قرص الشمس ينحدر عند الأفق.. |
قانياً، مضرجاً بحصيلة النهار كله. |
الشاطئ أخذ يستعيد أنفاسه.. |
وهو يتخلص رويداً من الأقدام التي ركضت فوقه، |
وجرت فوق رماله، |
وتقافزت على حصاه. |
الزحام في كل مكان.. |
حتى عندما تنحدر الشمس للمغيب! |
نظراته - تلك اللحظة - ضائعة... |
ترحل خلف الغروب.. |
ممتزجة.. مطوية بين المياه الزرقاء الداكنة.. |
وبين ترددات الموج الخفيف.. |
وهو يصطدم هيناً بحجارة الشاطئ.. |
لا شيء في العينين مما كان مرئياً: |
لا الزحام، ولا الانطلاق، |
ولا حتى ذلك التواجد المؤقت في الوقت.. |
بل كل الشيء الآن - في العينين - |
هو ذلك الكل المازال في الضلوع.. |
من المحسوس، ومن الرجع. |
ومن أصداء الزمان الذي تفوّق على الوقت، |
وكبر بالعمر وبالوفاء! |
إنه هذا الصمت النبيل.. |
* * * |
حينما تغرورق العين بدمعة لا تهون.. |
وفي الدمعة تختال صور الذكرى، |
وتكبر الأيام، |
وتضيء النفس براحة العهد للحفاظ على الغالي.. |
فهل الصمت حزن.. |
هل الصمت إدانة لعبث الإنسان بصدقه، وبقيمه؟! |
كان الصمت حوله، |
وكان على امتداد البصر.. |
شعاعاً في البصيرة، |
ودفقاً دافئاً في القلب. |
* * * |
أما سرحة النظر.. |
فقد كانت تطارد ذلك (الذي يأتي ولا يأتي). |
أما الرجع.. |
أما الإصغاء للمترسب بين الضلوع وهو يطفو الآن.. |
فقد كان تذكراً لعبارة ترددت في زمان لا مثيل لعنفوانه.. |
وتمتد يد هذا المبحر في مكانه مع الصمت والتأمل.. |
وتدير مؤشر الراديو، |
فيأتيه الرجع ثانية من البعيد.. |
من خلال أغنية لا يطيق سماعها حتى لا تضطرب قدرته.. |
حينما يربط الأمس بالغد.. |
لكنه مشدود إلى النداء العفوي والصادق فيها: |
ـ ((هات عينيك ترتاح في نظرتهم عينيه))!! |
ويسارع.. |
فيفر بمؤشر الراديو من جديد.. |
يركض به هارباً من دمعة لا يستطيع احتمالها.. |
إنه يبحث عن برنامج ضاحك.. |
عن نكتة سخيفة جداً.. |
لقد امتلأت أغنيات العرب بالدموع.. |
بينما تكاد تنضب مآقيهم من الدموع! |
* * * |
وتمتد نظراته إلى البحر من جديد - |
في رمق النهار الأخير - يتأمل.. |
كيف يغرق هذه النظرات.. |
وكيف يدع ما يختال في الدمعة يسبح حتى يبلغ الشط؟! |
إنها سرحة من الشعاع الروحي.. |
تتهادى فوق مياه البحر.. حافظ الأسرار! |
إنها لحظة من إمتاع الذهن أيضاً.. |
كما فلتر ينقي من أوشال الألم، |
ويشذب الحزن.. |
عندها يقدر العقل على الانطلاق بعيداً.. |
حتى يتصل مداه بمدى الأحلام العريضة.. |
تلك التي تسقط غالباً مع قرص الشمس الآفل!! |
* * * |
لكن الزمن يتحول إلى مجرد ((وقت)).. |
عندما يخلو من الانتظار.. |
ومن الوعد، |
ومن الكلمة ذات الصدى.. |
فالزمن هو عهودنا.. |
وهو قيمنا.. |
وهو معاني الإنسان في الوجد وفي الفكرة! |
وبذلك تبقى موانئ النفس مضيئة.. |
رغم غارات الكراهية في عالم الإنسان.. |
رغم التفاهة! |
إنها ما زالت.. |
هذه الموانئ التي تستقبل أشرعة بيضاء قادمة.. |
بينما البحار تقذف الأصداف والوشل، |
((وما زال الحنين لظى))! |
* * * |
ترى - يا أيها الإنسان - |
هل في إمكان التجربة الإنسانية.. |
أن تعبر بإحساس الإنسان من ارتطاماته، |
وما حوله من إحباطات.. |
إلى قناعة بجدوى الزمن؟! |
إنه يسكن الموانئ، |
ويرضع من سحابة تلوح بالغيث! |
إنه - كما يرى نفسه - |
يقف فوق صارية رست سفينتها.. |
وكلهم يرحلون، |
ويبقى وحده يستقبل الوقت، |
ويودع التجربة خلف التجربة، |
والموج يقهقه، والبحر يعلو وينحسر، |
والصارية تنتشر على وجه البحر، |
وما زالت السفينة تتمايل بلا تعب! |
* * * |
وعندما كانت النفس كمحارة تائهة في الموج.. |
كانت ضلوعه تستقبل النداء المتجدد.. |
في دعوة للحياة.. للأمل. |
إنه لا شيء يقدر أن يتحول إلى فراغ.. |
طالما حافظت نفوسنا على عمار الحب لها. |
الفراغ الحقيقي.. |
هو أن لا يبقى لك شيء تفكر فيه. |
ولا يبقى لك من تحبه، ويحبك.. |
لحظتها يتحول الزمان إلى وقت، |
وتكف الحياة عن الحياة!! |