شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عناقيد الحقد (7)
أخذ شكل البيوت المكسوّة بالمشربيات الفخمة على واجهاتها يتغيّر... والشوارع الضيقة أصلاً والخالية من السيارات أو الترام، بدت أكثر ضيقاً، والطريق المترب في بعضها يرتفع صعوداً فترة ثم يأخذ في الانحدار، وكان ما جعلها تكوّن صورة للبيت الكبير وللغرفة فيه أولئك الرجال الذين رأتهم وعلى أكتافهم ما يشبه عصا طويلة تتدلّى من طرفيها أمام الرجل وخلفه صفيحة ما... جرؤت أن تتكلم فتسأل زوجها عن هذا الذي تراه فتظاهر بأنه لم يسمع... ثم بعد لحظات قال: (السقا)... ولم يزد، وحين رأت رجلاً عجوزاً أسود يحمل على ظهره قربة سوداء كبيرة قال لها... (وهذا كمان... سقاء)... إذن فالماء ينقل إلى الدور بهذه الطريقة... تذكرت حارة في أحد الأحياء الشعبية في القاهرة، كانت رأتها مع أمها التي قامت بزيارة لمريضة من أقاربها... هناك رأت السقّاء بقربته يفتح فوهتها ويرش الأرض أمام أبواب بعض البيوت... وفي بيت القريبة المريضة، رأت السلالم الضيقة المظلمة، التي انتهت إلى الشقة وفيها غرفة المريضة بنافذة مكسوة بمشربية عريضة... كهذه التي رأتها في جدة... ثم تراها الآن في مكة...
وقف أخيراً واستوقف الشيالين وهو يقول: (هنا يا بو يمن...) ووقف الاثنان معاً ورأته يتجه نحو باب صغير لبيت، وعلى جانبي الباب، شباك صغير تكسوه مشربية صغيرة... كان الباب مفتوحاً... التفت إليها قبل أن يدخل وهو يقول: (ادخلي...)... ما كادت تخطو خطوتين حتى رأت رغم العتمة، مصطبة عريضة طويلة تغطيها تشكيلة من النفايات، منها أعواد برسيم وربّما ملوخيّة بلا ورق، والرائحة الكريهة، وروث المعيز، أكدت لها أنها هنا أيضاً تدخل زريبة للمعيز وربما الحمير أيضاً كتلك التي غادرتها اليوم في جدة... لم يخطر لها أن هذا هو البيت الذي يأوي إليه معها إلا عندما التفت يقول (ادخل وهات الشنطة يا بويمن...) وألقى هو لفة البطانيتين على المصطبة المعمورة بروث المعيز وبقايا البرسيم وكسر الخبز الجاف وأعواد الملوخية... وطلب من (أبويمن) أن يضع كل منهما الشنطة التي يحملها إلى جانب اللفة... دخل مع الشيالين في حوار طويل عن الأجر، انتهى بأن دفع قطعاً نقدية في يد كل منهما... ثم انتهرهما بغلظة وقسوة... توقفا لحظات، بدا كأنهما يهمّان بضربه أو الاشتباك معه... ولكن أحدهما قال للآخر... (امش... حشمته عشان الحرمة اللي معاه...)
أغلق الباب خلفهما حين خرجا... وما كاد حتى فوجئت بثلاث نساء يتقدّمن نحوهما... كانت إحداهن عجوزاً تمادت تجر خطواتها جراً... والثانية تحمل على صدرها طفلاً بادى الضعف والهزال وهي نفسها قصيرة هزيلة الجسم تنسدل على كتفيها وصدرها ضفيرتان من الشعر الأسود الطويل الذي بدا كأنه يصل إلى ما تحت خصرها النحيل... أما الثالثة فلم تشك ضحى أنها أخته... لها نفس اللون الأسمر الداكن، ونفس العينين الواسعتين الجاحظتين... الثياب التي يرتدينها تنم عن أنهن لا يتعلّقن بالأزياء الحديثة... كن حافيات أصابع أقدامهن تحت ذيول فساتينهن... يظهر أنهنَّ لا يحفلن أبداً بالمظهر ولا حتى بزينة الوجوه كما هي الحال في مصر... أدهشها أنهن وقفن صامتات كأنهن ذهلن لرؤيته معها... أو رؤيتها هي معه. وأدهشها أكثر أنه التزم الصمت من جانبه أيضاً... وأخيرا ظهر صوت العجوز وأخذت تتكلم ولكن ليس باللغة العربية... بل بتلك اللغة التي سمعتها، ولم تعرف أي لغة هي حين سمعته يتكلم مع أخيه في جدة. بدا صوتها ضعيفاً مرتعشاً... لعلّها جدته... بدت بضفيرة الشعر الأبيض الطويل أيضاً... وبوقفتها المرتعشة، وكأنها في التسعين من عمرها... ورأتها ضحى تتحدث بهذه اللغة، وتشير بيدها إليها... أدركت أن الحديث عنها هي... ترى ماذا تقول... واحتدم صوتها ولهجتها بالتدريج... واضح أنها تؤنّبه... ثم أخذت تشير إلى المرأة التي تحمل الطفل... وإلى الطفل... وهنا تدخّلت هذه بصوت محقن وقالت كلاماً بنفس اللغة، ولكنها ممزوجة بأكثر من كلمة عربية... منها (أبويا... ولمّا يجي وأمي جيّة كمان). أمّا تلك التي قدّرت أو حزرت أنها أخته، فقد ظلت تلتزم الصمت، ثم جلست القرفصاء على الأرض حيث هي، وقد وضعت كفّها على وجهها... ولكنّها لم تكف عن النظر إلى ضحى... نظرات طويلة متمعّنة... من جانبه هو ظل يستمع أكثر مما يتكلّم... وأخيراً بعد أن أطال الاستماع إلى العجوز... التفت إلى ضحى... ومد يده إليها... وقال كلاماً بتلك اللغة ثم انطلق وهو يقول: (تعالي... امشي نطلع فوق)... تلاحقه العجوز بصوتها المحتدم الغاضب.
كانت السلالم إلى (فوق) خشبية خيِّل إلى الضحى أنها تتقصّف تحت قدميها في كل خطوة وكان ضوء النهار يفترشها... ولم تكن طويلة أو عديدة الدرج... بضع خطوات وكانا معاً في سطح مسوّر بالصفيح... مشى أمامها... ودفع باباً خشبياً صغيراً ودخل لتدخل خلفه هي وقد أيقنت أنها تدخل تلك الغرفة التي حدّثها عنها في مصر... في البيت الكبير...
* * *
فضّلت، وهي في وسط الغرفة بجدرانها من الخشب والصفيح، أن لا تقول شيئاً... أن لا تلفظ أي كلمة... حتى دموعها لم تجدها... ظلّت واقفة لا تدري ماذا تفعل وأين تجلس، وهي لا ترى في هذه الغرفة إلاّ مراتب مفروشة على امتداد أحد جانبي الغرفة المستطيلة، وإلى الجدار فوق هذه المراتب صف من الحشايا عرفت فيما بعد أنهم يسمونها (مساند)... والأرض يكسوها بساط مزخرف... سجّادة... عرفت اسمها فيما بعد أيضاً... إنهم يسمونها (جلالة)... ثم لا شيء بعد ذلك... لا مقعد، ولا كرسي... ولا مناضد... لا شيء على الإطلاق.
ظلّت واقفة لا تتكلم... ولا تتحرك... بينما أسرع هو ينزع غطاء رأسه، ويخلع حذاءه وجواربه ثم يستلقي على الأرض وهو يرسل زفرة طويلة... وبكمّ ثوبه الأبيض، مسح العرق المتصبّب على وجهه وجبهته... وإذ رآها واقفة لا تتحرك، قال: (إيه... رايحة تفضلي واقفة كده؟؟؟ ما تجلسي ألين يطلعوا الشنط...)
لم تجب بشيء... إذ لم يكن عندها ما يمكن أن تقوله... فالحقيقة هي هذه التي تراها ولا شيء غيرها... لم يكن هناك مجال لتتخيّل أو تحلم بتلك الغرفة في البيت الكبير... كل شيء حدّثها عنه في القاهرة، وجعل أباها يقنعها بأنه أفضل ألف مرة من الموجود في مصر... كل شيء هو هذا الذي تراه... ومعه هذا المخلوق المستلقي على الأرض أمامها... زوجها... وهذا الجو الخانق كان وحده كافياً ليجعلها تشعر أنها تواجه كارثة، لم تخطر لها على بال قط... خلعت الطرحة عن رأسها وألقتها حيثما اتفق... اضطرت في النهاية أن تجلس على طرف إحدى هذه المراتب، وأن تخلع حذاءها بكعبه العالي... وجوربها... تحرّجت أن تترك الحذاء حيث خلعته... ولكنها لا تجد مكاناً آخر... تركته أمامها... ازدحم صدرها بما يشبه شحنة من تراب أو رماد... هكذا أحست... أخذت تسعل... ولكن السعلة تلاحقت قوية شديدة التدفق متسارعة الاندفاع من صدرها بحيث يكاد يشق حنجرتها وبلعومها... التفت إليها... وحين استمرت الحالة نهض بشيء من الاهتمام... رأى عينيها جاحظتين... ووجهها محتقناً... أسرع يخرج من الغرفة وهو يصرخ... يطلب لها ماء... وعاد إليها... بدا عليه الارتباك... لم يجئه أحد بالماء الذي طلبه... ونوبة السعال مستمرة... أسرع يخرج من الغرفة، وهو يكرر صرخاته بطلب الماء... ثم سمعت وقع خطواته على السلم الخشبي يهبط إلى الدور الأرضي... لم تجد أنفاساً تشهقها أو تزفرها... دخل مسرعاً وفي يده قلّة ماء وكأس مملوءة - أسرع يضعها على فمها لتشرب... ولكن السعلة لم تترك لها سبيلاً للشرب... دلق الماء على وجهها... التقطت أنفاسها... وارتمت وهي تميل إلى الأرض... وسمعها تقول: يا بابا... أنت فين يا بابا؟؟؟ ثم أغمضت عينيها وجعلت أنفاسها تتسارع وهي تردد في كلمات متقطعة... أنت فين؟؟؟ أنت فين..؟؟ يا بابا.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :563  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 15 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

البهاء زهير

[شاعر حجازي: 1995]

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثاني - النثر - حصاد الأيام: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج