شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عناقيد الحقد (5)
وما كاد يعود من قضاء حاجته، حتى ارتمى بطوله، وببذلته الإفرنجية، وحذائه، على تلك المرتبة اليتيمة، التي ألقيت عليها ضحى وظلّت ترتفقها طوال النهار. وانتزع نظّارته عن عينيه ومدّ يده بها إليها... فهمت أنه اعتزم أن يستسلم للنوم... خطر لها أن تنبهه إلى أنه لا يزال يرتدي البذلة والحذاء، وأن هذا الحر الذي يزهق الأنفاس يمكن أن يزهق أنفاسه فعلاً إذا ظل على هذه الحال... ولكن رأته يغمض عينيه ثم يستدير ليتمكن من إحكام ضجعته على جنبه في اتجاه الجدار.
ومع الظلال التي ترامت على سحنته مع الضوء الخافت من الفانوس، خالجها إحساس غريب، بالوحشة، وليس بالاشمئزاز، وإنما بالنفور والضيق، بحيث وجدت نفسها تتساءل: كيف عميت عن مشاعرها وأحاسيسها هذه، في الأيام التي قضتها معه في القاهرة ثم في الباخرة التي ارتفقاها إلى جدة. ودارت بعينيها في أرجاء الغرفة، لترى تلك الدرفة المفتوحة في الشباك، وقد بدت كأنها جدار أصم لا تتسلّل منه تلك النسمة التي عرفتها قبل الغروب... وكانت القطة على المصطبة هناك أيضاً... شبعت بعد معركتها مع الفيران، فتكعكت على نفسها في نوم عميق... هي وحدها التي كتب عليها أن تظل هكذا إلى جانب المرتبة التي تمدد عليها زوجها... فجأة رأت يده ترتفع قليلاً ثم تنقض على جبهته... إنه البعوض الذي استقر على هذه الجبهة السمراء، وكانت قد عرفت أنه يملأ الغرفة ويقع على الوجه واليدين، فلا تكف عن هشّه، كما جرّبت أكثر من مرّة لسعاته التي يظل أثرها ويتزايد كلّما حاولت هرش موقع اللسعة في اللسعة في الجسم.
سمعت وقع خطوات تقترب من الغرفة عبر الممر... رجّحت أنه أخوه، عاد ربّما بالعشاء والشاي الذي قال إن (محجوب) سيجيئه به... ولكن توقّف وقع الخطوات لحظات، ثم سمعت صوتاً يردد (يا الله... يا ساتر)... فهمت إنه غريب يعرف أن في الغرفة امرأة ويريد أن ينبّه إلى وجوده... لم تعرف كيف تتصرف؟؟؟ خافت إن هي خفّت للاستفسار عمّا يطلب، أن ترتكب خطيئة فاحشة، بل أكبر فحشاً من تلك التي أثارت عليها غضب زوجها حين سمع صوتها وهي في الشباك... اضطرت إلى التزام الصمت، فعاد الصوت يردد (يا الله... يا ساتر)... فمدّت يدها إلى كتف زوجها تلمسه برفق... وربما هزته عسى أن يتنبّه... فإذا بيده تنقض عليها، فانحرفت عنها، وما كادت، حتى جلس وفي عينيه شحنة من الرعب وهو يقول: (ماذا؟؟ من هناك؟؟؟)... وأجابه نفس الصوت بنفس العبارة: (يا الله... يا ساتر)... ورفع زوجها صوته يقول:
ـ صبي العم محجوب.
ـ خير...
ـ الشاهي والعشا.
ـ خلّيه عندك وروح.
ـ طيب... شوفه عند التنكة.
* * *
كان النعاس يكاد يغلبها، عندما تناهى إلى سمعها عن بعد صوت أذان الفجر... فركت عينيها، وأفرغت من صدرها المحتقن بالغيظ آهة طويلة ولكن في حذر، إذ سبق أن رآها تتنهّد أو تتأوه أثناء تناول العشاء، فانتهرها بغلظة بالغة... وكان مما قاله: (لم تأكلي... ومنذ جئت ووجهك مقلوب... وجه النحس) وحرّك شفتيه في بصقة تعبّر عن القرف... لم تستطع أن تنطق بكلمة واحدة... وكأنّه لمح في عينيها الدموع فاستشاط غضباً... وقال في حردٍ وغيظ (تبكين؟؟؟ ابكِ... ولكن أقلبي وجهك عني. وجه النحس).
ولم تستطع أن تفهم لماذا يصمّم هكذا على أن وجهها (وجه النحس)... همّت بأن توقظه من نومه، وهي تذكر أن ما سمّوه (سيارة البريد) تسافر إلى مكة قبل شروق الشمس... ولكنّها خشيت أن يغضب، فالتزمت الصمت... قدّرت أن أخاه سيجيء كما وعد لحمل الحقيبتين ولفّة البطانيتين، فلتتركه نائماً إذن، وتحاملت على نفسها، وانطلقت إلى الممر المظلم تضيئه بالفانوس في يدها، لتتوضأ لصلاة الفجر. واستروحت في مشيتها، مع روائح المرحاض الكريهة هبوب نسمة باردة، وما كادت تخطو بضع خطوات حتى صعقها نهيق الحمار في آخر الممر، ومعه ضجة الدجاج وثغاء المعيز... أذهلها إحساسها الغريب بأن هذه المخلوقات تقول لها شيئاً... ربّما تواسيها وتخفّف عنها ما تجد من الوحشة والضيق والأسى.
وحين عادت من الوضوء، وجدت زوجها قد استيقظ وجلس على المرتبة التي ظل نائماً عليها منذ استلقى عليها البارحة... أدركت أن نهيق الحمار هو الذي أيقظه... وحين رآها عبر نظّارته السميكة، وهي تجفّف وجهها ويديها من ماء الوضوء قال: (اسرعي... اخرجي لي من الحقيبة ثوباً... لم يخطر لك قط أن تذكريني بخلع هذه البذلة... أكاد أموت من الحر...) قال ذلك ثم نهض وأخذ الفانوس في يده، وانطلق في الممر هو أيضاً يريد قضاء الحاجة والوضوء...
لم يطل انتظارهما لأخيه... سمعا معاً وقع خطواته في الممر -، ثم سمعاه يرفع صوته بسعلة مصطنعة، ينبّه إلى أنه في الطريق إلى الغرفة... رفع زوجها صوته يقول: (تعال... تعال.)... والتفت إليها يقول: (ما تزالين عارية الرأس... وشعرك منبوش...) ثم رفع صوته بلهجة آمرة منتهرة: (هيّا... ماذا تنتظرين؟؟).
وأحسّت ضحى أنها تواجه مشكلة لم يسبق لها أن واجهت مثلها قط... فالفستان الذي ارتدته أمس، بعد أن خلعت ملابسها المبتلة، ليس فستاناً وإنما هو قميص النوم... ليس من ذلك النوع الشفّاف، فأبوها حين رافقها مع ابنة خالتها لشراء بعض الملابس لها قبل الزفاف أصرّ على أن تكون أقمصة النوم الثلاثة من هذا النوع (الحشمة)... ولكن كيف تخرج بقميص النوم إلى الشارع... وهذه (الطرحة) التي جفّت فعلاً، تبدو كأنها ممسحة بلاط... كيف يمكن أن تلف بها رأسها ووجهها... وهي تمشي معه وفي الشارع.
لاحظ أنها لا تتحرك... فعاد ينتهرها: (أنت يا وجه النحس... ماذا تنتظرين؟؟ قلت لك غطي رأسك، وتجهزي...)... وتدخّل أخوه بصوت خفيض متحسّب يقول: (طوّل بالك... ما يزال الوقت مبكّرا...) ولاحظت هي أن هذا يتكلم ووجهه إلى الجدار، متحرّجاً أن يراها وهي مكشوفة الرأس (منبوشة) الشعر.
ماذا تقول له؟؟؟ وكيف تتصرّف؟؟؟ تستطيع أن تخرج من الحقيبة فستاناً ملائماً... ولكن مع جو الإرهاب هذا الذي ينفثه حوله كيف تستطيع أن تنبس حتى بكلمة واحدة... أدركت على أي حال أنه لا يلاحظ حكاية الحرج في خروجها إلى الشارع بقميص النوم... والطرحة التي تبدو كأنها ممسحة بلاط؟؟؟ لفّت بها رأسها، وأسدلت أحد طرفيها على وجهها... وكان هو قد فرغ من الصلاة... وتعمّدت أن تقف أمامه كما هي، بكل ما تصورته من تهافت وهو أن مظهرها... لم يبد عليه أنه يستنكر شيئاً... فقالت: (أنا جاهزة...)
وحمل أخوه الحقيبتين... وحمل هو لفة البطّانيتين... وانطلقوا في الممر الطويل وقبل أن يصلوا إلى حيث يقف الحمار والمعيز والدجاج، وراء حاجز قصير... خرجوا من باب إلى ممر آخر شديد العتمة، انتهى بهم إلى باب الخروج إلى الشارع. واستقبلتهم نسمة هواء بارد منعش، نسيت معها ضحى كل شيء عن مظهرها وعن لحظات الهوان التي أصبحت تعيشها وهي تمشي خلفه، بينما أخذ هو في الحديث بتلك اللغة التي لم تسمعها من غيرهما قط.
الشوارع التي ظلّوا يغشونها واحداً بعد الآخر كانت شبه خالية... هناك مجموعات من الناس تخرج من المسجد... وهناك مجموعة أخرى، وقفت أمام دكان انتصبت في واجهته جرّة الفول... لاحظت أن البيوت التي تمر بها في الشارع العريض نوعاً ما، أخذت تتميّز بارتفاعها وبهذه (المشربيات) من الخشب المزخرف، يغلب عليها اللون الأزرق الفاتح، أو البني... لفت نظرها أن المعيز سارحة في جميع الشوارع... بل هناك أيضاً كلاب تواصل نباحها وهي تطارد بعضها البعض. استغربت أن لا ترى أثراً لما اعتادت أن تراه في شوارع القاهرة... لا أثر للسيارات، أو عربات الترام، أو أعمدة النور... أو حتى للعمارات الشاهقة متعددة الأدوار... ثم كان أشد ما استغربت له أن أرض الشوارع لا تزال على طبيعتها... تغوص في بعضها الأقدام... طين أو رمال...
كان زوجها لا يزال يواصل حديثه مع أخيه بتلك اللغة التي لا تفهمها... ومرة أخرى استرعى انتباهها أنه يردد هو، وأحياناً أخوه كلمة (الشرطة..) ثم (المدير)... فلم تعد تشك في أن هناك مشكلة لها علاقة بالشرطة التي عرفت أنها (البوليس)... وأن زوجها يواجه هذه المشكلة... وربطت في ذهنها بين المشكلة، وبين أنها (وجه النحس)... فلم تحتج إلى تفكير طويل أو ذكاء لتدرك أنّه واجه هذه المشكلة، أو هي قد واجهته بعد زواجه منها...
وأخيراً رأت مجموعة من الناس، وقفوا حول سيارة نقل (لوري)... وسمعته يقول لأخيه: (أسرع... ضع الحقيبتين قبل أن يزدحم السطح بحقائب الركاب...)... ثم توقف لحظة ليتابع قائلاً: (ولكن... هذا العسكري... هل رأيت العسكري؟؟؟)
كان أخوه يكاد يختنق بأنفاسه التي تتلاحق، وقد أرهقه حمل الحقيبتين... إحداهما على رأسه والأخرى في يده... بدا، كأنّه لم يسمع شيئاً عن (العسكري)... فتوقّف زوجها مكانه وعاد يقول: (أقول لك هذا عسكري... هل تراه؟؟؟).
أيقنت ضحى أن المشكلة ضخمة، رهيبة جداً... استدعت أن يوجد هذا العسكري الذي ملأ زوجها رعباً... كان واضحاً أنّه لم يعد يملك أعصابه، صاح في أخيه يقول (لا تمشي... انتظر...) وتوقّف أخوه عن المشي... وألقى الحقيبة التي في يده على الأرض... ثم ألقى بالأخرى التي على رأسه... وانتفض يقول: (لا أدري...)... ثم صعّد زفرة ملأت وجهه وهو ينفثها ليقول: (يعني إذا كان هذا العسكري معنا... هل يمكن أن تمتنع عن السفر؟؟؟).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :749  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 13 من 27
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

جرح باتساع الوطن

[نصوص نثرية: 1993]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج