شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة في الشعر والشعراء))
يدرك الإنسان ولأول وهلة أن كلمة الشعر مشتقة من مادة ((الشعور)) وهو - أي الشعور - صفة كل حي، وغريزة كل ذي روح إنما يختلف قوة وضعفاً باختلاف تركيب العضلات والبنية الجسمانية، وكثافة الطبائع ورقَّتها، وقوة المؤثرات وضعفها. وعلى ذلك، فإذا لم يكن القول صادراً عن الشعور يفيد عن خلجاته، ويعرب عن تموجاته، ويكشف عن تأثره، ويبيِّن عن تصوُّره. فليس بشعر. وأيّ جملة؛ بل وأيّ نبرة صوتية يجد المرء فيها التكييف الشعوري، والتمثيل الوجداني - يعدُّ شعراً. وما الأوزان والقوافي والسجاع في القول إلا رنات موسيقية، ونغمات شجية لا علاقة لها بجوهر الشعر إلا في قيادة النفس وجذب العواطف إليه، وترويضها عليه. لتستجلي مغازيه وتستظهر مراميه. ولا ريب في أن النفس تعشق النغمة، وتنزع إلى الإيقاع. فهي أشبه شيء بالألوان في تنميق الرسوم والصور الرائعة.
وعلى هذا جرى أكثر الأدباء الحقيقيين في عصرنا - عصر التمحيص والتحقيق - وكذلك أنا أقول فالشعر أسمى من أن يتناوله من يريد أن يتلمظ بالألفاظ، ويتشدق في التعبير، ويعاظل في الكلام. دون أن يكون لنفسه فيه أثر، ولا لشعوره فيه بيان. كأنما يريد أن يرمي صخوراً أو حجارة مزخرفة. لا تستميل نفس القارئ غير ما فيها - إن وجد - من التنسيق، وأحكام التزويق.
وأحر بهذا أن لا يعذب نفسه، وينهك قواه فيما ليس له إلى مرتقاه من طاقة، ولا له في معالجته يدان، أو يجنح استنطاق ضميره، ويكون كما يريده الأدب، لا كما يريد هو.
إذا كان من معنى الشعور اشتقاقه
فما بعده للمرء إلاَّ جنونه (1)
وقد اختار الإنسان - من يوم ألقي على بساط الأرض - أن يكون الشعر منفث نفسه في حياته، ونجوى روحه بعد مماته، وديوان أعماله ومفاخره، وسجل بدائعه ونوادره. لا فرق بين الأعاجم والأعارب. إلا أن الأعارب كانوا أسبق إلى التغني به وخوض بحاره، كما أن لهم التجلية في مضماره.
الشعر ديوان العرب
أيضاً وعنوان الأدب (2)
بزوا سواهم في القر
يض وأظهروا فيه العجب
وحقّ للإنسان أن يقدِّر الشعر، ويجعل له مقاماً عظيماً وشأناً خطيراً. فما هناك ما يسير سير الشمس، ويحدِّث الغد بحديث الأمس. يطير في الآفاق مع البرق، ويدوم ينبىء المستقبل بما جرى في الماضي على الخلق. يذكر الأخلاق بكوائن الأوائل، ويطرفهم بما للمتقدمين من عوائد وشمائل - كالشعر ببلاغته وفصاحته، ورونقه وطلاوته، ولله درّ الشافعي حيث يقول ((الشعر كلام كالكلام. فحسنه كحسنه، وقبحه كقبيحه. وفضله على سائر الكلام أن سائر الناس يبقى على الزمان فينظر فيه)). بل إنه عبرة لذوي الأبصار، وسلوى لمن ساورته الأفكار، ومرشد المتحيد السادر، ومهذب الطبائع والضمائر. كما أنه معلن عز القبائل ومجد العشائر. وفخر البوادي، وزينة الحواضر، ولسان الحق الذي يقهر الباطل، وداعي المكرمات والفضائل.
وإنه كما قال جبران روح مقدّسة تتجسد من ابتسار نجى القلب، أو تنهدة لترق من العين مدامعها. استباح مكمنها النفوس، وغذاؤها الأفئدة، ومشربها العواطف. وإن جاء الشعر على غير هذه الصور فنبذة أوفى.
وأما الشاعر فهو ذلك الذي تلاعبت بحبة فؤاده نسمات الصبابة، ولمست نفسه الطاهرة أيدي الحب النقي الخفية، وصهرت مهجته شواكس الأيام، وقذائف مراد العذال، وراح بين جحيم اليأس ونعيم الأمل. مرتكزاً على لسان ميزان المقادير. فإما هوت به إلى كفة الأول وهناك الحياة المرة، وإما نزلت به إلى كفة الثاني وهناك حياة الغبطة، فينضد على القرطاس زهرات الوجدان معطّرة بشذا الحكمة، ومطهَّرة بلذعات الهوى، وندية بقطرات الحب، ومؤلفة بسكرة الشباب. تتطلع نحوها المشاعر وتقف أمامها وقفة الإجلال، وتتوق إليها النفوس؛ وتقع لديها موقع الكرامة والاعتبار.
أو ذلك الذي رأى مشهداً ارتسم في أعماق ضميره، فملك عليه شعوره، واستهوى نهاه فكلّل المهرق بلآلئ الوصف متوخياً فيه الحقيقة مشوبة بخيال هو إكمال للفن. تشخص إليه العقول، وتنتبه لروائعها الحواس.
أو ذلك الذي ثئر في أقدس مقدس لديه، وهمز في صميم روحه همزة حركت شجوه، وأنارت نخوته. فاضطربت نفسه ومفاصله، وتشنجت عروقه وأطرافه. فأفاض على الصحيفة عقيان العواطف منظماً في خيط من الأسى؛ والامتعاض يحيط بالقلوب، أو متوهجة بنيران الحماسة؛ أو التضجر. تغلي الأحشاء، وتهيج كوامن الصدور.
الشاعر هو ذلك الذي يتلمس في مغاور النفس بأشعة بصيرته مسارب إلى الروح العالية التي لا تخضع إلا للواجب والفضيلة، ويرى بعين عينه في ظلمات كهوف الحياة أنوار الموت ولفظ اعتناق التراب دون الحرية والتمتع بها.
الشاعر هو ذلك الذي في أسلة لسانه هدوء وثورة، ونور وظلمة، واندفاع وتريُّث، وكوثر وسعير، وانقباض وانبساط، ووضوح وإبهام. لا توقفه حاله، ولا يعجزه انقلاب، ولا يصدمه تضارب المواقف. قد شحذت شفرتا يراعه على مشحذة مناجزة الأهواء، ومكافحة الأغراض، وإثابة الحسنى بالحسنى، والسوءى بالسوءى. حتى ينجلي قتام التزوير والتحكم.
الشاعر هو ذلك الذي يضع للبشر صورة أضوأ من الشمس، وأجهر من الماس، وأبهر من الربيع، وأروع من خرير المياه المنحدرة من تلل الجبال، وأرهب من غسق الليل، وأهول من الموت، وأوسع من الوجود، وأعلى من الحياة، تكون لهم مرآة تنظر فيها تنازع البقاء، وتقلّب القوى، وانكسار اليتيم، واندحار الضعيف، وتذلل الصعب، وعظمة الحبيب، وإمرة الجمال، وجبروت الباطل، وقوة الحق، وجلال الدهور، وتطاول بني الإنسان على عرش الرحمن!
الشاعر هو ذلك الذي يعلو إلى قبة الفلك بروحه، ثم ينحدر إلى عمق الكون، ويسبح بأجنحة فكره بين الزرقاء والغبراء. يتملى بمشاهدة الكون. وينعم بكشف حقائق الوجود ليحلّ وثائق الحيوانية عن الآدميين، ويفك أكبال أجسادهم المصدأة، ويطلق أرواحهم من سر العادات والدساتير الساحقة لتكتنه أسرار الأبدية الآتية، وما ضمتها من أقداس وجلالات لم تبصرها الأعين، ولم تسمعها الآذان، ولم تخطر على قلب بشر!
الشاعر هو من إذا أراد أن ينبّهنا من غفلتنا وغرورنا، ويزيح من أبصارنا غشاوة الترّهات بنور الحكمة لننظر إلى الحياة وأسوارها وغرائبها بألف عين. تلا علينا من قصائده أمثال تلك المرثية التي جاد بها البصير العظيم (3) ، أو سرد علينا أبياتاً أمثال تلك المفردات الباهرات للشاعر الذي ينوه بها في قوله (4) .
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
وإذا أرادنا أن نشرف بنفوسنا على مواقف الغرام، أفاض علينا أمثال قصة مجنون ليلى (5) ومقطعات صبري باشا، وولي الدين (6) العذبة وأشباهها.
وإذا أراد أن يهيب بنا إلى الصحو المعنوي، والتلذذ بالخمرة الروحانية، والسكر بمدامة المحبة الخالدة. رتل علينا أمثال طرف ابن الفارض (7) وأضرابه.
وإذا أراد أن يندب لنا أمة وعشرة تضاغت (8) من الجوع، أو التهمها سعر جشع (9) المبتدين وأطماعهم الذاتية السافلة. أو سحقتها الحرب بأقدامها الجهنمية، أو شاءت المقادر أن تصير فنية. بتساومها تجار الاستعمار على أيدي رجالها الجاري البسطاء. أفصحنا وأروى غليلنا بنغمات حماسية تثير شجوناً، وتغلي مراجل حميتنا ونخوتنا نضارع نغمة النعيمي (10) في قصيدته (أخي!)، ونفثة شاعر الرصافة (11) في وطنياته، وحافظ (12) في اجتماعياته، أو قصيدة الشاعر الحر (13) الذي يقول في مطلعها:
ديار الحمى حيث القنا والصوارم
تحييك من عيني الدموع السواجم
وإذا أراد أن يسخر ويتألم من مجريات أبناء آدم، وكيف يلبسون الباطل ثوب الحقّ، أسمعنا أمثال قول من يدعونه ممترداً (14) في مقطوعته.
والدين في الناس حقل ليس يزرعه
إلا الألى لهم في زرعه وطر
وفي مقطوعة:
والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا
به ويستضحك الأموات لو نظروا
أو كقول القائل (15) :
حمق الألى يحكمون الناس يضحكني
وسوء فعلهم في الناس يبكيني
ما الذئب قد عاث بين الضأن أفتك من
هذي الولاة بهاتيك المساكين
فكلُّ من كان على شاكلة هؤلاء، ونحا نحوهم. هم الشعراء الذين يحفظ الزمان لهم مكانتهم، ويقدِّرهم التاريخ حقّ قدرهم، وتجلّهم الحياة بمقدار ما رحبوا لها صدورهم، وشرحوا للناس خفايا أسرارها، ونشروا طوايا رموزها.
أولئك من تتغنّى الأجيال بألحان قصائدهم العلوية. وتترنم الدهور والكائنات بترنيمات أقلامهم الروحانية، وتتفتح براعم النفوس لنفحات ضمائرهم الذكية، كما تتناقل طرائف آدابهم الأبناء عن الآباء، وتتوارث محاسن كلمهم الأخلاف عن الأسلاف.
أولئك من نودّ أن لا تخمد شعلة ذكائهم، وأن يبارك الله لنا فيهم. لنتغدى بثمار قرائحهم، ونتمتع بجَنْي مجهودهم.
وما يؤيد ما ذهبنا إليه. ما نشاهده في مقدار ما حفظ لنا، وبقي مرموقاً بعين التجلة، من أشعار الغابرين، وأقوال السالفين. فإن لنشأة بني آدم على وجه البسيطة ما ينوف عن ستة آلاف سنة نتجت من الشعراء ما لا يعلم عددهم إلا الله. قالوا من الشعر ما لو كتب ودوِّن لملأ الملايين من المجلّدات. ولكن لم يصل إلى يدنا إلا مقدار زهيد لا يبلغ عشر معشار ما قيل في تلك الأزمنة على اختلاف عصورها. ولم يعن التاريخ إلا بما كان صادراً عن نفس لقائله يدرك القارئ الجيد - أنها حساسة!، ومملى عن شعور للناطق به لا يشك المتصفح البصير أنه كيفية من كيفيات ذلك الشعور الحيّ! وحرص عليه حرص الشحيح على درهمه. يعرضه لأولي البصيرة عيِّنة للبديع المذخور، ومثالاً للجميل المنظور.
وأما ما كان عبارة عن تأليف؛ وترتيب، وترصيف؛ وتبويب. فقد قبر بالرمس الذي دفن فيه ربه، وعاد هباء بعد مثال، وأصبح أثراً بعد عين!..
هذه كلمة في ((الشعر والشعراء)) أضعها مقدمة لديواني - إن صح أن يكون لي ديوان - فإني أعلم علم اليقين أن ليس فيه ما تنطبق عليه.
ولست أعد به إلا هاذياً مهذاراً. غير أن رجائي في المستقبل شجعني وجعلني أقدِّم هذا الغثِّ كمبشِّر لما سيأتي - إن شاء الله - بعده من الناضج الثمين.
وما هذه الكلمة في الحقيقة إلا صورة لمنتحلي الأدب تدلّهم على المنهاج القديم، وتوضح ما يجب عليهم اتباعه حتى لا تزل بهم إلى الحضيض قدمهم.
الشعر صعب وطويل سلّمه
إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلّت به إلى الحضيض قدمه
يريد أن يعربه فيعجمه
والله الموفق إلى خير السبيل
ابن حماد
تقسيم الديوان:
قد تراءى لي أن أقسم الديوان ثلاثة أقسام:
[القسم الأول] يحتوي على مختارات القصائد التي نظمت في عام 40 و 41 و 42 حينما كان شعري طفلاً يتدرج في مهد البساطة، ويسير على سنن المحاكاة طبق سنة النشء والارتقاء. ولولا ما في النفس من رغبة المقارنة بين منشآت الطفولة والكهولة لما كنت أثبت واحتفظت بمنظومات هذه السنوات الثلاث - لعلمي واعتقادي أنها ليست مما يحسن أن يدخر، ويعرض.
[القسم الثاني] يحتوي على ((المشطرات))، والمخمسات، والمقطعات، والمشجرات)) (16) التي نظمت باقتراح المقترحين في أغراض متنوعة أغلبها غزل ونسيب مرتّبة بحسب تواريخ نظمها حتى الساعة. ولقد اتبعت في أكثرها رغبات أغلب الطبقات من أهل هذه البلاد. فكانت ديباجة كثير منها أشبه بديباجة (الزجل: الشعر العامي).
[القسم الثالث] وفيه تتمثل روحي، ويتكيف شعوري. حيث لم أضع فيه إلا ما نظمته من القصائد في عام 43 وما وليه - وقد أخذت النفس بعض رشدها، وبلغ العقل مبتدأ أشده وما نطقت إلا عن معنى جاش به الضمير، ومغزى توخّاه الوجدان، وشعر به القلب، وتطلبته الحال. وإن كان هناك بعض مقترحات. فهي قد صادفت هوى في النفس. فكانت كالذي أدركه وتصوره الحسّ. على أني ما زلت في شعري إلى الآن تابعاً لا مبتدئاً. لأني لم أصل بعد إلى درجة الابتكار المحض، ومارست عهد القصور؛ والعجز، وما زلت طفلاً في دور التدرج والعروج.
فإلى ذوي الأدب، وأهل الفن معذرتي في الإخلال، والقعود عن مرتبة الكمال (الا أن الكمال لله وحده). وعليه اعتمدت وهو حسبي ونعم الوكيل.
9/4/44هـ
ابن حماد
 
طباعة

تعليق

 القراءات :924  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 143
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.