شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
خلجَات حين (تهوبَر)
وتهوبر العجوز: لقب أطلقته على محدثي، فقد كان عجوزاً عرفته شاباً، فلم يكن في شبابه يتطرف تطرف المراهق، كان بريء الطفولة وغاب عني طويلاً حتى إذا رأيته وأخذت أحدثه بذكريات عن العفة التي كانت تلبسه، وعن الحب الذي كان يلبسه، فما رأيته إلا حبيباً لا يفارقه العشق.. لكنه لم يكن لديه سعار القبلات، كل عشقه كان في عمق النظرة حتى إنه ليتذكر صورة الجميلة أقبلت عليه وهو بين أحلام اليقظة ويقظة الأحلام، لم يكن نائماً وإنما كان غائماً.. أقبلت عليه فانبهر بجمالها، لم يكن يعرفها، وذهبت في لحظتها العابرة، فما زال يعشقها إلى الآن.. كأنما خيال العشق مسه مسة (الهوبر)، فأراني أطلق عليه الآن: لقد تهوبر العجوز!
فلئن كان في شبابه غير متهوبر، فهو في شيخوخة العجز أصبح (يتهوبر) وقال لي:
ـ ماذا تعني حين أطلقت عليّ هذا التهوبر؟
ـ فقلت له: أنسيت قصة ذلك العجوز.. عشق الفتاة النمساوية (مسز هوبر)، فكل عجوز يسحره الحب أطلق عليه هذا (التهوبر). إن (توفيق نسيم باشا) الرجل العجوز رأى هذه الفتاة النمساوية فملكت عليه طفولة الشيخوخة فيه، فالعجوز طفل في عاطفته.. ما أرادها زوجة.. متعة مخدع، وإنما أرادها أماً لطفولته.. يطرد الأنين بالحنين، ويتمتع بالحنان، فالعجوز طفل يستجدي الرحمة فلم يجدها إلا في هذه الجميلة، فما أصدق حب الشيخ.. لأن ما يريده منه أسمى بكثير من الذي يريده الشاب، فالعجوز حين اضمحلت الفحولة في الجسد تسعرت فحولة جديدة فيه: عمق الحب ونعيم العشق، فالعجوز.. الفحولة الجديدة فيه تظهر بارعة فارعة بهذا السعار.. سعار النظرة: يحدق ويحدق في الجمال، كأنما هو يشرب الجمال، وكأنما الجميلة تأكله، وتتسعر اللمسات باليد، فالشاب حين يلمس الجمال تأخذه نشوة، أما العجوز فحين يلمس الجمال يأخذ العمق من الرحمة.. كأنما كل اللمس لديه رحمة يعطيها لنفسه، أما السعار الذي يأخذ منه ويعطيه، فهو سعار الشفتين! فالعين واليد والشفتان هي عطاء المتعة له.
ـ وقال لي: هل عرفت من شأني ما أنا واقع فيه!
ـ قلت: رأيتك ثقيل الوطأة (واثق الخطوة).. أمد لك يدي أصافحك، فلا أجد يدك في يدي.. لقد ذهبت تلمس زهرة النرجس حتى إذا غاصت يدك في وريقاتها وتبللت اليد بالطل أخذت دموع النرجس تمسح بها دمعة من عينيك.. حتى النرجس الطاغية التياه قد ذلله العشق، كان ذلك في مشاعرك حين أخذت دموعه تمتزج بدمعك، فما الذي أصابك؟!
ـ واغتربت.. أربعين يوماً..
ولم يكن ذلك هروباً.. إنما هو الخضوع (للعلاج).. وطالت (الغربة) حيث لم أجد تلك التي أحالت (الغربة) إلى وطن.. والوطن إلى (علاقة) كأنما (التعلق) أحاله السكن إلى (نظرة) تستشف الجمال.. تشرب من رؤيته.. تسمع اللفظة الأعجمية ترتاح لها الأذن.. كأن لها رنيناً جرسه عربي.. فالفهم للفؤاد هو معنى (اللغة) فقد يستسيغ الفؤاد لفظة أعجمية يرسلها الجمال.. وقد ينصرف (الفؤاد) عن كلمة عربية لا يحس الفؤاد بتأثيرها.
فالعين آلة موصلة.. والأذن آلة كذلك.. أما الفؤاد فهو الذي يتلقى ما يصل إليه.. يزنه فيختزنه..
كنت حريصاً أن أراها ولكنهم منعوها.. لأنها الأنثى يحسبون أنها مطلب الرجل وقد نيف على السبعين مطلب لا يحبونه لها بينما لم أكن كذلك، حين كانت (العذراء) كنت (العاشق) العذري.. وحين أصبحت الأم كنت الأب (الفطري).. ما لمستها بيد.. وما لامستها بأيد..
فالقوة تضمحل أمام الجمال.. يستحيل إلى قوة جديدة.. في طهارة (العفة) وعفة (الطهارة)..
كانت مليحة.. وكانت جميلة.. وكانت (فقيرة) فالفقر كما يقول (علقة المري) حارس الجمال..
ففي إحدى الزيارات التي رحل بها (علقة) المري الغطفاني إلى عبد الملك ابن مروان.. فقال له عبد الملك وكان يعرف أن (علقة) كثير الحفاظ على بناته.. لم يزوج منه إلا إلى (العلية) من الرجال.. لعل منه بعض بني أمية..
قال عبد الملك لعلقة: ماذا تركت لبنتيك في الصحراء من حارس يحرسهما؟
قال: لقد تركت لهما الحارسين (العري والجوع) فالعارية الجائعة (لا تتبطر) ولا (تشتهي).. وليس فيها مطمع..
لقد كانت هذه الجميلة التي لم أرها إحدى بنات علقة.. ولو لم تصهرها الصحراء.. وإنما هي من بنات الثلج.. لا تغطيها البرودة.. وإنما الإنسان فيها والجسد منها.. والدم الفوار يحميها من (الثلج).. وحين أصبحت (الغربة) غربة فيها الكثير من الكربة أخذت أنشد:
وارحمتا للغريب في البلد
النازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا
بالعيش من بعده وما انتفعا
لقد كان المرض بالغيبة عنها وليس بالجفوة منها.. مرضاً جديداً أعفاني من الانشغال بالمرض القديم..
وارحمتا للغريب في البلد النازح
ماذا بنفسه قد صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا
بالعيش من بعده وما انتفعا
لقد كان المرض بالغيبة عنها وليس بالجفوة منها.. مرضاً جديداً أعفاني من الانشغال بالمرض القديم..
كان مكان ذلك شفاء بينما هو داء على حد قول أبي نواس.. وداوني بالتي كانت هي الداء..
وحين رحلت من تلك القرية.. من تلك الضاحية أنشدت:
لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى
لو أنا وجدنا من فراق لها بدا
كفى حزناً إن رحت لم أستطع لها
وداعاً ولم أحدث بساكنها عهدا
نفثة مصدور.. لا وثبة مغرور.. إنما هي غناء ينزع إلى الألم.. وينتزع المسرة بالذكرى.. والذكرى حلوة.. فقد عرضت وهي تمرضني أن تعطيني صورتها فرفضت.. وعجبت من (الرفض) فأتيت بالمترجم أقول لها: حين آخذ الصورة منك تنحصرين فيها.. فلا أراك إلا على وضع واحد.. وأريد أن تكوني الصورة التي تشغلني دائماً.. فأراك في كل الأوضاع التي لم تَبْدُ منك.. وإنما خيالي يبديها لي..
إن الصورة حصر أرفضه.. وتصوره تنويع أعيش فيه.. أراك في كل لحظة في أوضاع متعددة، فهل أجد في الصورة تلك (العنود) التي أمالت عنقها في النفق؟!
ولكن التصور يريني الكثير والكثير مما أراه لك.. وفيك.. ومنك.. وبك..
أعيش نعمة هذا الخيال، ولا أريد أن أعيش نعمة الحصر في صورة على ورق.
ـ قال: ليس هو الحب، وإنما هو حب الحب. بكيت من أجل الغالية، ولم تكن غاليتي وإنما هي الغالية عند الغالية.. بكيت من أجل أن غاليتي باتت حزينة تبكي غاليتها، ولا يحزن العاشق إلا أن يرى حبه يبكي من أجل حب.. هو حب الأخت لأختها، لأخيها، لكل غالٍ لديها. لم أشعر بغيرة: أرى الحبيبة تبكي لغيري، فالغيرة من بكاء الحبيبة لأحبائها لا أستسيغها.. فاحتكار الدمعة في عيني الحبيبة فيه التنكر لقوة الحب، وأنا أرى في الحبيبة أن تكون قوية حين تضعف، وضعيفة حين تقوى، لأن الحب في أوج قوته ضعف وفي ضعفه قوة.. كأنما هو اعتدال المزاج، هو يقبل الألم، بل الألم غذاؤه، ولا يستريح للغضب، ففي الغضب فناؤه!
ـ ثم قال: كيف تعرف عني ذلك.. حتى لا أحسبني إلا أنت؟!
ـ قلت: أفلست أنت أنا؟ أنسيت كلمتي لك: (إن تكن أنت أنا، وجعلنا الزمنا قطرة في كأسنا)، ثم أنسيت كيف قلبت المثل: ويل للشجي من الخلي، وجعلته: (ويل للخلي من الشجي)؟.. فالخلي - البعيد عن حبك لمن تحب - هو الشجي بحبه لم أَحب!
ـ قال: كلام فيه لغز.. تريد أن تتستر على ما أنت فيه!
ـ قلت: أتعني.. تلك (التهامية من نبت السراة)، أم تعني: (ماسحة البلاط؟)؟!
ـ قال: وأعني أكثر من ذلك.. تلك التي احترقت، وتلك التي ضاع وجهها في حريق البارود!
ـ قلت: نعم.. (التهامية) لا أدري عنها، (والمحترقتان) ذهبتا، فما بقيت إلا (ماسحة البلاط).. رحلت إليها حتى أراها، فكان قصد الرحلة للعلاج، وكان معنى الرحلة أن أراها، ورأيتها.. فلم تكن (ماسحة البلاط)، ولا كانت تلك التي مسحت الغربة من فؤادي، كأنما نسيت حين رأيتها أن لي وطناً غير ذلك الكرسي الذي جلست عليه!.. رأيتها أماً لطفل، وكنت أحسبها لم تصبح أماً.. حينذاك انقلب العشق إلى إشفاق، كأنما العشق قد مر في تلك اللحظة، لقد عشقتها أماً ترجع طفولة العجز في)).. كأني أنا و (توفيق نسيم) على طريق واحد، وحين رأيتها طفلها شاركني أمومتها، أشفقت، ولا تحسب أن العشق إذا ما انقلب إلى إشفاق يموت.. بل الحياة فيه أن يكون الإشفاق حباً جديداً، فذلك أن طلبت الرحمة من أمومتها، فإذا بي أعطيها الرحمة من أبوتي!
ودعتها قائلاً: أنت ابنتي وقالت: أنت أبي!
وتذكرت هذا البيت:
لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى
لو أنَّا وجدنا من فراق لها بدا
كفى حزَناً إن رحت لم أستطع لها
وداعاً، ولم أُحدِثْ لساكنها عهدا
وتذكرت قول شوقي:
الحياة الحب، والحب الحياة
هو من سرحتها سر النوى
وعلى صحرائها مرت يداه
فجرت ماء وظلاً وجنى!!
وأخيراً.. ما أحلى وأبهى طغيان الجمال، وما أسوأ طغيان الجميلة!!
ـ ومشيت من سريري أتحامل على عصاي.. أصل إلى عيادة الطبيب، ورأيتها تمسح البلاط، كأنها تعطره بشذاها. فالأناقة ليست في إغراء الجمال، وإنما هي في نداء الفتنة يصنعها الجمال في العاشق!
وحسبتني أمد يدي بتلقائية الطبع.. أرفع ثوبي عن البلاط، فارتدت اليد لا تجدني ألبس ثوباً، فقد كنت في بلد لا يلبس الثياب.
ورأيتها كلها.. بالنظرة الخاطفة، حتى إذا انتهيت لم أتصنع الإشفاق، وليس هناك معنى للشماتة. فالإشفاق لذة النذالة والشماتة نذالة اللذة! وابتعدت كأني لم أرها. وبعد يوم أرسلوها تذهب بي.. أمشي وراءها في النفق، أصل إلى طبيب ومشت (دليلة) فإذا بي أراها كلها حتى إذا أمالت جيدها على كتفها الأيسر، كأنها تصيخ أذنها اليسرى أن تسمع الصمت في النفق.. لتسمع بأذنها اليمنى النطق الصامت.. تجرني إليه، كأنما هي تمشي باثنين: جسدي ومشاعري، فالإغراء كثيراً ما ينقص به الجمال.. أما عرض الفتنة من بعضها فرسالة الجمال إلى الذين يعشقون الجمال.
حين أمالت جيدها كنت أراها الظبية العنود، فإذا بي أراها: بعضها بعضها!
تلهمني أن أكون التابع في المشي، والمستعبد للجمال، كان كل بعضها على نسق ليس فيه إلا تنافس البعض للبعض، فإنَّ تنافر الجمال في الطبيعة قد طبع على الجمال.
ماسحة البلاط.. تخيلتها تلك العظامية التي تغجرت. سرقوها طفلة، فغجروها تلعب بالعنز.. وتخيلت أني (أحدب نوتردام)!
كانت صاحبة العنز تعيش في طهر العفة لأن العنزة اللعوب تعطيها بعض ما يقيها، أما هذه - ماسحة البلاط - فلم تعط قوتاً إلا أن تمسح البلاط، ولعلّها بذلك تفوقت على (غادة الكاميليا)، فلئن قهروا جسدها بالشغل الشاق، فإنهم لم يصلوا بعد إلى أن يقهروا عفتها، أو أن يذلوا طهرها. أما غادة الكاميليا، فأجاعوها.. حتى إذا قهرت العفة وأذلت الطهر ترامى الرجال حول قدميها. منعوا عنها الرغيف، فإذا هم لا يمتنعون أن تكون السيدة عليهم.. يبذلون الجواهر تحت قدميها.
كل ذلك تخيلته، وكأنما الصمت المطبق بيننا - لا أعرف لغتها ولا تعرف لغتي - قد استحال إلى كلام جديد بابتسامة حلوة وجهتها إلى وجداني، فإذا بي أراها كلها، وأشبع من رؤيتي لها حين رأى الفؤاد بعضها بعضها، كما قال بشار: (إن الفؤاد يرى ما لا يرى النظر)!!
رأيتها كلها بالباصرة العشواء وقتها بعضها بعضها بالبصيرة الملهمة العاشقة.
لقد تركتني أحب الغربة.. حتى استحال الطن إلى علاقة!
كم هي - في رقتها كلها - قد أصبحت قاسية والحب يصبح سيداً بالقسوة منه وعليه، وعبداً إذا ما تراخت حبال القسوة إلى لين، أو ملاينة!
إن الحب لا يعرف إلا أن يكون السلطة.. يتوزعها سلطانان: الحبيب، والمحبوب، فالحب بلا سلطان فوضى شيوعية.
ـ لم تكن ظبية من ظباء الحمى، وإنما كانت ريما غسلها الثلج، عاشت في أحضان (الألب) ولعلّي بما يعجزني عن الإباحة أن أبوح بقطعة من ورقة ورد كتبها الرافعي:
ـ (أريدها لا تعرفني ولا أعرفها.. لا من شيء إلا لأنها تعرفني وأعرفها.. تتكلم ساكتة، وأرد عليها بسكوتي، صمت ضائع كالعبث، ولكن له في القلبين عمل كلام طويل.
الفرح بالجمال لذة تقتل نفسها، ولا يمسك على الجمال روح النعمة خالدة في القلب إلا الحزن به: كيوم الغيم.. ترى في سمائه قطعاً كأنها الهاربة من الليل، تختبئ الشمس فيها ثم تسطع من بعد سطوعاً يخيل إليك أنها ما توارت في خيمة الغمائم إلا لتنضو غلائلها الشفافة وتتعرى. يريد الجمال المعشوق أن يثبت فينا فيغيب عنا. إذ كان بذله يفنى منه على قدر ما يعطي، فامتنع وعز مناله.. كان جماله في نفسه بمعانيه، وما لافينا بالمعاني التي هي فينا. وكان له من اجتماع الحالتين حالة جمال قالت هي في ألم الرغبة المستمرة، أو ألم الغيظ المجنون: ومتى خلق لنا الجمال في قصر الزمن ولى الزمن، ومن المتاع بالحسن المذاب بتمنيه.. فقد ارتفع عن إنسانيتنا وجاءنا من ناحية سره الإلهي)!!
وما أجدني بعد الرافعي إلا أن أتغنى بقصيدة الشريف الرضي أنشرها أذكر بها الذين لا يتذكرون ما عندهم من تراث:
يا ظبية البان ترعى في خمائله
ليهنك اليوم أن القلب مرعاك
الماء عندك مبذول لشاربه
وليس يرويك إلا مدمعي الباكي
هبت لنا من رياح الغور رائحة
بعد الرقاد عرفناها برياك
ثم انثنينا إذا ما هزنا طرب
على الرحال تعلَّلْنا بذكراك
سهم أصاب وراميه بذي سَلَمٍ
من بالعراق، لقد أبعدت مرماك
وعد لعينيك عندي ما وفيت به
يا قرب ما كذَّبَتْ عينيَّ عيناك
حكت لحاظك ما في الريم من ملَحٍ
يوم اللقاء فكان الفضل للحاكي
كأن طرفك يوم الجزْع يخبرنا
بما طوى عنه من أسماء قتلاك
أنت النعيم لقلبي والعذاب له
فما أمرك في قلبي وأحلاك
عندي رسائل شوق لست أذكرها
لولا الرقيب لقد بلغتها فاك
سقى (منى) وليالي (الخيف) ما شربت
من الغمام وحيّاها وحيّاك
إذ يلتقي كل ذي دين وما طله
منا ويجتمع المشكوُّ والشاكي
لما غدا السرب يعطو بين أرحلنا
ما كان فيه غريم القلب إلاك
هامت بك العين لم تتبع سواك هوى
من أَعْلَمَ العين أن القلب يهواك
حتى دنا السرب ما أحييت من كمد
قتلى هواك، ولا فاديت أسراك
يا حبذا نفحة مرت بفيك لنا
ونطفة غمست فيها ثناياك
وحبذا وقفة، والركب مغتفل
على ثرى وَخَدَتْ فيه مطاياك
لو كانت اللمة السوداء من عددي
يوم الغميم، لما أَفْلَتّ إشراكي
- ونشأ طفلاً يلعب معها، ونشأت عروساً لا تنسى أنها لعبت معه، تبني بيتاً بالطين والحجر، وكأنه صبي المعلم البناء يناولها الطين والحجر. هي لا تعجن الطين ولا تجمع الحجر وإنما هو يشاركها، يصنع كل ذلك، أما هي فتبني البيت الصغير، ولو تعلمت لكانت مهندساً معمارياً، وحين تعلم هو كان مهندساً بيانياً.
وحين يتعايش الطفل مع الطفلة على أساس نوع من القرابة أو الجيرة ينمو بينهما حب يعيش طويلاً، لأنه سار على نهج الطبيعة التي نظم الله بها الحياة والأحياء، فكل نبات ينمو ببطء تطول حياته، كأنما نمو الحب بينهما بذرة شجرة أو نواة ثمرة احتضنتها الأرض فإذا هي تنمو شامخة تعيش طويلاً إذا ما تركها الإنسان لحياتها لا يعبث بها إذا ما احتطبها.
وأصبح الطفل فتى وأصبحت الطفلة عروساً تزف إلى عريسها، وكانت ليلة زفافها قد انسرقت نفسه من نفسه، كان ليلتها جماداً لا يتحرك، كل ما في وجدانه قد هرب، أو أنه اغترب، يسافر في نومه فقد غشيه النعاس حتى أن زفة العروس لم توقظه. أهي غيبوبة الغم أم غياب المشاعر حين يتأزم الطرف بها؟
وغابت عنه طويلاً لا يراها، نسيها وما نسيها، يتناساها ليذكرها، لكنه تعود أن يذهب إلى بيتها صباح العيد، يطرق الباب بحنان، تفتح الباب قليلاً، تمد أصابعها يصافحها، كأنها لا تريد إذا ما احترقت الأصابع أن يحترق وجدانها، ومضت سنون لا يراها إلا في يوم عيد خلف الباب.
وترملت.. مات زوجها، وفي حضانتها طفلان منه.
وزارها يعزيها فتقبلت العزاء، تارة ترخي وجهها وتارة تلتفت إلى بعيد، يتحجر الدمع في عينيها، فيسأل نفسه: أمن أجله تبكي أم من أجل ترملها، أم ثقل المسؤولية على الطفلين؟!
وبعد انقضاء العدة زارها، فإذا هي تنتصب، كل عضلة من عضلاتها تريك أنها صلبة، وترى في عينيها الصبر والسلوان والشعور بالمسؤولية.
وأعدت فنجان شاي، فقالت وهو يشرب من رؤية حلاوتها ومن حلاوة شايها: هذه آخر زورة لك، أرجو ألا تأتي.
قال: هكذا كرهت؟!
قالت: هكذا أحببت. ما كرهتك قط، بل كل يوم يزداد حبي لك، كأنما أنا أنت في تصاعد الحب منك لي ومني لك، ولكن.. أخشى أن تفكر في الزواج مني وهذا ما أرفضه، لأني لا أريد أن أحطم أماً لابنتك، كما لا أريد أن يطأ زوجي عواطف أبنائي، فزوج الأم على الأبناء وطأة ثقيلة، وأريدك ألا تحضر لأقطع ألسنة الناس. يقولون ما شأن هذا الرجل يتردد على هذه الأنثى، أخشى كلامهم وأخشى أكثر نظرة ابني)) إليك، لا يعرفانك إلا غريباً، وحتى لو عرفا أنك الحبيب فإنهما يعيشان في كرب أن تكون أمهما لغيرهما.
وأرسل تنهيدة ودمعة من قسوة كلامها وصدق كلامها وصداقة الحب.. فلو لم تكن صادقة في حبها لاسترخصت نفسها ألا تبوح بهذا الحب عن طريق القسوة، وامتنع عن زيارتها، ولكن بلغه أن وجهها قد احترق فأسرع يعودها، يسأل عن صحتها.
قالت: أنا شاكرة لهذا الحريق! قد أخذ مني جمال وجهي لأعيش في راحة من التفكير بالزواج، ولأطرد الكثير من الخطاب، إن وجهي الآن جميل في عيني الابن والبنت، لأنهما عرفا أني لهما لا لغيرهما.
تعال زرني بين الحين والآخر فقد عرف ابناي أنك أحد أقربائي كما عرفا أني لهما وحدهما بهذا الجمال المشوه.
قال: إن جمالك لم يشوه في وجداني، ولكن السنين أخذت مني وأخذت منك. وما أقل عطاءها حين احترق الوجدان بالحرمان، فأنت وأنا قد أصبحنا في عداد الزهاد، نحب الحب ولا نقترب من الحبيب.
وبعد أن اغترب عن مسقط رأسه سمع أنها ماتت، ولكن حبها لا يزال حياً، فالوضع كما يقول أنيس منصور (الحب الخالد هو الحب الفاشل!).
فيا حبها زدني جوى كل ليلة
ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
- سؤال قد يكون محرجاً لأني لا أستطيع أن أطرح تعريفاً له بينما هو لا يخرج عن كونه صفة عادية يرغبها كل الناس، وهي في الوقت نفسه مطلب غير عادي يعز على كثير من الناس.
قال لي من أملي عليه: إنك كتبت عن الحب والجمال والجوى ولم أرك قد كتبت عن السعادة، فلماذا لم تكتب عنها؟ ألأنك تتمتع بها وتخفي أسرار وصالك إليها أم أنك ذقت بعضها وأذاقتك بعدها؟!
قلت: إن السعادة ثوب فضفاض، ما يسعدك قد يشقى به غيرك، وبعض ما تشقى به قد يسعد به غيرك، فالسعادة حرفتها المفارقة، والمتعة بها المعانقة، والمفارق قد يعود إليك وتعود إليه، والمعانق قد يعانقك في طراوة إذا أحسست أن عناقه بدأ يتسرمد ترفض العبودية لأي سرمدة حتى لو كانت السعادة!
فالسعادة التي ينبغي أن يعيشها الإنسان ليست قوامها الترف، وليست شقوتها الشظف، هي شيء لا يأتي من خارج نفسك. إن بعض الذين يعيشون الشظف لا ترى في وجوههم إلا السعادة، لأن ما في داخل النفس طرد الاهتمام بما يكون خارج النفس. وبعض المترفين قد يتذوقون السعادة فيما ملكوا إذا أحسنوا فيما سلكوا. إن الترف حين يستوجب إلى بطر يتوهم صاحبه أنه سعيد، بينما نظرة الناس إليه تأتيه بما هو خارج النفس بتلك النظرات التي تحتقر البطر ليشعر صاحبه أنه موضع الاحتقار، وشرّ ما في الشقوة أن يحتقر إنسان، وخير ما في السعادة أن يحترم الإنسان غيره ليحترمه غيره، فتبادل الاحترام إثبات للقيمة وارتفاع بالقيم، وتلك السعادة التي تتزاوج مع متعة النفس بما هو داخلها، بهذا التزاوج يفتقد السعيد المفارقة حتى لا يكون الافتراق بينه وبين من سعد بهم وسعدوا به.
فالسعادة منحة تطمئن لها النفس، لكن المتعة بها تكبر حينما يطمئن الإنسان إلى خلقه يحدده سلوكه مع الناس.
أنا سعيد بكثير مما أشقى به لأني تعلمت احتراف الطرد.. سعيد بأني مع الناس للناس، لا أبخل بعون وإن لم يشكر، ولا أرفض الشكر لمن أسدى معروفاً إليً، فشاكر المعروف هو القادر على صنعه وناكر المعروف هو العاجز عن صنعه، الباخل به، والقدرة على شكر المعروف وصنعه سعادة.
إذا أردت أن تكون سعيداً فإياك أن تكره أحداً، ولو شعرت بمن كرهك، لأن الكراهية عطاء كالحب! لأنها إشغال للوجدان، وجدانك يشغل بمن تحب وأنت تشغله بمن تكره، فالكراهية صفة يشقى بها السعيد.
ـ الغريب عن وطنه يتمسك بالشيء القليل باعث المسرة يتلهى به عن كربة الغربة، ولكنه حين يفاجأ بشيء لم يحسب له حساباً تتصعد المسرة به إلى وضع يراه قد أصبح نوعاً من الهيستريا.. (الجنون)!
ولا أريد أن أفجع العقلاء، فما من عاقل إلا وتمر به هذه الحالة من فرحة غامرة أو ترحة محزنة، كلاهما يحدث مساً من هذه الجنة، في غمرة تلك اللحظة.
تذكر نجداً والحديث شجون
وجن اشتياقاً والجنون فنون
سافرت إلى الهند في عام 1352هـ رفيقاً للشيخ محمود شويل يرحمه الله، وبعد شهر ونحن في (ملتان) نعد الشاي ظهراً ونحن قبالة الدرج وإذا بعقالين يصعدان الدرج.. السيد عبد الله طه والسيد كامل عبد الجواد، لم أشعر إلا وأنا أقوم واقفاً أضحك بصراخ، غمرتني الفرحة بجنة، ما أحسبني إذا وصلت إلى المدينة كأمر متوقع وحين أرى زوجي وابنتي أن أكون على حال من هذه الهيستريا. ودار العناق، لحظات مرت وأنا في غمرة هذه الحالة، أضحك وأضحك، كل ما في جسمي يرقص.
وحين جلسنا هدأت وكأنه لم يكن شيء، وانصرفا، وما شعرت بوحشة حين غابا، المفاجأة في الغربة ورؤية المواطن قد سببت ذلك.
ومضت أشهر ونحن نأكل (الشباتي) و (الدال) فأوحشني (الخمير) وأنواع الأجبان والأسماك، وحين وصلنا إلى (كلكتا) رأيت الشيخ أبا بكر أبا النور المدني وأبا الكلام آزاد الزعيم الهندي والمدني المكي، فلم أفاجأ ولم أتهستر، ولكن هذه الجنة من الفرح رأيتها في السوق التجارية حين أخذني عبد الأحد شويل ابن الشيخ محمود إلى السوق الكبير (سوبر ماركت)، فما شعرت إلا وأني أهتز فرحاً.. أضحك وأضحك.. رأيت أنواعاً من الخر بز الخمير والليمون وعلب السردين وأنواع الجبن، شيء حرمت منه ستة أشهر، حين وجدته صرخت في رفيقي: (اشتر لنا من كل شيء) فقد كانت اللقمة من أي شيء هي كل الشيء ما ألذ طعمها!
ووصلنا (رانجون) واستوحشنا قليلاً وإذا بمضيفنا السيد داود آتياً يرحمه الله يأخذنا في السيارة إلى المطار، كان الناس حديثي عهد بالطائرات، أباح لهم المطار أن يزوروه وأعدوا طائرة يركبها من يشاء بروبيات عشر تحلق فوق المدينة، يعرف أن الطائرة مركب لطيف، وقفنا في المطار ننتظر هؤلاء الذين يطيرون ويعودون، الهواء جميل والناس عليهم لمعة الترف، فرؤية الترف في صاحب الشظف قد تكون ممتعة إذا كان من الذين لا يحسدون الناس على ما آتاهم الله، وفي إحدى اللفتات رأينا فتى في يده كاميرا يلبس قميصاً أخضر مغللاً بزهرة بيضاء من الفل والياسمين ولا يلبس بنطلوناً وإنما قد أطلق على نفسه أن يلبس الشورت، نظرنا إليه يعد الكاميرا يستقبل الطائرة وكان جميلاً جمال نصر بن حجاج، فتنة تمشي على الأرض.
وهبطت الطائرة، فأول من نزل منها فتاة تلبس ثوباً أخضر كقميصه على جبهتها صبغة حمراء هندوكية، نظرنا إليه وإليها فإذا هما توأمان من شدة الشبه بينهما، التقط لها صورة، أمسك بيدها، نحن لم نر الصورة في الكاميرا ولكن انطبعت لهما صورة في الوجدان، فقد كان الجمال رائعاً لم أر لوناً كلون الذهب يسطع ببياض مصفر صفرة الياسمين كلونها.. كلونه!
سكتُّ وسكت الشيخ محمود سكتة إجلال لا نزوة فيها ولا هيستريا، وكأن مضيفنا شعر بما بنا، فقال: (هيا).. وكان ذلك ضرورياً ليخفي ما بنا ولأن الجميلين قد ذهبا كأنما أخوها قال لها أو هي قالت له: (هيا)، ورجعنا إلى المنزل وصلينا المغرب وأكلنا العشاء وتمطى كل منا على سريره، ولا أدري كيف ذكرنا المنظر، فإذا بنا نضحك بصوت عالٍ، غمرتنا جنة من الفرحة حيث تمتع الوجدان بمنظر جميل، ومكثنا نضحك طويلاً ونحن نتكلم بكلام لو دوّن لكان عجباً، وهدأت قليلاً فقد ذهبت الجنة، أقول للشيخ: (لقد أنستنا هذه صلاة العشاء، ولعلّك نسيت راتبك كل ليلة) فاستغفر وقام يتوضأ كما توضأت، فالوضوء غسل للنفس، أنسانا ما كنا فيه، وبعد صلاة العشاء قام الشيخ إلى تهجده، وصار كل منا يطرد أن يذكر ذلك بعد.
فالغربة فاعلة ذلك والرؤية والمفاجأة لما يسر انفعال يحدث ما وصفناه، فهل جرب قارئ ذلك؟!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1116  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 763 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثامن - في مرآة الشعر العربي - قصائد ألقيت في حفل التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج