد الحميدين قد فعلها حقاً... وببراعة لا تتوافر إلا لأمثاله من الشباب الذي ألقى عن كاهله الكثير من الضغوط التي لا يزال يمارسها التراث على مسيرة الأدب، والشعر خاصة، في العالم العربي. فهذه الرسوم على الحائط، أو هذه القصائد التي قذف بها هذا الشاب في الساحة الأدبية عندنا، تصل في تمردها على ضغوط التراث إلى حد التحدي الذي لا تنقصه الجرأة والشجاعة بل والرغبة في النزال.
ولا بأس إطلاقاً بأن يساير الشباب منطقه وطبيعته، بل لا بأس عندي بأن تترسخ محاولة الرفض فتتبلور في عمل فني كهذا الذي قدّمه أو قذف به إلى الساحة الأدبية الأستاذ سعد الحميدين. إن المحاولة في حد ذاتها مطلوبة إذ فيها تعبير عن الحيوية الظافرة، التي تتطلّع إلى أن تضيف هي أيضاً معمارها الجديد إلى جانب هذا القديم الذي لا يمنع إعجابنا به، وانتماؤنا إليه، واستمتاعنا بظلال الأبوّة فيه أن نفسح المجال لهذا الجديد وقد نهل من ينابيع فجّرها إنسان العصر بكل ما نشهده من انطلاق صاروخي لم يتوقف قط، نحو مفاهيم قد تبدو غريبة غامضة متناقضة مع طبيعة ما ألفنا، وعرفنا ولكنّها تظل رغم كل ما فيها من غرابة وغموض وتناقض، هادفة إلى تحقيق طموح هذا الإنسان... هذا الطموح الذي لا يقف عند حد، لأنه لا يعترف بالحدود والقيود.
ولكن الأستاذ سعد الحميدين، يعلم بالطبع أنه عبّر عن تحديه ورفضه باختياره (الشعر الحر) على الشعر العمودي، ويعلم أن هذا الشعر الحر موجة ركبها ولا يزال فريق كبير من الشعراء في العالم العربي وفي الطليعة منهم، بدر شاكر السيّاب، وعبد الوهاب البياتي في العراق، وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور في مصر، ومحمد الفيتوري في السودان، وإلى جانب هذه الطليعة عدد كبير تعلّقوا بأذيال الرّواد ونهجوا على منوالهم، نجدهم يملأون الكثير من الصحف والمجلات بأعمال يدخلونها أو يدخلها القراء في مسمّى الشعر الحر لمجرّد تقطيع الفقرة الواحدة إلى عدة سطور، ولأن الكلام في هذه الفقرة يعالج موقفاً عاطفياً وتتوافر فيه الأخيلة و الصور التي اعتاد الناس أن يجدوها في الشعر.
وليس لأحد أن يناقش أي شاعر أو كاتب، في الشكل الذي يختاره للتعبير عن مشاعره ومواقفه وتجاربه... ليس لنا أن نأخذ على الحميدين أو غيره، صدوفه أو عزوفه عن قوانين الخليل كلّها أو بعضها ولكن يظل من حق القارىء أن يلتمس فيما يسمى شعراً، أو فيما يقدم له على أنه شعر، عنصراً يتعذّر كلياً استبعاده والاستغناء عنه، وهو (الموسيقى)... وفي توافر هذا العنصر، لا سبيل إلى اشتراط أن تكون أو أن تجيء على قواعد الخليل... لا سبيل إلى أن نفرض على الشاعر أن يختار وزناً بعينه من أوزان الخليل، ولكن لا سبيل أيضاً إلى أن نتقبّل جملة نثرية يفكّكها الكاتب (شكلاً) وقد خلت من الإيقاع أو الرنين، ليقول لنا رغم ذلك إنها شعر.
وأشهد أن الأستاذ سعد الحميدين، في رسومه على الحائط، قد استطاع أن يعبّر عن تجاربه وأن يجيد تصوير عواطفه وأحاسيسه، وأن يحتفظ مع ذلك للعمل الشعري بالعنصر الأساسي الذي يميّز الشعر عن النثر، وهو هذه الموسيقى التي ترتكز أصلاً على واحد من هذه الأوزان التي تميز الشعر عن النثر، وهو هذه الموسيقى التي لا تخلو منها أي قصيدة من قصائد الديوان، والتي ترتكز أصلاً على وزن من هذه الأوزان الخفيفة التي درج كتاب الشعر الحر على الاعتماد عليها فيما يكتبون من الشعر. ومن هنا يجيء ترحيبنا الحار بالحميدين الذي لنا أن نقول إنه ركب الموجة ببراعة وأنّه عرف كيف يوجّه الشراع، ويدير الدفّة ليصل إلى الشاطىء، ليقتعد مكانته بين شعراء الشعر الحر في العالم العربي، بحيث يصح لمؤرخ الأدب في المملكة، أن يضعه في مسار الحركة الأدبية معلماً (بفتح اللام) لريادة الشعر الحر بمفهومه الخاص الدقيق، الذي يختلف كلها عن ذلك النثر الذي يقطّع (شكلاً) ويقدم على أنه شعر.
ولكن رغم توافر عنصر الموسيقى الذي نتحدث عنه في قصائد الحميدين، فإني لا أعفيه ولا أعفي نفسي من ملاحظة عن الجراح في هذه الموسيقى. وأنا أسميها جراحاً لأنها تشبه تماماً (النشاز) في النغم أو اللحن... تصدم الأذن، وتشتّت تدفّق اللحن وانسيابه، والذي يحدث بالتالي، أن يسطو هذا النشاز على تجمّع الألوان والظلال في المعنى، فيبعثرها ويفقدها التناسب والانسجام والمناغمة.
ولا بد للشاعر أن يطالبني بالشواهد، وهذا حقه قطعاً، وهو ما أعد بتقديمه حين أفرغ لتجارب الشاعر وهمومه، ولمعانيه وأطيافه، ثم لقاموس الألفاظ الذي أراه يتمسّك به ربما لأنه يريد أن يتميّز بأسلوب يعتمد على مفردات هذا القاموس. ولست أدري في الواقع متى يتاح لي أن أفرغ لكل ذلك أو لشيء منه ولكني ملتزم على كل حال بما أعد، فعسى أن لا يطول الانتظار.
* * *
إن كان قد فاتني أن أقرأ ما يتحفنا به الأستاذ علي العمير، منذ استطاعت عكاظ أن تعتقله وأن تعيده إلى رواق كتابها، فهو هذا الحوار الذي دار، وربما سوف يظل يدور بضع سنين بينه وبين الأستاذ العقيلي، لأن الموضوع بالنسبة لي طلّسم لا طاقة لي على معايشته.
أمّا هذه اليوميات التي تنشرها عكاظ في (ملتقى الآراء) للأستاذ العمير، فإنها عندي واحدة من أفضل ما أحرص على قراءته، لأنه - إلى جانب ما يمتاز من عمق التناول، بقدرة تدهشني على تجنّب عملية (سلق البيض) التي يقع فيها أكثر من يلتزم الكتابة يومياً، - وقد أكون أنا منهم - ... لأنه الوحيد الذي لا تفرغ من قراءته إلاّ وأنت تبتسم إعجاباً بالسخرية اللاذعة والمهذّبة في نفس الوقت، أو ضاحكاً للقفشة الذكية التي يشعّها ببراعة يندر أن تجد من يبلغ مستواها، بين من يحاول أن (يخفّف) دمه على القراء، ولولا أن الدكتور حسن نصيف يكاد يملأ أكبر مساحة من الفراغ في الأدب الضاحك، بتساليه ورمضانياته، لكان ما يستحقه العمير، أن يوصف بأنه اليوم الكاتب الوحيد الذي يعرف كيف يعالج الموضوع الجاد بشحنة من الخطوط الضاحكة، وكثيراً ما يكون بينها تلك الخطوط التي تعطيك ملامحه، وقد طوّعها لمطلب السخرية المازحة، يبتسم لها القارىء، ولكنّه لا يملك إلاّ، الإحساس، بالرضى والألفة والحب.
وفي مقاله الذي استضاف المعرّي على مائدة الفارسي والقصيبي، يفتح العمير نافذة على مخزونه من القدرة على معالجة العمل الكوميدي في مستوى الأستاذية النادرة، التي يقل نظيرها بين من يتصدون لكتابة الكوميديا، ويخرجونها في أعمال مسرحية، لا يكاد يرفع عنها الستار حتى تتهافت، وتأخذ في السقوط، وإن كان فيها ما يضحك جمهور النظّارة فهو تلك الحركات القردية السخيفة، التي لا بد أن تضحك التافهين من العوام، حين تسخط من يتمتع بشيء من الثقافة والوعي.
ويمتاز العمير، بعد ذلك بأنّه ظاهر الحرص على جزالة الأسلوب، وحسن اختيار مفرداته اللغوية، دون تقعر أو إغراق في التعقيد... مع رشاقة الجملة وقدرتها رغم قصرها على توصيل المضمون مشرقاً ومحتفظاً في نفس الوقت بنصيبه الوافر من التهذيب والدعة.
لم أر العمير منذ سنين طويلة، فإذا أتيح لي أن أراه في يوم ما، فإني سأحاول إقناعه بأن يتفرّغ لكتابة التمثيلية الضاحكة، للإذاعة والتلفزيون ولن يمنعه ذلك أن يواصل لقاءه بقرائه في عكاظ...
 
طباعة

تعليق

 القراءات :939  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 144 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج