شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هوامش على (ملتقى قراءة النص) (1) ..!
بقلم: د. حسين بن فهد الهويمل
قد يجتالني شيطان الغرور، فأقول عن نفسي ما قاله المصاب بجنون العظمة: ما حطَّ من سفر إلاّ إلى السفر، فكأنه موكل بفضاء الأرض يذرعه. وأحسب أنه ليس مهماً متابعة المرء للأسفار، ولا تعدد المهمات التي يُندب لها، أو يُدعى إليها، ولا المناصب التي يتبوأ غرفها، وإنما المهم ما يتركه من أثر حسن في كل مهمة ينهض بها، أو موقع يحل به، قلّ ذلك أو كثر، وما أكثر الذين تكشف المسؤوليات سوءاتهم، وما أكثر الذين يطيلون الكلام، ثم لا يقولون شيئاً، وما أكثر الذين يطوفون ابتغاء النجاة من الهلاك فيهلكون كما (تأبط شراً)، وما أكثر الذين يقترفون إصدار الكتب التي لا تساوي المداد والورق، وما أكثر الذين يتمطون بتثاقل على أنهر الصحف ثم لا يقرؤهم إلا المجيز والمصحح والطابع، ومهما خبَّ الإنسان أو وضع، ومهما طار وارتفع، فإنه عائد إلى الأرض التي انطلق منها، و (حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)، حتى ولو كانت (العضباء) ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم و (ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع).
فكل إنسان له حد ينتهي إليه، ولقد قالت الأعراب: (ما رأيت علة كطول سلامة)، فالمعافى من الأمراض يرقبه على مشارف الطريق أرذل العمر، وساعتها لا يعلم من بعد علم شيئاً، والحكمة الربانية بادرت الأنبياء والرسل بالموت، وهم في أوج عطائهم، لئلا تتحول هيبتهم، وتختلط أقوالهم. والذين على شيء من أصول علم (الحديث) تمر بهم مصطلحات كـ (الاختلاط) فالثقات حين تتقدم بهم السن، ثم يروون أحاديث في أرذل العمر، يتحفظ عليها أصحاب السنن والمسانيد والصحاح، لتكون دون الصحيح، مع أنهم فيما رووه في أشدهم يعد صحيحاً، ومن ثم يقال: فلان ثقة فيما رواه قبل أن يختلط، وما دام أن كل إنسان سيرد هذا المورد، فإن على الكيِّس أن يعيد ترتيب أموره، قبل أن يقع في أوحال الشيخوخة، وبالذات (أهل الدثور)، ممن يرقب وارثهم عجزهم أو اختلاطهم، ليحجر عليهم، والحجر حبس، يكون فيه المالك مسلوب الحرية، لا يختلف عن نزلاء دار العجزة، تحدد وجباته ونفقاته، وما أكثر المسوِّفين من المقتدرين ورجال الأعمال الذين إذا حضرتهم الشيخوخة قال مفرطهم: يا ليتني أرد فأتسلط على مالي أنفقه في سبيل الله، ولكنها كلمة هو قائلها، ومن ورائه ندامة (الكسعي).
لقد تداعت هذه الهواجس المخيفة يوم أن خالطت البعض في أشدهم، ثم رأيتهم بعد أمة على أعتاب الشيخوخة، فرأيت خلقاً آخر، وسبحان المغيِّر الذي لا يتغير، ومتى تقدمت بالمرء السنون فإن حاله تختلف، وانطباعاته تختلف، ومواقفه تختلف، ورؤاه تختلف، والذين لقيتهم في خريف العمر، وهنت عظامهم، واشتعلت رؤوسهم شيباً، ينظرون إلى الحياة بعيون مودع، ومشاعر المودع تختلف عن مشاعر المستقبل، وكم كنا نستقبل صرخة المولود بالضحكات، ونودع أنين المحتضر بالتنهدات، وما من حي إلا وله موعد مع الأنين، فماذا أعددنا لهذه اللحظات الحرجة؟!
عفا الله عن (أبي عثمان الجاحظ) أمير البيان وشيخ الاعتزال، فلقد شوَّق لي الاستطراد، وحبب لي تداعي الأفكار، وقذف في قلبي حب السبحات في آفاق المعرفة والتأمل في أحوال الناس من خلال تحولاتهم، فما عدت أستنكف من ذلك، وإن رآه المنهجيون إخلالاً في الخطة وخطوات الكتابة، ثم إن لهذه الموعظة الحسنة دواعيها.
لقد جئت إلى (جدة) بغرام غريق، وهوى لا يفيق وذكريات عذاب، جئتها وأنا غلام إذا هز القناة ثناها، وعدت إليها وأنا على أعتاب الشيخوخة، والتقيت بأخوة وزملاء من مفكرين وأدباء وإعلاميين، يحمل كل واحد منهم هموماً أدبية وفكرية، جئت مشاركاً في (ملتقى قراءة النص الرابع) وكنت قد جئت في (الملتقى الأول) قبل خمس عشرة سنة أو تزيد، وكنت إذ ذاك مجادلاً لا تغمز لي قناة، ولا يعزني مخاصم بالخطاب، أما اليوم فكنت متسامحاً، لا أكلم الناس إلا رمزاً، مما جعل البعض يظن ذلك تراجعاً في الموقف من الحداثة أو مداهنة للحداثيين، وما عرفوا أن للزمان حكمه، وللتجارب أحكامها. وعلى هامش (الملتقى الرابع) تعددت المناسبات، حتى كادت تطغى الهوامش على المتن. هذه الهوامش ذكرتنا بالأيام الخالية، أيام الشباب، فعلى هامش الملتقى دُعي المشاركون إلى لقاء الإعلاميين في منزل الأستاذ (عبد المقصود خوجه)، وهو من هو في كرمه وطيب معشره ومشاطرته. وصالونه العامر بسديد القول، وصفوة القوم، وتنوع الأطياف، وتفاوت الأعمار من أعرق الصوالين وأجداها، مع ما بشر به رواد صالونه من نقلة نوعية، تتمثل بتحويله إلى مؤسسة مستقلة، لها دخلها الثابث وأعضاؤها الأخيار، وهذا اللقاء الممتع جمعنا برجال الإعلام المتقاعدين والعاملين والمتعاونين الذين تقاطروا على المنصة ليحدثونا عن ذكريات خُضر وأُخر يابسات. في هذا المساء رأيت فعل الزمن وكر الجديدين، نظارات مقعّرة، وعصي تحنى عليها الأصابع، وظهور محدودبة، وخطوات متقاصرة، وأصوات خافتة مبحوحة، وأطراف مرتعشة، وكم كانوا من قبل يملؤون الرحب بأصواتهم الجميلة وكلماتهم العذبة، نسمعهم من الإذاعة، ولا نراهم، ونتصور أن تلك الأصوات الندية تهبط علينا من السماء، كما الطل على جنان الروابي. كان ذلك يوم أن كانت الإذاعة سيدة الموقف، لا تزاحمها قنوات، ولا تهمّشها مواقع، ولا ثورة اتصالات.
وكيف يتصور طفل مثلي مذيعاً يتحدث من جهاز صغير، لا يقدر على امتلاكه، ولا على حرية استماعه، فلقد كانت حيازة (الراديو) من الموبقات، حتى لقد كنت أعرك أذني حين استمع إلى المذيع، لكيلا يعلق بها وضر الآثام، تشكلت صورة أولئك في ظل هذه الظروف، فكانوا في تصورنا كالغول، أو كالعنقاء، أو كالخل الوفي، و (الخوجه) اعتاد على تكريم الصفوة، ولقد طالتني أفضاله حين كرمني يوم 14/7/1414هـ أي قبل عشر سنوات.
وفي هذه السهرة الممتعة في ساحات قصره، كرّم رمزاً من رموز الإعلام، عرفناه من قبل ومن بعد بـ (بابا عباس) إنه الإذاعي والدبلوماسي والقانوني (عباس فائق غزاوي) بكل ما يحمله من وقار العلم، وحكمة التجارب، وإشراقات (الدبلوماسية)، ومن حوله عشرات الإعلاميين العاملين والمتعاونين والمتقاعدين.
لقد كانت ليلة متحفية أخرجت الأرض أثقالها من رجال الكلمة المسموعة الذين جفوناهم في وقت هم أحوج ما يكونون إلى الذكر والتكريم. وكنا قد قضينا ليلة سلفت كُرِّم فيها الشاعر الفذ (إبراهيم العواجي) حضرها صفوة الأدباء والنقاد، فكان أن جمعت السهرتان خيار الأدباء وعمالقة الإعلاميين يتحدثون عن أخبارهم، وكأنها أساطير الأولين اكتتبوها أو أمليت عليهم، وحين بدأ حديث الذكريات في ليلة الإعلاميين، عدت إلى طفولتي، وأحسست أنني أعدو في الفيافي والقفار، وأسبق ظلي، تذكرت الأموات، وتعرفت على الأحياء، تذكرت (عبد الله بالخير) و (الزمخشري) و (يونس) و (الذيابي) و (الشعلان)، ولقيت (كريم، وصبحي، ونجار، والعسكري) وعشرات آخرين، وتقت إلى لقاء (العيسى، والشبيلي، والشبل، وغالب)، وذكروني بالمتعاقبين على الوزارة، ممن تليت كلماتهم بالإنابة، ذكروني بمعالي الشيخ (إبراهيم العنقري) بكل رزانته وبعد نظره، وبمعالي الأستاذ (علي الشاعر) بكل حزمه وانضباطه، وبمعالي الدكتور (محمد عبده يماني) المتألق بحضوره الفاعل، وبمعالي الأستاذ (جميل الحجيلان) الذي أجمع المؤتمرون على سمو أخلاقه وبراعة قيادته، وبمعالي الدكتور (فؤاد الفارسي) بتفتحه وتفاعله.
لقد كان (ملتقى قراءة النص) مناسبة طيبة جمعتنا برجال الفكر والأدب والإعلام، وجاءت على هامشه أشياء لا تقل أهمية عما دار في الجلسات من قراءات ومناقشات، ومع ما أحس به من سعادة بهذه المناسبة، فقد استأت من عزوف الكثير من الأدباء وانشغال كبرائهم عن الحضور الفاعل، وضقت ذرعاً ببعض مداخلات وتعليقات توازعتها جلسات الملتقى وصفحات الصحف، ولست ببعيد عن مثل هذه اللقاءات وتلك المناكفات، فلقد حضرت (الملتقى الأول) الذي يشيد به من لم يشهده، وحضرت (الملتقى الرابع) الذي يسخر به من لم يشهده أيضاً، وسمعت لغطاً فارغاً وتحاملاً مشيناً، فـ (الملتقى الأول) كما يقول بعض المجازفين في الأحكام: حفل بأساطين الفكر والأدب، فيما جاء (الملتقى الرابع) هزيلاً يمثل الانكسار، وهكذا تتحكم المذهبية المنغلقة على نفسها في أهواء البعض، ولست معنياً بتزكية الملتقى، ولا بالدفاع عن المشاركين، فما من عمل ولا عامل إلا وله نصيب من التألق، وعليه كفل من الإخفاق، وكل الذي يهمني احترام المصداقية، والتخلي عن الشللية، ولزوم النقد الموضوعي البناء.
ذلك أن تعميم الأحكام يصيب أقواماً بجهالة، فالملتقى حفل بأساتذة وأدباء وباحثين، أصاب من أصاب، وأخطأ من أخطأ، وهم أحوج إلى من يفكك بحوثهم، ويوقفهم على مواطن النقص والتقصير.
أما الحكم على فشل الملتقى، وتعميم سمة الضعف على كل الأوراق، والتقصير من كل المشاركين والسخرية بهم، فأمر لا يقبل به أحد، وهو مؤشر فشل ذريع وتصوح معرفي.
وحين تكون الشنشنات معروفة ومتوقعة لا تزيد المسهم المتفاني والمتابع الجاد إلا ثقة بالنفس.. ورئيس النادي وأعضاؤه الذين لم يجدوا ما يحملون الملتقى عليه إلا أن يقترضوا مؤونة الملتقى، ولما يقصروا في تحمل تبعات الاستقبال والتوديع والتنظيم، جديرون بأن يقال لهم: أحسنتم لأنفسكم ولمشهدكم الأدبي، وإذا نقم البعض من ضعف الأوراق، وعدم جدية بعض المشاركين، فليس من اللائق الإطلاق، وليس من أدبيات الحوار نسف كل الجهود، ولو أنني عنيت وحدي بشيء من الملام، لآثرت الصمت، وما ضقت من همزات ولمزات سمعتها تتكرر من ثلاثين سنة، كاتهام ورقتي بالإقصاء والمصادرة ونفي الآخر، ولو أن القائل تواضع، وتغلب على هواه، وقرأ الورقة، أو تلطف واستمع بأذن واعية، لكان أن هدي إلى مواطن النقص وأهداها إلينا، فهي ضالتنا وحاجتنا.
وعيب مشاهدنا أنها أوزاع، تعرف ما سيقوله كل فريق، فكل واحد رضي برمجة نفسه، ليكون كآلة التسجيل تغمزه فيقول ما استودع من قبل، حتى في تجمعهم داخل القاعات أو خارجها، يأوي بعضهم إلى بعض، يكثرون لمشايعة من يهوون، وإن كان أعيا من (باقل)، وينفضّون من حول من لا تهوى أنفسهم، وإن كان أفصح من (سحبان وائل)، ولأنني لست منتظراً من يثبت أقدامي بمنافحته، ولا خائفاً ممن يزلقني ببصره فإنني مستاء للمشهد الأدبي، متألم من استفحال الشللية، فزع من جور الأحكام، حتى لقد قال أحدهم: عن فشل (الملتقى الرابع) بسبب غياب عضو من أعضاء النادي، وكأن الساعة آتية إن لم يعد هذا العضو لإيقاف عجلة التدهور، وما هذا القول إلا مؤشر على تصوح المشهد الأدبي. وإذا كنا نتحفظ على بعض الأوراق، ونستاء من بعض المتحدثين فإن ذلك لا يستدعي أن نقول: (ردة ولا أبا بكر لها)، ولقاء مثل هذا يحتاج إلى حضور، يستمع إلى القول، وينقب عما في الأوراق من تقصير في المادة أو خلل في المنهج، ثم لا يجد حرجاً من محاورة المنتدين، وأيُّ منتدى كهذا، يحتاج إلى صحافة يقرأ مناديبها الأوراق، ويقدمون ملخصات لها، وإلى متابعة إخبارية، لا تبخس المؤسسات الثقافية أشياءها، والمؤسف أن الملاحق الأدبية في صحفنا، محرمة على بلابلها، حلال للطير من كل جنس، وفي ذلك انهزام وتقصير، وإذا كنا نحتفي بالآخر، ونفسح له في صحافتنا، فإن من حقنا أن نحصل على مساحات مماثلة في ملاحقهم، وكم أشفقت على مساكين من أدبائنا، يعرضون أنفسهم على من ينظرون إليهم باحتقار، ولو أنهم صانوا كرامتهم، لكانوا أنداداً، يفترسون حقهم، ولا يستجدونه.
ولقد شاهدت مواقف مخجلة في مؤتمرات حضرتها في الداخل والخارج، تتمثل في تهافت شبابنا وبعض كهولنا على أصنام لا تحمل طهر الصنم ـ كما يقول أبو ريشة.
والذين مجدوا (الملتقى الأول) ونالوا من (الملتقى الرابع) أحالوا المكارم إلى فلول الحداثة الفكرية، ممن جيء بهم من خارج البلاد، يوم أن كانت الحداثة على أشدها، أمثال (كمال أبو ديب) و (جابر عصفور)، حتى لقد ذكرهم الناقمون من الملتقى بأسمائهم، وكأن ليس في بني عمهم رماح، وإذا كنت ممن حضر الملتقى الأول، ونافح عن قيم التراث، فإنني مشمول بكرم المشيدين به، مع أنهم القوم الذين يشقى بهم جليسهم، لقد ضاقوا بي ذرعاً، غير أنني مع هذا لا أعبأ بثناء القصد، فضلاً عن ثناء الشمول، وحاجتي فيمن يمحضني النصح، لا فيمن يستدرجني بالمدح. لقد جاء (الملتقى الأول) في عنفوان الحداثة، وقدمت فيه ورقة تغيظ الحداثيين، حيث أبنت فيها عن ملامح الموروث في النقد الحديث، حتى لقد سخر قوم، واستاء آخرون، ونقبت طائفة منهم في تلافيف الورقة بحثاً عن أخطاء في المنهج أو نقص في المعلومات، ولم أستنكف من مراجعة ورقتي، ولا من قبول الحق، لأنه ضالتي، وقدمت في (الملتقى الرابع) ورقة عن (قصيدة النثر) وقطعت بعدم شعريتها، غير أن مداخلات البعض لم تحفزني على المراجعة، لأنها أحكام جاهزة مهترئة من الاجترار، والورقة مطروحة بمادتها ومنهجها وموقفها، وهي أحوج ما تكون إلى ناقد مقتدر، يصدع بالحق، ليقول فيها ما يسد خلالها، وليست بحاجة إلى هجاء مفحش، ولا إلى مدَّاح مداج.
ومع كل ما سلف فإنني مشفق على كل الذين حاولوا وضع العصي في عجلات المؤسسات الفاعلة، متمنياً أن يقولوا عن فعاليتها الحق، وأن يمارسوا النقد الموضوعي الذي ينفي عن مشاهدنا ما علّق فيها من سلبيات ما كان لها أن تظل معوقاً لمسيرتنا المباركة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :346  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 155 من 204
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء السابع - الكشاف الصحفي لحفلات التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج