شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تاريخنا القريب
ـ 1 ـ
لم تكد الدولة العثمانية تلعق جراحها من حرب طرابلس الغرب وإذعانها لمطالب إيطاليا وانسحابها نهائياً من شمال إفريقيا سنة 1913م تحت ضغط دول الحلفاء تاركة عرب طرابلس لمصيرهم المشؤوم، حتى نشبت الحرب العالمية سنة 1334هـ منذرة بالويل والثبور للبشرية جمعاء واضطرت الدولة أخيراً أن تنضم لدول الائتلاف (ألمانيا والنمسا وإيطاليا) ضد الحلفاء (انكلترا وفرنسا وروسيا) فدق ناقوس الحرب في جميع ولاياتها بما فيها ولاية الحجاز وكان الحلفاء قد اتفقوا قبلاً على قسم تركة الرجل المريض (تركيا) وبموجب معاهدة (سايكس بيكو) كانت البلاد العربية نهباً بين فرنسا وإنكلترا، وبعد دخول الدولة في الحرب رأت إنكلترا أن تضرب الترك من الخلف ببلاد العروبة فأخذ عميدها بمصر (السير هنري مكماهون) بمفاوضة الأمير حسين بواسطة وكيله (شريف العمري) وتم الاتفاق بعد مخابرات طويلة على المؤازرة في القيام بالثورة العربية.. وفي الوقت نفسه كان الحسين يطلب المدد من الدولة للقيام بهجوم على ضفة قناة السويس الشرقية بعد أن أعلن الإنكليز حمايتهم على مصر وخلعهم لعباس حلمي الثاني لالتحاقه بالسلطان في الآستانة..
وفي السنة التالية زار المدينة المنورة أقطاب الاتحاديين في الحكومة التركية (أنور وجمال وطلعت) لتفقد حالة الحجاز، وجاء معهم الأمير فيصل ابن الشريف حسين لتشكيل جيش بقيادته للحملة على القناة مساعدة للدولة. وبعد سفر الأقطاب المذكورين تجمع لدى الأمير فيصل جيش من البدو والعقيل (1) وتسلم الأمير الذخيرة والسلاح اللازم وتهيأ للسفر بجيشه فأقيم لذلك احتفال كبير يوم سفره حضره قائد الحملة الحجازية فخري باشا ومحافظ المدينة بصري باشا وتليت الخطب بالدعاء بالتوفيق والنصر للأمير وصدحت له موسيقى الجيش.
وتوجه الأمير (2) من المدينة تاركاً وراءه الأمير علي أخاه الأكبر (3) وكانت الأنباء قد وردت بقيام الشريف الحسين بالثورة في 9 شعبان 1334 بإطلاق رصاصة من مخلوانه بالقصر (4) في يوم سفر الأمير فيصل ارتحل الأمير علي في الليل وعسكر بالفريش (بئر علي) لتلقي الأوامر من والده كما توجه الأمير فيصل إلى والده لتلقي أوامره لتشكيل جيش الشمال الذي قاده الأمير.. واتخذ مقره بالعقبة.
وبعد أن تلقى الترك الطعنة من العرب صدر الأمر الهمايوني بتعيين الشريف علي حيدر باشا أميراً لمكة فوصل الشريف حيدر إلى المدينة واستقبل استقبالاً حافلاً ومكث أياماً للتوجه مع الحملة إلى مكة ولكن هيهات له ذلك ومن وراء ابن عمه الشريف الحسين بوارج الإنكليز والجيوش الجرارة فرجع كما جاء بخفي حنين.
وفي هذه الأثناء قفل طريق جدة وينبع إلى المدينة واتصل بعلم فخري باشا أن بعض أشراف بني حسين وكبار بني علي وبني عمرو متصلون بالشريف بمكة للقيام بضرب المدينة فأنذر سكان العالية (قباء وقربان والعوالي) بالنزول إلى المدينة، وكان كبار الأشراف كالشريف شحاد والشريف ناصر قد هربوا في الليل مع الكثيرين من رجال القرية وبقي المقعدون من النساء ومن لا قدرة له على الفرار كما بقي من وجوه أهل المدينة الشيخ أبو البركات الأنصاري وأهله في بستانه (الناعمة) وبعض كبار بني علي وبعض أشراف بني حسين. وبعد صدور الإنذار المذكور خرج طابور من الجنود تتقدمهم فرقة من سلاح المهندسين لضرب القرى المذكورة وسلطت المدافع على تلك القرى وكانت هذه بداية المأساة فقتل أشخاص كثيرون ونهب الجند بيوت القرية. ودافع الشيخ أبو البركات عن نفسه وأولاده وقتل رحمه الله. ثم شرع فخري باشا بالقبض على كل من وقع عليه الظن باتصاله بالشريف.
وكنا قد قدمنا أن الأهالي كانوا شبه أحزاب ـ فأخذ بعضهم يرمي البعض الآخر لدى الباشا فقبض على الكثيرين منهم جماعات جماعات وسيقوا للسجن ومنه أرسلوا في القطار إلى دمشق ليمثلوا أمام جمال باشا السفاح وأذكر ممن قبض عليهم (السيد زين صافي الشيخ مأمون بري، السيد عبد المحسن أسعد، الشيخ طاهر سنبل، الشيخ زين بري، الشيخ عمر كردي، محمد حمدوه، إبراهيم حمدوه، سعد الحري، السيد حبيب الله، السيد محمود أحمد، والسيد أحمد الفيض آبادي، والسيد عبد الله كندواني، وداود عرب، وحسين عرب، وعلي كابلي، وصادق كابلي، ومحمود كعكي، وعبد القادر كردي وغيرهم ممن لا أحصي عدهم. وقد ذهب أغلبهم إلى رحمة الله. ولما وصلوا إلى دمشق ومثلوا أمام جمال السفاح أراد الفتك بهم لولا أن تلقى أمراً من أنور باشا بإجلائهم متفرقين إلى الأناضول والرومللي فأحيلوا من دمشق إلى استانبول وكوتاهية وأدرنة وغيرها من البلاد وأفرج عنهم بعد انتهاء الحرب، ولما قل ورود المؤن إلى المدينة استصدر فخري باشا أمراً بإجلاء أهل المدينة إلى الشام وأطرافها فصدرت الأوامر إلى أهالي المدينة بالسفر جماعات جماعات لدى قيام كل قطار إلى الشام أفواجاً افواجاً والبعض منهم يتسلل خفية بالليل إلى معسكر الأمير علي بالفريش ومنها إلى مكة أو جدة أو ينبع البحر واستمر الإجلاء ما يقرب من سنة.
هذا، وإن بعض سكان الأربطة والمدارس سيقوا ليلاً ولم يأخذوا غير ما يلزم من ألبستهم ومتاعهم، والبعض منهم كان يقبض عليه من الأسواق ويساق إلى المحطة، وكم فرق بين الوالد وولده وذويه في الوقت الذي شحت فيه وسائل المعيشة واختفت الأقوات من الأسواق.
وفي تلك الآونة خطر للباشا أن يهدم حوالى المسجد النبوي ويقوم بتوسعة أطرافه مسافة خمسمائة متر، فشرع في الهدم واشتغل في الهدميات كثير من الجنود والسكان من النساء والرجال والعلماء الأجلة، ووصل القطار حتى باب السلام لحمل الأتربة والأحجار، قد عرض أصحاب الأملاك بقيمة بخسة من الورق التركي (5) فقبض بعضهم تلك القيمة وبعضهم لم يقبض (6) وفي آخر سنة 1335هـ لم يبق بالمدينة غير زهاء مائة شخص منهم القاضي وكاتبه ومأمور بيت المال وإمام المسجد والمؤذن وأغوات الحرم وبعض الفلاحين وبعض المقربين من الباشا (7) وبعض المختفين في البيوت.
وكان والدي عبد السلام وشيخنا عبد القادر الشلبي والشيخ أعظم حسين العالم والملا صفر البخاري والشيخ مسعود المجددي وغيرهم من الذين بقوا مختفين في بيوتهم يشربون من البئر ويأكلون بعض الخضراوات والسويق وبعض التمرات وقد يتحصلون على خبز الجنود بمجيدي (8) للرغيف الذي لا يتجاوز خمسين درهماً مخلوطاً بالشعير والكرسنة، وقد أكل الناس ما بقي من الماشية الهزيلة وجلود الحيوانات حتى القطط الميتة وقيل إنها أكلت لحوم الأموات من البشر أيضاً وقد هربت أنا (9) وأخي لأبي إلى الشام والتحقت أنا بأهل أمي هناك لأن والدي أصر على بقائه بالمدينة معاهداً الله أن لا يخرج بعد أن نوى الهجرة إليها.
أما من سافر إلى مكة من الأهالي فكان حظه أوفر ممن سافر إلى الشام فقد كانت الأرزاق والأقوات متوافرة هناك عدا أن الشريف الحسين أجرى عليهم مرتبات وإعاشة خاصة مدة بقائهم هناك. وإن كانت الدولة في سورية والأناضول أجرت إعاشة للمهاجرين أيضاً هناك..
كان فخري باشا قائداً مهيباً ومحباً للبقاء بالمدينة مهما كلفه الأمر فجعل يرتب جنوده ويقوي من حاميات المدينة وقلاعها المحيطة بها وكان يخرج بسيارته في جولات مع فرقة من الجنود المسلحين.
وفي ذات مرة ذهب إلى ينبع النخل ولكنه لم يجسر أن يصل إلى البندر (ينبع البحر) وقد استخدم الجنود في جميع مرافق الحياة، فكان منهم النجارون والخياطون والميكانيكيون والممرضون والغسالون، وكان لديه من الذخيرة ما يكفي لحرب طويلة، كما جمع من الأقوات ما يكفي الجند سنة واحدة وكانت رغبة الاتحاديين أولاً بإخلاء المدينة والانكماش بقوتهم في ميادين سورية وفلسطين، بيد أن قرارهم الأخير كان الإبقاء على المدينة كحامية للدولة في مؤخرة جيشهم الرابع بقيادة جمال باشا، وكان اسم فخري باشا في ذلك الوقت يلقي الرعب في قلب الحضري والبدوي، معاً وكان مركز قيادته بالتكية المصرية مكتوباً على بابها في لوح كبير (حجاز قوة سفرية سي قومندا نلغي قرار كاهي) وترجمتها (مركز قيادة الحملة البرية الحجازية) وكان المار أمام التكية ينكمش خوفاً حتى يمر بسلام، وقد كان برفقة الباشا نخبة من الضباط العرب كغالب بك ومهدي بك وعاهد بك وحسني بك وكانوا غير مرتاحين لتصرفات الباشا ولكن ماذا يفعلون والباشا عنيد في آرائه مستبد بأوامره وكثيراً ما قتل من الأهالي والجنود ممن لا ذنب لهم يوجب القتل.
قدمنا أن الأمير علي بن الحسين عسكر بالفريش (بئر علي)، وأخذ مخيمه يكبر يوماً فيوماً حيث كان ملجأ للفارين من الأهالي وسنداً للبدو ومشايخ العربان فكان بدوره ينظم حملات صغيرة على جنود الترك المحيطين بقلاع المدينة وكانت أشبه بحرب عصابات.
أما الأمير فيصل قائد جيش الشمال فكان مقره بالعقبة ووكيل قيادته الشيخ يوسف خشيرم فكان يتلقى الذخيرة والسلاح والأموال من البواخر الإنكليزية وكان مخيمه يسمى (بالعرضي) (10) ، وكان الشيخ يوسف هذا يوزع صناديق الذهب على البدو ومشايخ العربان وكان العرضي عرضة لضرب الطائرات الألمانية فكثيراً ما كانت تلقي بقنابلها على تجمعات البدو في العقبة وغيرها من مخيمات البادية هناك.
ولننتقل بك أيها القارىء لوصف أحوال من أجلي من الأهالي إلى الشام فقد كان القطار يحمل فوجاً فوجاً يرمي بهم مرة في دمشق ومرة في حمص وحماة وقطنا ومرش والبعض إلى ولايات الأناضول مشتتين في كل مكان من جهة ولعدم التأثير والضغط على أهل المدن من جهة أخرى وأجرت لهم الدولة جرايات خفيفة: رغيفاً لكل شخص وليرتين ورقاً (مجيديين) في كل شهر: (قوت لا يموت) وهأنا أصف ما شاهدته في دمشق حيث كنت من ضمنهم.
قدمت أني فررت من المدينة بناء على عدم سفر والدي وإزماعه البقاء بالمدينة حيث سمع الحديث الشريف: من صبر على لأوائها وجبت له الجنة وهكذا كان الصابرون. هربت في أواخر عام 1335 في شهر ذي القعدة وانحشرت في القطار مع المسافرين إلى دمشق ولم يتنبه لي أحد منهم حتى تحرك القطار، وكان بعضهم من معارف الوالد فأرادوا إرجاعي للمدينة حيث كنت صغيراً لم أتجاوز الثالثة عشرة غير أن ضابط القطار التركي أصر على بقائي معهم وكنت لا أملك إلا قرشاً واحداً وثوبي الذي على جسدي فكان الركاب يطعمونني معهم من الخبز الجاف و(البقسماط) وبعض الثمرات، وكان القطار يمشي بالحطب بطيء الحركة فوصلنا مدائن صالح بعد ثلاثة أيام وهناك علمنا بانقطاع السكة لنسف جزء كبير منها، وكان في القطار السابق مهاجرون من المدينة ومنهم الشريفة عائشة جمال الليل غير أنهم لم يصابوا بسوء، وقد وجدنا بالمدائن طابوراً من الجيش التركي وفريقاً من جنود ابن الرشيد الذي كان موالياً للأتراك فبعث بقسم من جنوده لمعاونة الدولة وفي الوقت نفسه بعث الإنكليز بالكولونيل لورنس لتخريب السكة وحض البادية على الثورة فكان البدو يضعون الديناميت تحت قضبان السكة فإذا مشى القطار على السكة انفجر بما فيه، وكان القصد من التخريب قطع خط الرجعة عن حامية المدينة وحصر جنود الترك هناك.
مكثنا في المدائن ما يقرب من نصف شهر حتى تم إصلاح الخط وتحرك القطار بنا قاصداً تبوك، وبعد وصولنا لتبوك علمنا بخراب آخر لحق بالخط فجلسنا مقدار أسبوع وأدركنا عيد الأضحى هناك وأخيراً قمنا من تبوك إلى عمان. ولتضجر بعض المسافرين نزل قسم منهم خفية فنزلت معهم في عمان بيد أني اشتقت إلى أهلي بدمشق فيممت المحطة في اليوم الثاني وسألت عن موعد القطار الذاهب إلى دمشق فلم يكن هناك غير قطار محمل بالجنود فانزويت في أحد أركان العربات، فالتقيت بزميلي الأخ عبد الكريم ومحمد أركوبي ومعهما والدهما الشيخ حمزة رحمه الله فسألني عن أحوالي فزعمت له بأن والدي قد توفي وأصبحت مشرداً قاصداً أهلي بالشام فرق لحالي وصحبني معه في العربة مع الجنود وكان غير مصرح للأهالي بالاختلاط مع الجند، فكان المفتش يهددنا بالنزول فكان يردد لهم هذه العبارة (بن مهاجر) أي نحن مهاجرون. ولما وصل القطار لمحطة القدم أشاروا علينا بالنزول وكان الوقت ليلاً فنزلنا نحن الأربعة وأخذنا في طريق الميدان فذهبوا لبعض معارفهم هناك ومشيت وحدي قاصداً الصالحية حيث سكن أهلي لحفظي لعنوانهم: (الصالحية جوار ضريح محيي الدين العربي) فطفقت أمشي حتى كلت قدماي ووصلت في مسيري إلى المرجة (ساحة الشهداء) وهناك ارتميت بلا وعي أمام أحد الدكاكين المغلقة وأصبت بالأنفلونزا بسبب البرد والتعب ولم أفق إلا بعد شروق الشمس، فقمت اسأل عن طريق الصالحية وبدأت أمشي ما يقرب من ساعة حتى وصلت إلى الجسر أول طريق الصالحية وهناك رأيت أمام باب حانوت العم عبد القدير والد أخي عبد الحميد عنبر فتلقاني بالسلام، وسألني عن الوالد فانفجرت باكياً وحكيت قصتي باختصار مسبباً له هروبي بسبب زوجة الوالد وشجاري معها وجمع الله شملي بجدتي وخالاتي وخالي هناك، وكان دليلي وصديقي أخي عبد الحميد عنبر فكان يستضيفني بقروشه ويذهب بي إلى الأسواق حتى مصادفة أن التقيت بوالد عبد الحميد رحمه الله فقد انتقل أهل والدتي من جوار ضريح ابن عربي إلى حارة الأكراد بالزينبية في عمارة جميلة عبارة عن دارة تابعة لأحد زعماء الأكراد كان منفياً من السلطات التركية غير أنهم أخرجونا منها بعد شهرين..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :990  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 26 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج