شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بزة البحار.. والدموع
يبدو أن أمي لم تنعم بنوم هادىء في تلك الليلة، وهي الأولى التي نبيتها في المجلس الذي استكمل اثاثه، وأضاءْته تلك القمَرية، واللمبة (أم فتيلتين)، ثم تلك التي تعلق في الجدار... ادركت ذلك حين استيقظت مبكرا... واضواء الفجر تتلصص، من خروم (الشيش) في النافذة المطلّة على بيت الخالة فاطمة... وتلك الأخرى المطلة على مدخل الزقاق. كانت مستغرقة في نوم عميق... كنت كالعادة إلى جانبها، على ذلك اللحاف المهترىء والوسادتين الباليتين، لأن المرتبة واللحاف الجديدين، لن نستمتع بهما إلا، عندما يقوم بصنعهما المنجدّ الذي اتفقتْ معه، على أن يجيء ضحى اليوم. ولم يعد مما يضايقني، أن اسمع شخير الدادة منكثة يرتفع، ويبدو كأنه حشرجة، مخنوق... كانت هناك مما يلي باب المجلس... هي أيضا يبدو إنها لم تنم مبكرة... إذ كان من عادتها في الغالب، ان تستيقظ، وان تشرع في عملها وواجباتها الصغيرة. لم أجرؤ على ترك الفراش، إذ لم يكن ضوء الفجر، قد زحف على بقية العتمة، ليس في المجلس فقط، وإنما حتى في الزقاق... القيت نظرة على وجه أمّي... كان بادي الهزال والشحوب، وقد ذكَّرني بأيام معاناتها من حمى الملاريا التي، لا أدري كيف انقطعت منذ وصلنا المدينة وان كانت هي لم تنقطع عن شرب (مطبوخ أو منقوع خشب الكينا)، الذي لا تنساه، قبل أن تتناول فطورها في الصباح، وبعد وجبة العشاء في المساء. كانت هناك على الطوّالة مما يلي النافذة المطلة على الزقاق لفّة أو بقشة الملابس التي اشترتها لي من (مغازة العم اسماعيل)... وقد نشرت إلى جانبها (البدلة البحاري) والحذاء البني والجورب... مما فهمت منه، انها كانت تعدّهما لي في الليل... واليوم بعد المراحل الذاهبة من العمر، وبعد الرصيد المتراكم من تجارب الحياة، أدرك، تلك المشاعر التي تموج في صدر الأم الشابة، التي لا يحزنها شيء كما يحزنها، ان يظهر وحيدها بذلك المظهر الرث، وقد ظل يلازمني منذ كنا في الشام ثم في الطريق الطويل منها، على سطح الباخرة إلى ينبع من القنطرة، ومن ينبع على الجمل إلى المدينة... ادرك اليوم، أنها ما كادت تستلم الجنيهات العُسْمنْلي الستة من العم عثمان حتى كان اول ما تطلعت اليه، ان تتخلص هي، من معاناتها، بتخليصي من ذلك المظهر الرث... الثوب القصير بادي البِلي، والحذاء الذي يبصبص منه اصبع الابّهام وقد تشقق واسود واصبح يحتاج ـ كما قالت ـ إلى (دورة وصباحية) ليعود اصبع آدمي. خطر لي، وانا في الفراش أن انهض، واحاول ان ارتفق الحذاء البني الجديد، و (بدلة البحاري)، ولكن سرعان ما تراجعت لاني لم اجرب قط ارتداء بذلة كهذه... حتى يوم اخذني جدي معه إلى سوق الحميدية في دمشق واشترى لي ولأخي تلك الملابس الثقيلة من الصوف، وظل ـ رحمه الله ـ يكابد حملها تحت زخات المطر والبرد، إلى أن ركبنا (الفيتون).. لم يكن بينها بدلة من هذا النوع... وصرفني في هذه اللحظة عن التفكير في البذلة والحذاء والذكريات البعيدة، هديل حمامة... وليس حمامة واحدة، بل عدد من الحمام... اصغيت بكل جوارحي، وداخلني احساس غريب بالاشفاق أو الحزن أو شيء من هذا القبيل، لم أعرف له تفسيرا... كان هديل الحمام قريبا... نهضت من فراشي واتجهت إلى النافذة بخطوات حذرة... كان هناك زوج من الحمام الذي تعلمّت فيما بعد أنه (حمام الحرم)... كان لهما عش في الجزء العلوي من النافذة بين فتحة من الخشب المهشم.... وهناك في شبّاكٍ لبيت (خاتون الهندية) المهجور.. عدد من أزواج الحمام واعشاشها... خيلّ اليّ أن الهديل هنا وهناك، نداء يذكر بأن موعد الفطور قد حان... وتساءلت بمنطق طفل لا يدري شيئا كثيرا عن الحياة..: (من يا ترى الذي سوف يقدّم لها هذا الفطور؟؟؟) ما دام بيت (خاتون) مهجورا... وبيتنا، وفيه الحمامتان، مهجور ايضا... ولم نسكن هذا المجلس الا البارحة... التفتُّ نحو الدادة التي كانت ماتزال نائمة ترسل شخيرها الرهيب... تمنّيت لو انها تستيقظ فتقدم للحمامتين شيئا للفطور... وارتفعتُ على رؤوس اصابع قدمي محاولا ان ارى ما في العش... ورأيت ما لم يسبق ان رأيت مثله قط... زوج مما يسّمى (الزغاليل).. تركتهما الحمامة وقد طارت عندما داهمتها برأسي ونظراتي.. كلا الزغلولين كانا قد فتحا منقاريهما... وهنا تساءلت عن الماء... لا ماء في العش ولا أكل... ووجدتني اقول... (حرام!)... وكانت حركتي... وربما ارتفاع صوتي قد ايقظا أمّي... القت عليّ نظرة لم تخل من توجّس... وما كدت اراها يقظة حتى أسرعت أقول:
:ـ. الحمام يا فَفَم... ما عنده اكل ولا موية.
:ـ. حمام ايه؟؟؟
:ـ. هادا الحمام اللي في الطاقة.. شوفيه.. جيعان بينادى بطلب الفطور من الصبح. ابتسمت... ولم تخيّب رجائي... اذ نهضت وجاءت تقف إلى جانبي... وهي تقول:
:ـ. هادا حمام الحرم.
:ـ. يبغا يأكل... وما عنده مويه... وبزورتهم الصغار.. شوفيهم فاتحين فمّهم عطشانين.
وضعت يدها على كتفي... وظلت بسمتها تتسع.. وهي تقول:
:ـ. حمام الحرم، يلقِّط رزقه من الزقاق... ومن الحرم.. ومن كل مكان... والزغاليل امهم هيّه مع أبوهم، يجيبولهم الاكل... ومن فمّهم... يلقِّموا الصغار.
:ـ. أمّهم... وابوهم؟؟؟
:ـ. ايوه... الحمامتين اللي شفتهم، ودحّين طاروا خايفين منّنا... واحدة منهم أمّهم والتاني اللي بينادي هوّه ابوهم..
:ـ. اللي بينادي هوّه ابوهم؟؟؟
:ـ. ايوه الاّم، تفضل ساكته، والأب هوّه اللي ينادي.. هوّه اللي...
ولا أدري، بأي دافع غامض، احسست لكلمة (الابّ) هذه، تتكرّر في كلام أمي عن الحمام، بما يشبه همسة تملأ تفكيري، فإذا بي التفت اليها وأقول:
:ـ. طيّب... فين أبويا أنا ما هو معانا؟؟ زي أبو الحمام؟؟؟
قلت هذه الكلمة، وانا انظر اليها، نظرة يبدو انها لم تتوقعها، كما لم تتوقع هذا السؤال... تركتني حيث كنت واقفا أمام النافذة... واتجهت نحو باب المجلس في مشية مسرعة وقبل ان تخرج، سمعتها تنبّه الدادة منكشة ولكن بصوت خيّل اليّ انه مشحون أو مخنوق... وخرجت إلى دورة المياه.
واستيقظت الدادة، واسرعت تنهض من فراشها، وإذ لم تر أمي، التفتت اليّ وهي تتمتم بكلمات هامسة.. فهمت منها انها تطلب، ان أرافقها ـ كعادتها ـ لتغسل لي وجهي، بينما تتوضأ هي للصلاة.
* * *
لاحظت، ونحن نتناول الفطور الذي جهزّته الدادة، وهذه المرة كانت هناك اطباق صغيرة فيها قطع الجبن، والزيتون... وطبق ثالث، فيه العسل ممزوجا بالسمن، وخبز القمح الذي حرصت الدادة على تسخينه... لاحظت أن أمي تلتزم الصمت، وكأنها تتحاشى النظر اليّ... وادركت ان ذلك السؤال الذي انفلت مني كان مفاجئا، وهو الذي غيّر مزاجها وضيّع ابتسامتها التي كانت تملأ محيّاها عندما دار الحوار بيني وبينها عن الحمام.
من جانبي أنا ايضا، حرصت على التزام الصمت، وشعرت كأني اتعهد بيني وبين نفسي أن لا أعود إلى هذا السؤال قط... احسست، بالتزامها الصمت، كأني قد حرمت نفسي من رضاها، وما اسرع ما دار في نفسي سؤال غامض ربما يتبلور لفظا، ولكن لاشك أنّه كان يعني:
:ـ. من لي اذا؟
إذا؟؟؟ إذا؟؟؟
وتعثرت الكلمة، في ذهني... ولكني أدرك اليوم إنها كانت شحنة من التفجّع والخوف من المصير المجهول إذا لم تكن هذه الأم معي... إذا لم أكن أنا معها؟؟؟ كما قالت أو ظلت تقول عشرات المرات، منذ مات الجميع في حماة وحلب.
:ـ. كلهّم... كلهّم راحو...
كلهّم راحو... ولم يبق لي الاّ هي... فأي مصير ذلك الذي يتربّص بي، إذا... ولا أستطيع حتى اليوم أن أقول: (إذا فقدتها)، وأن كان الواقع، أني فقدتها، يوم توفّيت وهي في الستين من عمرها رحمها الله.
* * *
احسَّت الدادة ان الجو متوّتر... وان شيئا ما قد حدث فأغضبها... ولعلّها كانت تخشى أن تتساءل.. ولكن أمّي ظلّت تتناول فطورها وتشرب الشاي.. ونظرتها سارحة.
لا تستقر على احد منا نحن الأثنين.
وأخيرا نهضت... وهي تقول:
:ـ. تعال..
اسرعت أقف... وحين اتجهتّ إلى حيث كانت الأمتعة... أو الملابس التي اشترتها لي من (مغازة) العم اسماعيل، ذهبت اليها... أخذت تخلع عني الثوب القصير الرث، وما تحته من الملابس الداخلية... ألبستنى ملابس داخلية جديدة... ثم أخذت تلبسني (بدلة البحار)... ولم تنس ان تجعلني ارتفق الحذاء البني الجديد... ولكن سرعان ما عادت تخلعه وتجعلني ارتفق الأسود، لأن اشرطة البذلة البحار كحلية اللون...
وقالت:
:ـ. هيا روح امشي قدّامي.. خلّيني اشوفك من بعيد.
ومشيت كما طلبت... وقبل ان اقف قالت
:ـ. روح وتعال.. امشي كمان..
وظللت امشي في الغرفة جيئة وذهابا امامها... إلى أن رأيت وجهها تترقرق فيه ابتسامة حذرة... ثم قالت:
:ـ. تعال..
وعندما وقفت امامها احتضنتني بلهفة، ضمتني إلى صدرها واجهشت بالبكاء.
ولا ادرى، لم؟، وبأي مشاعر غامضة، وجدت نفسي انا أيضا ابكى معها؟؟؟ ولم تقل شيئا في اللحظات التي كانت تضمني إلى صدرها... ولكنها حين اخذت ترقأ دموعها بمنديل في صدرها جعلتني اقف امامها... ورفعت وجهها تنظر اليّ نظرة حائرة ساهمة ثم قالت:
:ـ ابو الحمام ، قاعد مع رفيقته ... ام عياله ... لكن ابوك انت سافر يا عزيز ... ومع أني كنت اتحاشى ان أسمع شيئا عن الموضوع الذي أحسست إنه أزعجها فقد وجدت نفسي اقول:
:ـ. سافر؟؟؟ لكن نحن كمان سافرنا... ليه ما سافر معانا؟؟
:ـ. سافر لوحده.. قبّلنا... قبل ما يسفرنا فخرى..
:ـ. طيب.. ياففَّم... لكن ليّه ما جامعانا ؟؟؟ اللى سافروا، خالة فاطمة بتقول، انهم بيرجعوا.. ليه هوّه ما جا؟؟؟
وكأنها لم تطق ان تسمع المزيد، فقد استعادتنى إلى حضنها... وضمت رأسي إلى صدرها... وعادت تجهش بالبكاء.. وعدت أنا أبكي معها... وكانت المفاجأة، ان يرتفع نشيج الدادة عاليا... وان نراها تنطرح حيث هي...
ارتبكت أمى... ازاحتنى عنها... وهى تقول:
:ـ. القرينة؟؟؟؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :804  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 36 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.