شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (28)
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. أكتب هذه الذكريات فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
أربعة ((امتياز)) في أسبوع واحد
المدرسة.. المعلمون بلا رواتب.. النجاح..
وهذا العنوان الذي وضعته، يعني ما أكتبه ولا أعني بالترتيب، وإنما هو ما أشرحه بعد. مدرسة واحدة ذات قسمين، الراقية والتحضيرية وبينهما فصل اسمه التأهيل، يعني المؤهل يصل به الطالب إلى الراقية، فالتحضيري ثلاث سنوات، والراقية أربع سنوات، والمنهج يعني اسم الدرس لا تعين المادة، فالحساب من معرفة الأرقام إلى الأصول حتى النسبة والتناسب والربح البسيط والربح المركب، ودرس ليلي يتبرع به مدير المدرسة، الرياضي البارع والتقي الورع السيد حسين طه، نكمل الحساب رياضة عليه الجبر وما إليه اللوغاريتمات وما إليها والنحو كذلك والجغرافيا والتاريخ أيضاً، والمنهج ليس مكتوباً ملزماً للمعلم وإنما هو التزام المعلم به وبما يفيد.
المدرسة أسسها السلطان عبد الحميد فأخرجت أجيالاً وتخرجت أجيال على أيديهم، وكما قلنا من قبل فالمدارس التي أسسها الاتحاديون رديفاً لإِعدادية السلطان وترادفها الكتاتيب، قد محت الأمية، من أجيال قبلنا وأجيال بعدنا، فإذا أبناء المدينة هم الركيزة لما تتطلبه الوظائف.
والمعلمون هم عبد القادر الشلبي العميد، كان في المدينة يكتب في جريدة الحجاز حرباً على ثورة العرب ولكن المنتصرين لم يعاقبوه. بل عينوه عميداً للمعارف، ولعلّ كامل الخوجة، وكان صاحب جاه.. تاجر كبير، أصله شامي من دمشق ابن عم صادق الخوجة وعادل الخوجة صاحب الشركة الخماسية، فقد كان بيت الخوجة في المدينة وجدة والشام وبيروت ودمشق من أكبر التجار حتى قالوا أيام الحرب العالمية الأولى ((اللبنانيون يأكلون الكرسِنّة ولا يجدون الذرة والشعير وخيل صادق الخوجة علفها شعير)) لعلّ كامل الخوجة كان الوسيط أو الشفيع ليكون عبد القادر شلبي سالماً من العقاب كما سلم الألفا هاشم والشيخ العمري أو لعلّ احترام العلماء جنبهم الشقاء، ومدير المدرسة الراقية والتحضيرية هو السيد حسين طه يعاونه ابن عمه السيد أحمد صقر أما بقية المعلمين فالسيد محمد صقر والسيد ماجد عشقي والعريف محمد بن سالم والأستاذ سعيد المدرس والشيخ محمد الكتامي والمراقب أبو بكر جاد، لنا صلة الكتامي (لنا صلة رحم به) ثم هاشم كماخي.
هؤلاء المعلمون كانوا الآباء والتلامذة كانوا الأبناء، مضت عليهم اشهر بلغت ثمانية وعشرين شهراً لا يقبضون رواتب ولكنهم لم ينقطعوا عن تعليمنا، مع أن الشريف شحات، ابن المدينة وأميرها التقليدي والقائمقام فيها موظف أثنيت عليه حين صرف خمسة عشر ألف جنيه ذهباً ليحقق رغبة الملك عبد العزيز في تطويل الحصار ليدخل ابنه الأمير الكريم محمد بن عبد العزيز يوم السبت التاسع عشر من جمادى الأولى سنة 1344هـ في سلام لم تسفك دماء ولم يضم أحد، هذا الشريف شحات هو يملك المال لم يلتفت لحظة ليصرف راتب شهر قد يبلغ خمسين جنيهاً لمعلمي أبناء المدينة ومثله عبد الله عمير ولديه مال صرف أكثره في إعاشة الجيش، لم يفكر يصدر أمراً بصرف راتب المعلم أو يتبرع هو به، والمحاسبجي مدير المالية عراقي اسمه زكي بيك، أصبح ذا مكانة لأن كبار الضباط باشوات عراقيون يحمونه وكأنه الأب لهم، هذا المحاسبجي كان يستطيع وهو يصرف رواتب الموظفين لديه أو رواتب الضباط، أن يصرف للمعلمين بعض رواتبهم، ورئيس كتابه الذي أحترمه طالب توفيق كان يستطيع أن يكلم المحاسبجي ليصرف رواتب، ولكن كلهم انصرفوا عن الصرف، كأن الأمر لا يهمهم وصبر المعلمون ثمانية وعشرين شهراً لا يقبضون راتباً.
العميد له عون من كبار الخوجة ومن العامة الذين يعشقون حديثه عن الحب للرسول صلَّى الله عليه وسلم. وحسين طه في غنى لأن أباه السيد طه ثري من كبار التجار، فلا حاجة يضام بها، والسيد أحمد صقر له مقررات في التكية المصرية، دقيق... وخبز... وغير ذلك، تقرر له ذلك حين ورثه من أبيه السيد مصطفى صقر أحد كبار العلماء في الأزهر هاجر إلى المدينة فقد كان نديداً لسليم البشري وحسون النواوي ومن إليه، والسيد محمد صقر يعان من التكية المصرية وقد سخر الله له الفران محمد عباد يبعث الخبز أرغفة كافية من الحنطة الصافية حتى قالوا بيت السيد طه يخلطون الحنطة بالشعير والذرة ومحمد صقر يأكل الرغيف صافياً لا يخلط بشيء.
والعريف بن سالم له دخل من الكُتَّاب، وعنده دخيلة من بعض ما ترك أستاذه العلامة العزيز بن الوزير، لقد نسيت أهو تونسي أم جزائري أم مغربي، فالعريف بن سالم جزائري عقبي حتى مصطفى الصيرفي والد الشاعر حسن الصيرفي ابن عمه له عقبى يسكن في البيت الكبير في زقاق البدور خلف المدرسة بجانب بيت الرفاعي هو بيت العزيز بن الوزير أستاذ شيخنا السيد محمد صقر. ومن أساتذته البشير الإبراهيمي والطيب العقبي من الذين نهضوا بثورة الجزائر ثورة المليون شهيد، لم يصرفهم عن الجهاد مصال الحاج الذي يزعم أن الجزائر أرض كفر لا تجوز فيها الصلاة، كما هم لم يخضعوا لعبد الحي الكتاني الذي زعم أن ثوار الجزائر ما هم إلا المحاربون من أجل الأرض كما قزمان.
وسعيد مدرس لديه ما يكفيه من احترام الناس له ومن بقية باقية، عطاء الرخاء يوم كان أحد الذين علموا عبد الحميد بدوي باش في دار المعلمين في الساحة كان اسمها ((دار جونة)) مالكها مظلوم باشا المصري الوكيل عليها تلميذها السيد أحمد صقر، ومن المفارقة أن يكون أحمد صقر تلميذ هذه المدرسة وابنه محمد تلميذاً فيها. والشيخ محمد الكتامي حافظ القرآن عالم القراءات يأتيه رزقه من حيث لا يدري إنما هو احترام القرآن من الذين يحترمون القرآن.. أما السيد ماجد عشقي فأبوه شاعر المدينة ورئيس بلديتها وأحد أعيانها النديد لعبد الجليل براده وإبراهيم مسكوبي، هذا السيد ماجد لم يقبض راتباً ثمانية وعشرين شهراً، رأيت ثوبه من الدود وعليه رقعة على المرفق، كان معلماً بحق ومربياً بحق كيف عاش؟ لقد عاش حين اقتنى الكتاب ((تذكرة داوود الأنطاكي)) تعلم تقطير الناتحة والحبة السودة والورد وما إلى ذلك من الأعشاب والزهور وما إليها التي يقطرها يبيع ذلك للعطارين، ولم يكن قد تزوج زوجته الثانية أم بنيه الأفاضل الآن، لأنه مكث ثمانية عشر عاماً لا يريد الزواج حزناً على زوجته الحبيبة إليه عمة زين العابدين توفيق المعروف لديكم الآن المقيم في جدة وجدّه زين العابدين توفيق عمه زميلنا خون محمد أياسي توفيق، صهره ابننا الدكتور أمين كردي زوج الحفيدة الغالية أمها ابنتي الكبرى، ماتت هذه الزوجة نفساء من كرب الحريق الذي شب في القلعة، ماتت هذه الزوجة حرم السيد ماجد.
وحريق القلعة شب في ظهر قائظ، وقد كنت مع أبي نصطاف في التمار، مع حليفنا أحمد بن جميعان العمري المسروحي الحربي، وعجيب أن الحريق ما شب في البنادق ولا في طلقات الرصاص وإنما سعيره كان في حريق القنابل والديناميت وما أكثر ذلك في القلعة من مخلفات فخري باشا، ويقذف الحريق القنابل تمنعها الريح أن تشرق فلم تصل شظية إلى الحماطة أو الساحة حماية المسجد من الله، ولم تصل شظاياها إلى الجنوب فلا يمس سوق الحبابة ولا مسجد الغمامة، فقد اتجهت الشظايا إلى الجنوب الغربي فلا تصل إلا قبل حوش كرباش، سلم كتاب القبة وبيت جمل الليل والداغستاني والياس والكردي ومسجد الإِمام علي لم تصل شظية إلى كل هذا، وإنما اتصل الحريق والتدمير ينال بيت السيد علوي السقاف وحوش سرقان وبيت ذياب ناصر حوش كرباش وحوش العبيد كان بيت المفتي الداغستاني البارز على حافة المناخة وأمام السبيل قد حجز الشظايا، وما كاد يؤذن العصر حتى خمد الحريق ولكنه في اليوم التالي اشتعل الحريق على الصورة نفسها، فالسبيل أمام القلعة فيه مقر الحاكم العسكري والشرطة لم تصله شظية.
ومن أشعل الحريق؟.. قالوا: إنه عدم الوقاية.. ولكن التهمة قد رزئ بها الضباط عبد المحسن الطيب وأخوه عبد العزيز وهما تونسيان، يتحدث عبد المحسن حين نلقاه فاخراً بأنه كان ضابط بحرية كما يفخر بأن عبد العزيز الثعالبي من أخواله، وعبد العزيز الثعالبي هو زعيم تونس طريد الاستعمار إذا ذكره أستاذنا محمد عبد القادر الكيلاني قال ((بيه.. بيه.. عزيز تونس)) لجأ إلى مصر فاحتضنته مصر لأن مصر تحافظ على القيم ولا تسأل عمن أهدر القيم، فقد كان الثعالبي في مصر ملء السمع والبصر، لأن عبد الرحمن عزام كان المحتضن والنصر لكل عربي مغربي.. فهل يكتب التاريخ للذين نسيهم المؤرخون؟
وسجن عبد المحسن الطيب هو وأخوه ولم يثبت عليهما شيء. إن القلعة كانت مصدر التموين للسلاح فالحاكم يوزع البنادق والطلقات حيث لم يكن الذهب فاشترت القبائل هذا السلاح وأكثر الذين اشتروه قبائل نجد، كأنما هو عدة ينتصر بها جيش عبد العزيز بن عبد الرحمن.
كما أن بعض الضباط الحراس يقتاتون من بيع البنادق والطلقات.
التلميذ والنجاح
ودخلت المدرسة أفرح بها، لأنها أخرجتني من الكتّاب وفي أول يوم دخل الفصل أستاذنا مدير المدرسة السيد حسين طه، سألني ما اسمك؟ قلت محمد حسين زيدان قال أنت ولد العم حسين قلت نعم، من ساعتها تعهدني يرعاني كأنما رعاية صهره وابن عمه السيد محمد صقر قد وصلت إليه فقد سبق السيد محمد صقر بالرعاية والحفاظ قبل السيد حسين، أهي رعاية النجابة لي أم رعاية القربة للعزوة فكلنا من صعيد مصر؟ فالسيد محمد صقر من أشراف قنا فرع المخادمة والسيد حسين طه من أشراف قنا فرع البطاطخة كلهم حسينيون جمازيون جدهم الأعلى الذي هاجر إلى مصر وأقطعهم السلطان مديرية قنا فهم الأكثرون فيها الآن لا تشاركهم إلا قبيلة الحميات وهم من جهينة كان أحد الجمازين الحسينيين أمراء المدينة في زمن طال، فهم وأشراف العوالي الشريف شحات ومن إليه أبناء عم.. كلهم من جماز وأما كاتب هذه السطور فمن قرية أهلها عرب صليبة كان اسمها القطيعة سماها الشيخ، محمد بخيت مفتي الديار المصرية الأحمدي نسبة إلى الأحمدة، لا نسبة للسيد أحمد البدوي، سماها المطيعة كانت قطيعة من الإِقطاع فأصبحت المطيعة حين طوعها رفع الظلم عنها بعد الاحتلال الإِنجليزي.
ولذلك قصة بعد..
لقد كنت تلميذاً ناجحاً رغم حمى يثرب التي هي حمى ((الغب)) أو الملاريا كانت ترهقني أغيب عن مدرستي أياماً ولكني أي درس لم يفتني لأن أصدقائي المحمدين محمد سالم الحجيلي ومحمد إياس توفيق ومحمد نيازي أجد عندهم الدرس والمذاكرة فإذا أنا إلى نجاح. ولكن هذه الحمى أخرتني عن امتحان راسباً لا أرقى إلى الفصل الثاني من السنة الأولى غير أن أستاذ السيد محمد صقر أبى أن أكون راسباً فكلم المدير صهره السيد حسين طه أن أرقى إلى الفصل الثاني بصفة المستجد، فأدخلني الفصل كأنها المقابلة الشخصية فإذا أنا أرقى ولا أرسب، ومرت أيام غاب أستاذ الفصل وناب عنه أستاذنا أحمد صقر وقرأ تلميذ تعريف النهر.. ((ماء عذب يجري ليصب في بحر أو بحيرة أو يفيض في الرمال)) وألقى الأستاذ السؤال على ابن عمنا حسن عبد الحافظ يرحمه الله: ما هو الماء العذب؟ فقال حسن: ((هو الموية اللي تجري كده.. كده)) وأمال يديه يعرف الاعوجاج، وسكت التلامذة وعددهم عشرون، أما أنا فرفعت يدي أقول العذب يعني الحلو، فأمسك الأستاذ الدفتر المعد للجائزة تلطيفاً تحسيناً امتيازاً، فكتب أمام اسمي امتياز أعلى جائزة. وفي اليوم الثاني جاء أستاذ السيد محمد صقر وسأل التلامذة وقد انضم إلى فصلنا السيد أحمد العربي والسيد عثمان حافظ وهما في أعلى درجات وأكبر سناً مني، سأل الأستاذ عن الكرسي أهو عربي أم أعجمي؟ فأجابوا إنه أعجمي، ورفعت إصبعي أعترض أقول إنه عربي قرآني وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ (البقرة: 255) وكتب الأستاذ الامتياز، وفي يوم آخر من الأسبوع نفسه وفي درس السيد أحمد صقر قرأ من وفاء الوفاء للسمهودي وإذا فيه ((لقد كسفت الشمس في يوم السادس عشر من الشهر)).. فاعترضت أقول للأستاذ هذا غلط خطأ فقال دون تدبر منه وهو العالم: السمهودي يغلط؟ قلت الناسخ أو المطبعة هما المخطئان الشمس لا تكسف بقدر الله إلا والقمر في المحاق في آخر الشهر وضحك الأستاذ وكتب الامتياز.. وفي يوم الأربعاء سأل الأستاذ محمد صقر عن الكلمة ((تفاوت)) أهي اسم أم فعل كلهم قالوا فعل غرتهم التاء من حروف ((أنيت)) فرفعت إصبعي أقول هي اسم والعلامة حرف الجر والتنوين ((من تفاوت)) وكتب الأستاذ الامتياز. ويوم الخميس اصطف التلامذة توزع عليهم الجوائز فإذا الزيدان أربعة امتيازات وصفقوا وخرجت شاكراً أبتعد عن زفة الأصدقاء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1168  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 708 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج