شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الوفرة وحسابنا مع الحياة
هناك لحظاتٌ في حياتي وحياتك، يومض فيها سؤال قد لا نُعنى بالإجابة عنه.. بل قد نسقطه من حسابنا، وحتى إذا تعالى له صوتٌ مُلح، نصم آذاننا عنه قبل أن نفكر فيما ينطوي عليه، وهو: هل أنت أو أنا، مدين للحياة بشيء؟ أم أن الحياة هي المدينة لنا؟ والحياة، فيما يدور بذهني أنا على الأقل، ليست الأعمال التي أمارسها، ولا الوظيفة التي أرتزق منها، بل وليست المنصب الرفيع الذي اقتعدتَ مقعده الفخم وراء المكتب الأنيق العريض.. الحياةُ عندي شيء آخر تماماً.. هي الوجود كيفما كان أو يكون.. هي هذا القلب في مكانه من الجوف، يستقبل الدم، ويضُخُّه، وبهذه الحركة المتواصلة التي تبث منذ اللحظة التي يخرج فيها الوليد من رحم الأم ثم إلى ما يشاء الله له من العمر والاضطراب على أديم الأرض يتم معنى الحياة.. هل حسابنا مع الحياة - في هذا الإطار - متوازن؟ لنا عندها، مثل ما لها عندنا؟ أم أن الذي لها أكثر كثيراً، والذي لنا نحن عندها لا يزال قليلاً، بل تافهاً يكاد لا يذكر، وهي متسامحةً مسرفةً في التسامح، ولكنها مع ذلك لا تكف عن المطالبة بالتغطية والتسديد.
والمألوف أن تتوهّم أن الذي لنا عند الحياة أو عليها كبير.. نتنفج، ونشمخ بأنوفنا كلّما أتيح لنا أن نحقق أملاً من آمالنا.. كلّما - على سبيل المثال - كتبنا مقالاً تنشره الصحيفة في الصفحة الأولى، أو فرغنا من تأليف كتاب احتفلت به إحدى دور النشر فنشرته، ولقي نصيباً من الرواج.. أو كلّما - على سبيل المثال أيضاً - طرحنا رأياً موفقاً ثبتت له الجدوى، وكان له أثره في تعديل مسار التعامل في الأسواق. وعلى هذا الأساس نضع عناصر حسابنا، وتقديرنا لأنفسنا.. والأرجح أننا نبالغ في التقدير، ونتجاهل الكثير والكبير من الأرقام، بل نسقطها من حسابنا، ولا نكف عن المطالبة بالمزيد من عطاء الحياة.
ولو أنصفنا قليلاً، لكان الطبيعي، أن ندرك أننا مدينون للحياة بأكثر كثيراً مما نقدمه لها. وأن علينا دائماً تسوية هذا الحساب، وليس بالإسقاط والتجاهل، وإنما بالعمل.. بانتهاز كل فرصة متاحة لتقديم ما يحقق هذا التوازن في الحساب.. ويأتي في مقدمة عناصر التسوية دائماً، تقوى الله سبحانه، وتَعَمُّق معنى هذه التقوى، بإخلاص الاتجاه إليه بالطاعة وأداء ما أوجب وفرض من العبادات، ومعها استقامة السلوك والتعامل مع من حولنا من الأهل والولد والصديق في حدود ما جاءتنا به العقيدة من المثل والقيم والمبادئ.
لا يكفي أبداً أن نقول إننا نعمل عدداً من الساعات في الوظيفة، وإن ما نتقاضاه في نهاية الشهر، لا يكافئ ما نبذل من جهد، وما نعاني من ضغوط، وما قد نتعرض له من مواقف لا تسر.. هذا في الواقع هو حسابك مع عملك، وليس حسابك مع الحياة.. لأن الحياة تطالبك بأكثر كثيراً من قيد الأوراق، أو كتابتها، أو توقيعها إذا كنت ممّن يوقّعون.
إنها تطالبك بالإبداع حتى في قيد هذه الأوراق أو كتابتها، أو توقيعها.. تطالبك بالتجديد والابتكار، والمحاولة الدائمة للتحسين، ولو بمحاولة التقدم ملليمتراً واحداً أو جزءاً من المليمتر.. ولا سبيل إلى أن تقول إن عملك الوظيفي، في الدائرة الحكومية أو فيما يسمى القطاع الخاص، لا يتسع لشيء من هذا.. كلا. هناك دائماً الأبواب مشرعة للابتكار والإبداع.. الحياة، مهما بدت روتينية محدودة عادية، مليئة في الواقع بالفرص، وهي دائماً على استعداد للترحيب بجهدك في محاولة الإبداع والابتكار.. كلا.. ليس ضرورياً أن يكون لديك المال.. يكفي أن الله قد منحك الطاقة، والنصيب المقدور والكافي من الخيال.
لقد عشنا سنواتٍ سميناها - والتسميةُ صحيحة - سميناها سنوات الطفرة.. وقد مرت بنا - وربما لا تزال تمر - مفاجآت لعطاء هذه الطفرة لم تكن تخطر لنا على بال.. بل لعلّها لم تخطر على بال أحد من أجدادنا منذ عشرات القرون. ولا حصر لهذه المفاجآت، ولكن منها - على سبيل المثال فقط - أن يخرج ابنُ الرابعة عشرة إلى المدرسة يقود سيارة (بورش) أو (كاديلك)، وفي علبة ((التابلون)) رزم من المال، قد لا تقل عن خمسين ألف ريال.. وهذه الطفرة هي عطاء الحياة بفضل الله سبحانه وتعالى.. فما الذي فعله ابننا، ليوازن بين هذا العطاء السخي، وبين ما يبذل من جهد؟ إنه يدخل الفصل في المدرسة، وكل ما في ذهنه هو مشواره في البورش بعد الخروج من المدرسة.. كيف سوف يجد الطريق الملائم للتفحيط، وكيف سيُظهر بطولتَه أمام، أو بجانب تلك الأخرى، التي يقود سيارتها الفخمة السائق المتغابي عن كل ما يدور بين الاثنين.. ثم بعد الساعة الخامسة، إلى (الكورنيش) أو إلى مراكز التسويق المزدحمة بأمثاله، وبالفتيات مع أمهاتهن وأحياناً مع آبائهن ولكنهن يلمحن الأوراق التي تُنثَر على الأرض، وفيها أرقام التليفونات.. وينقضي الليل على الاثنين بعد ذلك، وربما إلى الفجر، في أحاديث الصبابة والهوى، والتنهّدات وحريق الصدور المشتعلة بأمل اللقاء.. وما أسهل أن يتم ترتيب فرص اللقاء وأمكنته أيضاً.
أما مواد الدراسة، بجملتها، فملقاةً في الحقيبة، التي ربما لا تفتح، والتي كل ما لها من علاقة براكب (البورش) أو (الكاديلك)، أنه، يحملها يومياً ويعود بها وهي عبء سخيف وثقيل.. يتطلع إلى اليوم الذي ينتهي منه.
تلك صورة من عطاء الطفرة، التي أفرزت (الوفرة)، وهي عطاء الحياة بالطبع، الذي لَمْ، ولا يخطر لنا ببال، أن نوازن بينه وبين ما نقدمه لها، إن لم يكن بالإبداع والابتكار فبتقوى الله سبحانه، ومن التقوى أن (تستحي)، وأن تتذكر أنك في أرض الحرمين الشريفين وأن الملك.. ملكَكَ ملك المملكة العربية السعودية، جرّد شخصيته من ألقاب الجلالة والعظمة، وفضّل أن يكون أو يحمل لقب (خادم الحرمين الشريفين) فقط، ولا أكثر.. وحين يبلغ إحساس فهد بن عبد العزيز نفسه، بشرف الأرض أن يكون (خادم الحرمين الشريفين فيها) فإنها التقوى أولاً، وإنها المثال، والقُدرة، وإنها الدعوة إلى أن نعرف للطفرة والوفرة حقهما علينا.. أن نعرف كيف ينبغي أن نوازن حسابنا مع الحياة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :577  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 90 من 207
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج