مذكرات عن الملك عبد العزيز
(1)
|
.. وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ.. وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ..
|
في الساعة الثالثة
(2)
من مساء يوم 5 ربيع الثاني سنة 1354 تشرفت وزميلي بمقابلة صاحب الجلالة في قصره بالرياض وكان في مجلس سمره جالساً على أريكة من الخشب عليها مقعدة، ووسائد كبار، وحوله بضع أرائك، أو دكك خشبية مفروشة فرشاً بسيطاً، وقد بسطت بين هذه المقاعد بضع حصر فكان مجلساً ساذجاً بعيداً من تكلف وزخرف، وبعد السلام على جلالته أخذنا مقاعدنا بين يديه، ولم يكن في المجلس سوى الشيخ يوسف ياسين كاتم سر جلالته ومستشاره الخاص، فأقبل علينا، أطال الله بقائه، بلطفه المعهود يسألنا عن أحوالنا، ويذكر لنا في لطف وبشاشة بساطة الرياض وخلوها من المغريات وأسباب المدنية، وعدم تمتعها بسوى الهواء اللطيف والماء. فكانت مقابلة ملأت نفوسنا أنساً وسروراً، تلا ذلك نزولنا في القصر ثم افتتاح المدرسة وزيارة جلالته لها في يوم افتتاحها، وقبل ذلك دعانا واستشارنا في طريقة تكوين المدرسة وخصوصاً بشأن الأطفال الصغار الذين لا يزالون مبتدئين عند المطوع: في القصر أيضاً قائلاً بمنتهى البساطة إنني رجل بدوي لا أعرف شيئاً من هذه الأنظمة فتذاكروا أنتم ويوسف وخالد (أبو الوليد القرقني). |
وفي الأربعاء 16 ربيع الثاني سنة 1354هـ افتتحنا مدرسة الأمراء بالرياض وقد حضر في اليوم الأول جلالة الملك حفظه الله وحضّ الأمراء على الجد والاجتهاد وأوصانا بتعليمهم الشيء المفيد وعدم إضاعة وقتهم فيما لا يفيد كالمحاورة بين السيف والقلم ونحو ذلك، وفي يوم الثلاثاء 23 منه بلغه تهاون بعض الأمراء في الحضور فجاء إلى المدرسة وعلامات الغضب بادية على وجهه ووبخ الأمراء والكبار منهم بصورة أخص وهددهم بسحب السيارات منهم وطرد أتباعهم وحبسهم وأخطرنا إذا لم نخبره كل يوم بحضورهم وغيابهم وكل أسبوع بسيرهم في الدروس. |
1 ـ وصف مجالس جلالته كيف يقضي جلالته يومه في القصر بالرياض.
|
يجلس جلالته ضحوة كل يوم إما في المختصر أو في المربعة الكبيرة إذا كان لديه بعض الوفود، ثم ينتقل فيجلس أيضاً في ديوان الشعبة السياسية ينظر فيما يعرض من شؤون الدولة، وتعرض عليه البرقيات التي لا تكاد تنقطع ويستمر في مجلسه هذا، إلى قبيل الظهر بنحو ساعة ثم يدخل إلى الجناح الخاص به ليتناول الغداء ويستريح قليلاً وقد يضطجع قليلاً ولا يأتي عليه العصر إلا وهو متطهر متطيب وإذا أذنَّ حضر إلى مقصورة الصلاة المطلة على مسجد القصر وصلى جماعة ثم يخرج إلى المختصر، ويجلس ساعة تقريباً ثم يخرج بسياراته يتجول قليلاً خارج البلاد، وفي زمن الصيف يقضي هذا الوقت من قرب الظهر إلى المغرب في البديعة وهي ضاحية تبعد عن الرياض نحو ثلث ساعة بالسيارة، ويجلس عقب صلاة المغرب في جناحه الخاص يجتمع ببعض أهله وأطفاله يداعبهم ويؤانسهم ثم يأخذ في الاستعداد لصلاة العشاء وعقب الساعة الثانية
(3)
عربي يصلي العشاء ثم يخرج إلى السطح في الصيف وأحد المقصورات في الشتاء لقراءة الدرس. يقرأه بين يديه عبد الرحمن القويز، إمّا تفسير ابن كثير أو البداية والنهاية أو غير ذلك من الكتب. برهة يسيرة ثم يغادر ذلك المجلس إلى مجلس سمره فيدخل عليه بعض الخاصة ويفيض جلالته في الحديث، ويعدل بين جلسائه فيه، وينصت ويقبل على من يكلمه وعندما يريد جلالته القهوة يطلبها وفي آخر المجلس يدعي لسفرة من الفواكه متنوعة وقد تستبدل في زمن الشتاء بالحليب وهو يدعوه تسالي. |
ويشتمل مجلس جلالته على سماع أخبار الراديو الذي يلتقطها، أما الشيخ يوسف يسن أو رشدي أفندي ملحس وهو الغالب ما دام في الرياض يأخذ عنها مذكرات ثم يقرؤها على جلالته، وتعرض عليه البرقيات التي ترد أيضاً يعرضها رئيس ديوان البرقيات وإذا كانت هناك معاملات تعرض أيضاً على جلالته في بعض المجالس ويبدي فيها رأيه، كثيراً ما يشير بأخذ رأي الجهات المختصة والتحر واختيار الأشخاص المحايدين الذين لا مصلحة لهم في أحد الطرفين، وقد سمعناه ليلة ينفي ظلم بعض العمال ويتأكد منه ويقول الناس لا يعرفون ويقولون هذا عمل ابن السعود ويتظلمون منا. وبين الساعة الرابعة والخامسة يدخل جلالته إلى حرمه ويمكث إلى قرب الساعة السادسة ثم ينام نحو ساعتين، وبعد ذلك يستيقظ ويتطهر ويصلي ويقرأ القرآن إلى الفجر حيث يخرج ويصلي في مصلاه ثم يرجع ويبقى إلى قرب طلوع الشمس أو إلى الضحى ثم يصفر أي ينام وقت صفرة الشمس زهاء ساعة، ثم ينهض ويلبس ويتناول فطوراً خفيفاً ثم يخرج إلى المختصر كالعادة - والعشاء يكون عقب جلسة المختصر وجلالته يراعي هذا النظام بدقة ولا يخلفه. |
في ليلة أول رمضان أرسل لنا جلالته أحد رجال خاصته (ابن مسلم) يسألنا عما قد نحتاج إليه بمناسبة رمضان فشكرنا عطف جلالته ودعونا له بطول العمر، ثم وما أن غربت شمس تلك الليلة حتى أرسل إلينا كسوة خاصة تتكون من بشت شمال وزيون جوخ (وعقب الأخير)
(4)
تشرفنا بحضوره مجلس سموه وبينما نحن نستمع إلى أحاديثه الشيقة دخل أحد الحجاب يستأذن لطارىء من الأحسا تحمل رسالة لجلالته فأذن له بالدخول وبعد أن سلم قدم صرة نقود لجلالته فلفت نظره إلى أنه مخطىء وإن هذه النقود لسعود ولي العهد وكان جالساً فذهب الرسول بالنقود لسمو الأمير سعود ثم عاد جلالته فطلبها وشرع بفضها فقام له الشيخ يوسف وقال الخدمة فرده ومضى في حلها فأسفرت عن مائتي ريال 200 فابتسم جلالته وقال أتفعل كما كان يفعل بعض الخلفاء وكان يظهر على جلالته شيء من الخجل لكون النقود لم تكن دنانير على خلاف ما تعود، وسائل الحاضرين أيهجمون عليها؟ إذا بذرها فأجابه البعض بنعم فأخذ ينثرها في المجلس وطفق الكل يلتقط ويجمع من سمو الأمير سعود ويوسف يسن والسيد حمزه غوث إلى الكاتب وبعض الفراشين وهو يضحك ويتهلل كأنك معطيه الذي أنت آخذه. |
2 ـ مجلس ليلة 14 رمضان:
|
وفي ليلة 14 رمضان تفضل جلالته فأرسل إلينا مع فخري أفندي شيخ الأرض يعرض علينا الحضور في مجلسه (عقب الأخير) من كل يوم دون تكليف علينا في ذلك. فحضرنا في هذه الليلة وبعد أن سمع جلالته الأخبار العالمية من الأستاذ رشدي وأخذ يتحدث قليلاً في الشؤون الإسلامية ثم تشعب الحديث وجر إلى الحديث عن الإسلام والمسلمين فصرح جلالته بأنه إنما يدين بعقيدة السلف مع احترامه للمذاهب الأربعة والأخذ بما يعتضد بالدليل من كل مذهب وأنكر الإجتهاد وبرىء من تكفير من يدعي الإسلام كما برئ من الحكم بإسلام من يدعي الإسلام وبفعل ما يخالفه مثل أكثر المسلمين، وانتقد أحوال بعض الحجاج مثل الجاوين الذين يعتمرون ويفطرون في رمضان. وأنكر التعصب لمذهب من المذاهب والطرق. |
واستطرد في آخر المجلس.... |
في 17 رمضان حضرنا مجلسه وإذ دار الحديث حول السياسة فذكر دهاء الإنكليز وتحريكهم للسياسة وطيش الفرنسيين وسياسة مصر وعدم تقدمها خطوة تذكر لطلب الإنجليز تبعاً للمقتضيات ثم ذكر أنه رأى قبل الحرب العظمى رؤيا وهي أنه رأي ملك الإنجليز يرتدي عباء برقاء أي ملونة فاستدل بها على تغير نيه الإنجليز وقلبهم ظهر المجن للعرب ثم ذكر كلمة سياسة التفاهم والتساهل عند الإنجليز وروي الحادثة الآتية التي وقعت له مع كلايتن فقال كنا نتفاوض مع كلايتن فقال لي إن تسامح حكومتي وتساهلها الشديد هو الذي أغراكم فأجابه جلالته صدقت فقد أعطوني نصف إيرلنده أليس كذلك ثم قال له هذه بلاد آبائي وأجدادي وأنتم تريدون أن تمنوا عليَّ بها. |
ثم انتقد جلالته..... |
وقال لا أعظم من يجد الملك من صنعه القدرة على الاضطلاع بأعباء الحكم ويكون لديه حكومة قوية تستطيع أن تدير البلاد إدارة حازمة تريح الملك من العناء، واستقبح الاستبداد وقال حبذا الملك الذي يكون فيه حكومات قوية تريح الملك وتساعده بالمشورة وتحفظ مصالح البلاد. |
في ليلة 23 رمضان: تحدث جلالته عن سياسة الإنجليز والطليان ووازن بينهما وأعرب عن بعض مزايا السياسة الإنجليزية وحكمتها وجشع الطليان ومقته لهم وصرح بأنه يمقت الطليان بالرغم من أنه لا توجد دولة غربية تتقرب إلى حكومته وتخطب ودها مثل الطليان ورجح السياسة الإنجليزية بالرغم من تصريحه بأن الإنجليز هم أقوى أعداء العرب وأنه لا يكاد يمضي يوم دون أن تكون له معهم مشكلة وقضايا. وجر الحديث إلى ذكر السياسة العربية فأبدى أشد أسفه لتفرق العرب واختلاف قلوبهم وتهافتهم على المناصب وتراميهم في أحضان المستعمر، واستشهد على ذلك بما وقع له شخصياً من إمارات الخليج فصرح بأنه تنازع والإنجليز بشأن هذه الإمارات وتمسك بأنها بلاده وبلاد أجداده وأنها حق من حقوقه فاقترح عليه الإنجليز حلاً وهو استفتاء هذه البلاد في اختيار الانضمام إلى جلالته أو إلى الإنجليز. فلم يسع جلالته إلا قبول هذا الاقتراح لعدالته المنطقية فلم يلبث المفاوض الإنجليزي أن أحضر له عرائض موقعة من أصحاب الشأن في البلاد يطلبون فيها الإنجليز فدهش جلالته لذلك وأسف أشد الأسف وقد تعرض جلالته في هذا المجلس لبعض رجال السياسة والزعماء الشرقيين وذكر أن من أنبل هؤلاء الزعماء المرحوم سعد باشا زغلول إلا أنه خطأه في تقلد الحكم والوزارة وعد أن ذلك كان سبباً في سقوطه وفضل لو أن سعداً بقي خارج الحكم يقود البلاد ويناضل عنها. |
ليلة 25 منه، دار أكثر حديث جلالته حول العادات النجدية والمرأة النجدية واحتشامها وقلة جرأتها على الرجل وإقلالها من الاجتماع به ومجالسته. |
وروى في هذا المجلس..... |
وذكر أن أجمل النجديات أهل عنيزه وتعرض في هذا المجلس لاكتفائه بالقليل من الأكل والنوم بحيث لا يزيد مجموع منامه بالليل والنهار على نحو أربع ساعات ولا يحب جلالته الخلط في الأكل وأفضل المآكل عنده الرز واللحم النظيف وهو أكثر ما يحب اللحم ويأكل إذا كان في البر ولذلك يفضل البر ويمقت جلالته كثيراً الدهن والسمن الكثير والحلويات ولا سيما أصناف العجين منها كالبقلاوة ونحوها. |
ومن أمثلة لطف جلالته: |
تناولنا العشاء ليلة 24 رمضان في منزل سمو الأمير سعود في معية جلالته وكان ممن حضر هذه الوليمة سمو الأمير محمد الكبير أخوة جلالته فلما هم بالانصراف عقب الأكل أقبل عليه جلالته يبادله القبلات بوجه متهلل طافح بالبشر وثغر باسم. |
بعض الأمثلة الدالة على خلق جلالة الملك العظيم: |
مثال من ديمقراطيته ومقته للأرستقراطية، دخل عليه في إحدى الليالي بعض الخدم القائمين مقام الحجاب يستأذنون لبعض موظفي مالية الرياض الذين حضروا للسلام عليه فوبخهم على ذلك أشد التوبيخ وقال لهم متى أمرتكم بأن تمنعوا الناس من السلام عليَّ. |
مثل من يقظته: حدث في أول ليلة من ليالي رمضان سنة 1354هـ أن الباحوث الموكل بالمصابيح الغازية والمكلف بأن ينزل أحد المصباحين المرفوعين بأعلى قصر الرياض علامة الإمساك عن الطعام أن تقدم عن الموعد الذي حدده له جلالة الملك دقيقتين فحبسه جلالة الملك في المصمك سحابة يومه ولم يخرجه إلا قبيل الغروب ثم نبه عليه ألا ينزل بعد ذلك اليوم السراج إلا بعد أن يراجعه بالهاتف ليعرف الموعد بالضبط. |
|