شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تاريخنا القريب
ـ 2 ـ
(المهاجرون بدمشق)
تلقى فخري باشا محافظ المدينة وحاكمها العسكري بعد إلقاء القبض على المشتبه في أمرهم وإجلائهم لدمشق ليمثلوا أمام جمال باشا السفاح (قائد الفيلق الرابع الهمايوني) وبعد تلقي أمر أنور باشا السلطان بإجلائهم متفرقين إلى ولايات الأناضول والروملي شرع في تسفير الأهالي إلى دمشق وحمص وحماة وحلب وأضنة ومرسين وبعض ولايات الأناضول، وكان المهاجرون بدمشق خليطاً من الأهالي الأفندية وبعض المجاورين من القزانية والمغاربة والهنود وكان عددهم بدمشق يربو على خمسة آلاف ما بين رجل وامرأة وطفل وكانت أحوالهم المادية من حيث الفقر والغنى متفاوتة، فمنهم الموسر والتاجر وصاحب مهنة، فعمل البعض في مهنهم وعمل البعض في وظائف الحكومة وهؤلاء لم يتجاوزوا الألف والباقون عاشوا في خبز الجراية والراتب القليل وباعوا ما لديهم من حلى، ومتاع، وقد شكلت الدولة لهم قمسيوناً (لجنة ) رأسها السيد زين العابدين مدني وأمين صندوقها السيد عبد القادر حافظ وبعضوية حسين جباد وعرفة شطبي ويوسف دويدار وغيرهم رحم الله الجميع، وكان منظر الأهالي وهم يتجمعون أول كل شهر وفي فصل الشتاء أمام مركز اللجنة (ساحة الشهداء) يدعو للشفقة والرثاء فهذا السيد فلان متزملاً بلحاف وذاك الأفندي يخفي ذاته في جبة مهلهلة وهذا الشيخ ينتفض من البرد وبعض الأولاد يلبسون أثواب الديسكو. وقد لا يصل أحدنا إلى بيته ليلاً حتى تدهمه البرداء وقد تفشت حمى (التيفوس) وأخذت تحصد المهاجرين من أهل المدينة بالعشرات والمئات حتى الألفين أو يزيد.
ولم يقتصر فتك حمى (التيفوس) على المهاجرين من أهل المدينة بل تعدى فتكها بأهل دمشق ومهاجري الأرمن الذين أوقع الترك فيهم السيف وشردهم في أنحاء تركية وأصبحنا نحن وهم مصداقاً لقول الشاعر:
وجرم جره سفهاء قوم
فحل بغير جارمه العقاب
وإني ما زلت أذكر منظراً للأطفال المشردين وهم ينشدون هذه الأغنية الشعبية:
يا خالتي حني على
من جودك والحنية
قضينا سنة سوده
جوع وعرى وبرديه
خبيزه تشكي وتقول
ما خلوا، لي عرق يطول
عملوني غدا وفطور
كله من الجوع يا خيا
وقد اشتدت الأزمة وشحت الأقوات بسبب تسلط الجيش الألماني على موارد الدولة وتسلمهم لزمام القيادة في ميادين القتال ورأيت بعيني في حي الصالحية الناس يتخطفون الخبز من حامليه كما كان الكثير من المهاجرين يتدافعون أمام تكية ابن عربي لمغرفة من حساء الأرز وهم في أسمالهم البالية والقمل يتمشى عليهم من جراء القذارة والبؤس ولم يكن لدى المرضى ما يدفعونه للأطباء، ولم يكن هناك طبيب يتفقد المرضى من قبل الحكومة أو مستشفى يعالج بالمجان، وفي تلك الآونة كان جمال السفاح يشنق أحرار دمشق رعيلاً بعد رعيل في ساحة الشهداء وكانوا الضحايا الأول للثورة العربية التي قام ينادي بها الشريف حسين وكانت دمشق تعلوها سحابة من الكآبة والحزن وقد فر كثير منهم إلى مصر وعملوا لإشعال الثورة العربية والأماني العربية حتى نالوا الاستقلال.
وفي منتصف عام 1337هـ وردت الأخبار بانهزام الألمان أمام قوات الحلفاء بقيادة المرشال فوش قائد قوات الحلفاء، كما وردت أخبار اندحار الجيش التركي في ميدان فلسطين ودخول الجنرال اللنبي إلى بيت المقدس وتفوهه بكلمته الجارحة: (هنا انتهت الحروب الصليبية) ولقد تعقب الإنكليز فلول الألمان والترك إلى دمشق، وفي ليلة دخول الجيش دمر الألمان مخازن الذخيرة في القدم وكان انفجار القنابل يصم الآذان حينما اللهيب يتصاعد لعنان السماء وكانت ليلة رهيبة قضيناها في خوف ووجل، وفي الصباح دخل الجيش البريطاني بفصائل من خيالة السيخ ومسلمي البنجاب قاطعين ميادين دمشق إظهاراً لقوتهم بينما دخل الجيش الفرنسي إلى لبنان بطريق بيروت، وبعث الجيش البريطاني كوكبة من الخيالة العرب كرمز للقوة العربية الموالية للأحلاف، وقد زلزلت دمشق بهزات خفيفة، وأخذ الرعاع في نهب دور الحكومة ومصالحها، واستقبل أهل دمشق الجيش المحتل بالبشر والترحاب وبعد أيام قدم الأمير فيصل بن الحسين ومن تبعه من الأشراف ومن رجالات سورية والعراق وأخذ في تأليف أولى حكومة عربية تحت تاجه وأخذ السوريون يتباشرون بالمملكة الفتية بعد نضال وجهاد دام عشرات السنين وأقيمت الحفلات والزينات وقد انتعش المهاجرون من أهل المدينة بدمشق الذين سلموا من الوباء والبلاء وأصبحت أسرتنا سبعة فقط من عشرين شخصاً آخرهم عميد الأسرة جدي لأم عبد القادر عنبر خان والباقون كنا ثلاث نسوة وأربعة أولاد فهم أخي عبد الحميد عنبر وأخوه محمد عبد القدير ورتبت لنا رواتب شهرية ومنح طيبة وصدر الأمر بترحيل أهل المدينة إلى المدينة ومن أراد من المجاورين السفر لبلاده أجيب إلى طلبه من لدن المعتمد البريطاني والمعتمد الفرنسي، وقد سافر الكثيرون إلى بلادهم بالهند والمغرب وأصبح المهاجرون بحلب وحمص وحماة وأضنة والأناضول يتدفقون إلى دمشق للسفر منها إلى القنطرة فالسويس فينبع فالمدينة ورغب في البقاء بعضهم في مهاجرهم. وكان ترتيبنا في الفوج الرابع ففي شوال 1337هـ ركبنا وجماعة من أهل المدينة من دمشق إلى حيفا فالعريش وأنزلونا في القنطرة في مخيمات المحجر الصحي وبقينا بالمحجر أسبوعين تقريباً انتظاراً للباخرة التي تقلنا وكانت باخرة نمسوية أسيرة سميت (بالعباسي) وقبيل تحركنا من القنطرة أخذت أمتعتنا وحقائبنا إلى القطار وفتشنا عنها في السويس فقيل لنا إنها حملت في الوابور الذي كان بانتظارنا هناك، فركبنا الوابور وكان وابور بضاعة فأنزلونا في العنابر كالحيوانات مختلطاً بعضنا ببعض وفي اليوم الثالث وصلنا ينبع وبحثنا عن أمتعتنا فلم نجدها وأخيراً بعد البحث والتنقيب وجدنا الصناديق مفتوحة بباطنها حجارة وأحذية بالية للجنود فعلمنا أننا سرقنا من الحمالين المصريين في طريق القنطرة إلى القطار وكانت حتى نقودنا بالصناديق لأننا استبدلنا بنقودنا الريال المجيدي الذي ابتعناه في القنطرة بسعر سبعة قروش للمجيدي الواحد ولثقلها وضعناها بالصناديق ولم نكن نحن المسروقين فقط فكل جماعتنا سرقوا ما عدا بعض الفرش والأمتعة الزهيدة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهكذا وصلنا ينبع وليس لدينا غير الألبسة التي على أجسادنا وكان معنا كتاب توصية للشيخ ابن جبر وكيل الشيخ يوسف خشيرم فقد زودنا المذكور بذلك الكتاب إلى المدينة على حساب حكومة الملك حسين بعد أن اشترى لنا بعض ما نحتاجه من الزاد واللباس وكنا مائة شخص ما بين رجل وامرأة فوصلنا المدينة المنورة بعد غياب طويل بخير وسلام وأول ما نزلنا في ضيافة الخال صديق عنبر خان ثم ذهبنا لدار الجد فوجدنا الدار مفتوحة والمتاع مسلوباً فقد كان جدي، رحمه الله، وضع جميع الأثاث والفراش في غرفة وبنى عليه غير أن اللصوص من الجنود وغيرهم اهتدوا لتلك الغرفة وأخرجوا كل ما فيها، وهو ما حصل في أكثر البيوت حال غياب أهلها، وقد أخبرنا الوالد رحمه الله أنه لم ينج من السلب حتى المقيمين في دورهم فقد سلبه أعوان الشريف عبد الله لدى دخولهم للمدينة فراشه ومتاعه وهو في بيته يستلطف الله، لقد وجدنا الوالد بخير وحكى لنا بأن فخري باشا عين له أخيراً طعاماً كأحد الضباط وسبب ذلك أن ساعة الباشا اليدوية الثمينة خربت فأرشدوه للوالد لإصلاحها ولما أصلحها أنعم الباشا عليه بأجرة طيبة فقال الوالد: يا باشا هذا لا يؤكل وأنا في حاجة للطعام، فضحك الباشا وعين له غداء كل يوم يأتي به إليه أحد الجنود. وفي أثناء الحصار كانت توفيت زوجة الوالد الكبرى وأختي لأبي وبقي هو وخالتي الصغرى بعد أن باع أثناء الحصار بيتاً ودكاناً بأبخس الأثمان، لقد بقيت أنا لدى جدتي وخالاتي ومعي أخي عبد الحميد وأخوه محمد وكنا في ضنك من العيش لا عائل لنا ولا معين فقد انتقلنا إلى دار الجد وليس لدينا من الأثاث والفراش إلا الشيء القليل وكنا في نكبتنا هذه بعد رجوعنا إلى الوطن اشد من نكبتنا بدمشق وشاء الله أن يلازمنا سوء الحظ عدة سنين ولم يكن لنا ثمة عائل أو مرتب شهري لأن المرتبات السابقة ذهبت مع ذهاب الدولة الغابرة.. وهكذا كان حال أكثر العائدين في الوقت الذي لم يرجع من الثمانين ألفاً أكثر من عشرة آلاف.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1043  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 27 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.