شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة.. رحلة في الزمان والمكان (2)
جغرفة الإنسان بعد جغرفة المكان
والذكريات ليست إلا جغرفة للأرض، أرض المدينة كما أنها مشاهد تاريخية، ليس القصد منها أن تكون مذكرات شخصية، فلن أقحم نفسي متحدثاً عن شخصي وإنما هو الحديث عن المدينة المنورة في عهد الدولة العثمانية العهد الحميدي والعهد الرشادي ثم عهد الأشراف ثم العهد لهذا الكيان الكبير المملكة العربية السعودية، فالذكريات تاريخ من التاريخ عن الأحوال والاتصال والانفصال والرجال وكيف ابتليت بمن حولها وكيف طاب لبعض أهلها أن يعيشوا الفصام بلا خصام ما أشد قربهم لبعض حين لا تكون المادة جراية أو صدقة وما أقوى فصامه حين تكون المادة أحباباً يتقاربون وبالعنعنات كثيراً ما يتباعدون.. كتب هذه الذكريات ليس فيها (( الأنا )) وإنما كلها الـ (( نحن )) .
وجغرفة المدينة عن طبيعة الأرض سبق ذكرها، وبقيت علينا جغرفة السكان والمجتمع، فمن العجيب أن تكون مدينة واحدة يعرف سكانها كل سكانها يتقابلون أو يتزاورون، فتجد الأفندي من الذين هم داخل السور، يختلف عن أكثر الذين هم خارج السور، لا يتفقون على لباس واحد، فالذين هم من داخل السور يتزيون بالجبة والعمامة والحزام الثمين والرقيق، كأنه جزء من (الشاية)، وأحذيتهم غير أحذية أولئك، جوالد وجزم، ما كانت تستورد لأن في المدينة صناع الجزم (الكندرجية) (عارف جمال سعيد أفندي.. وغيرهما)، أما الذين خارج المدينة فإن لباسهم يختلف أيضاً، فسكان حوش الباشا وأكثر السكان في شمال غرب المدينة أو في شمالها يتزيَّوْن بالعقال المقصب صناعة محمد القين والأشمغة والغتر، سواء كانت من الشاش أو من الغباني المطرز بالحرير الخفيف، أما غرب المدينة (زقاق الطيار والسيح والعنبرية) فيحتزمون بالكشميري أو الدسماك، والتياهون يحتزمون بالسليمي ويعتمون بالبر يسمى الأحمر من الحرير، وأحذيتهم من صنع النجديين سواء من يصنعها داخل المدينة أو من يستوردها من بريدة يطلقون عليها (الشرقية)، لأنهم يطلقون على نجد اسم الشرق، وعلى سكان المدينة من هؤلاء اسم ((الشروق))، وأما جنوب المدينة فمشالح وعمائم من الشيلان، وهذا في الأكثر، وكما اختلفوا في الأزياء، اختلفوا في الآكال، داخل السور الخضروات والمحاشي والكنائف واللقيمات والمشويات.. ونسينا سكان باب المجيدي، فأزياؤهم تختلف والآكال مغربية (الكسكوسة وكعب الغزال ولحم بين نارين) وآكال تركية أشبه ما تكون بآكال الأفندية داخل السور، ثم الآكال التركستانية الرز البخاري واليغمش والشوشورة والفرموزة.. الخ، فالتركستانيون من بخارى وطاشكند وانديجان كانوا أهل ثروة بنوا بيوتاً كالمغاربة كبعض الهنود، فلم نعرف في أيامنا الأولى التنور والتميز لأنهم لا يحتاجون إلى هذه المهنة، ولأن كل بيت في المدينة يعجن دقيقه حتى يختمر ثم يصنعونه أقراصاً يخبز في الأفران، والأجرة للفران (حنانه) قرص صغير..
ويخضعني هذا إلى أن أجدول ساكن المدينة بالألقاب التي يحملها، ترك من الأناضول. تركستان من تركستان. مغاربة. نجديون من القصيم الذين كان منهم عقيل وهو جيش قوة للحكومة، أو تجار يبيعون المشالح والدخان العمايدي حتى المضير والعطور والعود. وصعايدة، كثروا أغلبهم من أسيوط ومن قنا، وإن كان بعضهم من الفيوم يعدون من جملة الصعايدة، ثم السادة العلوية جمل الليل والصافي وبافقيه والحبشي والجفري والسقاف ومن إليهم، النخاولة في حوش السيد أو في الزقاق المعروف باسمهم أو في العوالي وقربان وقباء والعيون فهم النخليون يعملون بالفلاحة، وداخل المدينة يعملون جزارين وخضرية..
لعلّي أنكر العيب عليهم كسلوك وإن كانوا بالاسم شيعة، من الشيعة الإِمامية ولعلّ الكثير لا يعرفون أن المدينة وما حولها كانت بيت التشيع أيام جعفر الصادق وأخيه إسماعيل وابن عمه عبد الله المحض وابنه محمد (زكي الدين) الذي قتله المنصور عباسي قتل العلوي، يعني هاشمياً. فبنو أمية لم يقتلوا إلا اثنين الحسين وحفيده زيد، أما العباسيون أبناء العم القريب فقد أسرفوا في قتل بني عمهم، شهوة السلطان والدفاع عن السلطان..
فالمدينة عدة مدن وعدة أجناس، ومن عجب أن (التكارنة) تأقلموا فيها، وأكثر الآخرين لم يتأقلموا إلا بعد حين، إن الذين اتسع بهم البناء هم المهاجرون إلى المدينة، حتى إن وادي مشعط (باب المجيدي) كان أهل المدينة الأوائل يبتعدون عنه ولكن اتساع الهجرة اتسع به البناء، فالمغاربة والأتراك وغيرهم بنوا في وادي مشعط، ونعود إلى الأحوشة خارج السور بعد، في الشمال الغربي على الحزم دون سلع (حوش خميس، القشاشي، الصديقي، حوش السيد، حوش الرشيدي) كما أن بعضهم استغل بعض الأمن فبنوا تحت سفح الجبل أو في شرق الجبل على الهضبة الضرس من سلع، كبيت توفيق عبد المطلب وبيت السيد علوي المنفلوطي وبيوت أخرى كبيت الداغستاني حسن ثم بيوت العطن وفي شرق الطريق من باب الشامي بنوا بيوتاً أشهرها بيت سليم (مصطفى) ثم بيت الجلوني، إن بيت سليم كان خارج باب الشامي على طريق التمار وشمال سقيفة بني ساعدة وغرب باب المجيدي، سكنه في آخر أيام بصري باشا وأول أيام فخري باشا الشريف علي بن الحسين وأخوه الشريف فيصل، وقد كانا يعدان للثورة مع بعض قبائل المدينة ومع أهل العوالي أشراف بني حسين، وغريب أن أعرف ذلك ولما أبلغ العاشرة من عمري ولم يعرفه فخري باشا.. وللحديث صلة.
ومن الغريب أن الحضرميين كانوا في مكة وجدة ولم يكن منهم أحد في المدينة، أعني من غير السادة العلوية، طوال مدة الأتراك ولكن أيام حكم الأشراف وجدنا ثلاثة من الحضارمة، بادرب.. باظبي.. باعامر الفوال، ذلك أن أهل المدينة ليسوا في حاجة إلى هؤلاء، وهؤلاء يسكنون البلد الذي هو في حاجة إليهم، أو الذي يستطيعون فيه ممارسة البيع والشراء، وما أكثرهم في جدة ومكة، فأصبحوا من خير أهلهما، تأقلموا وأقلموا..
الأحوشة
وذكرنا الأحوشة داخل السور، ولنذكر عدداً منها خارج السور، في شمال غرب المدينة على الحزم من باب الكومة ودون سلع، حوش خميس حوش القشاشي وسكانهما عرب من قبائل شتا، بيت الجيار، الصرير، ابن مطلق، ابن فضلون، ثم حوش الرشيدي، قالوا إنه ملك البرادعي الجهيني، وقد خلا من السكان، ويقابل هذه الأحوشة، حوش الصديقي، أو هو على خضرة ومن أبرز سكانه محمد القين ورشوان، وبعده إلى الغرب الحوش المستقل بذاته حوش السيد، سكانه ينسبون أنفسهم إلى مزينة، وهم نخليون كان أنظف الأحوشة لأنه لا تدخله الحيوانات فهو نظيف يرش بالماء، وفي الليل يجتمع الرجال في وسط الحوش والنساء أمهات وبنات يجتمعن بعيداً عن الرجال يتغنين بالرجيعي، يضربن الدفوف، طيران لا تستورد، فهم يصنعونها، ومن الطرف الظريفة أن شاعر المدينة وهو في مكان الرئاسة ومن سكان زقاق جعفر يخرج إلى هذا الحوش ومعه الأستاذ أحمد عابد الشاعر أيضاً التابع للأفندي أنور والتلميذ له، يخرجان سوياً يدخلان حوش السيد، يجلسان وحدهما بعيداً عن النساء قريباً من الرجال ليسمع الأفندي أنور الغناء إِنه ابن العقيق عامل الوراثة فيه قوي، وسمع مرة مطلع هذه الأغنية (يا سيد.. ياللي ساقك يشبه الماء.. ويش أسوي كيف يخرج الماء من الماء) فأطربه هذا المعنى، يقول لأحمد عابد ما أحسن أن ينظم في قصيدة، وقال أحمد عابد يذكرنا هذا بقول الشاعر:
صاح في العاشقين يالكنانة
رشأ في الجفون منه كنانه
بدوي بدت لواحظ خديـ
ـه فكانت فتّاكة فتانه
خطرات النسيم تجرح خديـ
ـه ولمس الحرير يدمي بنانه
وتأتي الأحوشة الأخرى زقاق جعفر في حوش العبيد ثم أحوشة زقاق الطيار حوش كرباش. خير الله، قمر، وردة، الجربي، الرشايدة، شلبية، السمان، فسيح، العريضة، والقماش، أما العنبرية فحوش سنان، أبو جمر، الراعي، أبو دراع، مناع، ولعلّي نسيت بعضها، ثم جنوب المدينة حوش منصور المراكشية، المحمودية، الطيبية، الجديدة التاجور، والتاجورية، والبربورية، إن هذه الأحوشة بناها الحذر والخوف كل حوش كأنه حصن والسكان لديهم البنادق لأن حرمة المدينة كان يهتك الخصام بين البادية والحاضرة، وبناء السور ما كان إلا حرزاً وعن خوف، الأبواب تغلق في الليل وسمع الرجال مرهف..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2121  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 682 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.