شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-7- (الشخصية السياسية)
عبد الله بلخير رجل سياسة، ورجل إعلام، ورجل تاريخ.. وتجلت تلك المظاهر السياسية والإعلامية والتاريخية في شخصية شاعرنا وأديبنا وبشكل واضح بارز منذ التحاقه بالجامعة الأمريكية في بيروت، وما قام به آنذاك وما أسند إليه من مهام عربية، وما أنجزه، كما بينّا ذلك في مكانه وحينه. وسيبدو لنا كتلة من الحماسة والحيوية والطاقة المتقدة دوماً بالوطنية والعروبة والإسلام، في كل تحركاته وأقواله ومواقفه ولقاءاته بأعلام السياسة والفكر والصحافة.
لهذا فليس كثيراً عليه أن يلتحق بعد عودته من الجامعة مباشرة بالشعبة السياسية بديوان الملك عبد العزيز، وأن يكون مسئولاً بقسم شؤون الإذاعة والصحافة طيلة أعوام الحرب العالمية الثانية، ومترجماً مرافقاً للملك عبد العزيز في لقاءاته مع الزعماء والسفراء والوفود الذين يزورون الملك عبد العزيز، ثم بعد ذلك يتقلد مهمات رسمية ومناصب عديدة، ولنوردها للذكرى، وإن هي لم تعد خافية على قارئنا فهي من المؤثرات في تكوين شخصيته السياسية.
رافق الأميرين فيصل وخالد في الوفد السعودي الذي زار، نيابة عن الملك عبد العزيز، الرئيس روزفلت في واشنطن، والمستر تشرشل في لندن وذلك عام 1943، ثم في لقاء الملك عبد العزيز بهذين الزعيمين في مصر عام 1945م.
وأسندت إليه أعمال عديدة بعد ذلك منها: رئاسة مكتب شؤون الجامعة العربية والمؤتمرات الدولية في ديوان الملك عبد العزيز.
وعين رئيساً لديوان إمارة الرياض بضع سنوات، عندما تولى الإمارة الأمير سلطان بن عبد العزيز، ثم عين سكرتيراً رئيساً بالنيابة لديوان الملك سعود يوم كان ولياً للعهد، ثم بعد أن تولى المُلك. كما رافقه في جميع رحلاته الخارجية، قائماً بهذه الأعمال، كما يُكلف بإنشاء المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر في عام 1374هـ، حيث أصبح مسئولاً ومشرفاً عليها. وفي عهده صدرت أكثر الصحف السعودية، ونهضت وسائل الإعلام في وثبات قوية شاملة.
ثم عيّن بعد ذلك وزير دولة لشؤون الإذاعة والنشر في عام 1381هـ، فهيأ وسائل الإعلام حينئذ لتنبثق منها وزارة الإعلام، فكان بهذا أول وزير إعلام في المملكة العربية السعودية.
ورجل هذا حجمه وثقله وشأنه ستكون له رؤية سياسية، وإعلامية، وتاريخية، وقد تتداخل هذه الرؤى في بعضها البعض، فضلاً عن رؤى أخرى وأمور دينية كما رأينا وأدبية وغيرها سنوردها أيضاً في مكانها من هذه الدراسة، وإن شؤونه أو رؤاه السياسية مكملة لما بدأناه من شؤون مع آل سعود.. وكما بدت لنا في هذه الذكريات.
لا يتعمد عبد الله بلخير الشؤون السياسية مع أمته العربية تعمداً، ولا يقصدها قصداً، وإنما ينساق مع مناسبة الحديث الأساسي، فنجد أن الضرورة تلزمه بالدخول في عالم السياسة والمواقف السياسية، والتحليل السياسي، ورغم ذلك فلا تجيء مسهبة مملة، وقد تجيء تمهيداً للكلام عن شخصية من شخصياته التعليمية أو الفكرية أو الدينية، وما أكثر تلك الشخصيات التي احتشدت في كتاباته فكانت حاضرة في ذاكرته وذكرياته.
تحدث طويلاً عن رائد من رواد المدارس الأهلية في الحجاز، مؤسسة مدارس الفلاح (الحاج محمد علي زينل)، ولكنه يعرف أن صورته لا تكمل لمستمعه أو قارئه إلا بالحديث عن الظروف السياسية التي وافقت العالم الإسلامي في ذلك الحين، أي إبان الحكم العثماني والاستعمار الأوروبي، فأبان أن أرض الحجاز كانت في القرن الهجري المنصرم وأواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن الميلادي الحالي مجرد ولاية من ولايات الدولة العثمانية، وأن الحرب العالمية الأولى قذفت بمساوئ عديدة وزادت الطين بلة، بل مزيدين:
"مزيد من الضعف للدولة العثمانية... ومزيد من المحن والجهل والخرافات والفقر في الولايات التابعة لها ومنها الحجاز". بينما الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي والهولندي، كان يسعى ويعمل بكل نشاط "في محاربة الإسلام والمسلمين، ومحاصرة أبناء العرب وأبناء الإسلام بالجهل والتناحر والخرافات والتفكيك حتى لا تقوم لهم قائمة، ويظلوا أبد الدهر تحت ضربات الاستعمار، وسيطرتها وإدارته ومطامعه وبطشه، تمهيداً لانهيار الدولة العثمانية، ثم الاستيلاء على أجزائها ومحو الاستقلال والحرية عنها".
وبعد هذا التحليل السياسي للأوضاع العربية وبخاصة في الحجاز، أصبح القارئ مهيئاً للاستماع إلى موضوع الذكريات في شخصية مؤسسة مدرسة الفلاح. والعملية نفسها يجريها مع أمير البيان (شكيب أرسلان)، لأن هذا العَلَم الفذ له صلة كبيرة في السياسة والملك عبد العزيز، عندئذ سيصبح تحليله السياسي ذا بعدين: بعد وطني يصنعه الملك عبد العزيز مع المناوئين له. وبعد عربي وإسلامي مع قاعدة عرب وإسلاميين يواجهون تحديات العصر السياسية والاستعمارية، وفي الحالين يبدي لنا السياسة التي ينتهجها الملك عبد العزيز في مواقفه السياسية والوطنية والعربية والدولية.
ثم بعدها يحسن أديبنا بلخير الدخول في عالم شكيب أرسلان المبدئي وموقفه السياسي، ومحاربته للاستعمار، في إقامته في (جنيف) واتصاله بالسياسيين والمفكرين والصحفيين بعد إصدار مجلة (الأمة العربية).
وقد يتعرض عبد الله بلخير للأحداث أو المناسبات التي تقوده إلى الحديث السياسي إما من السائل الذي يدير ويحرك ذكرياته، أو لأن المقام يدعوه على الوقوف عند الخطاب السياسي. وفي كل الأحوال فإن الكلام السياسي، ومفردات السياسة من أديبنا عبد الله بلخير لها طعم شهي مغر تجعل السامع أو القارئ يطلب المزيد، لأنه يتكلم بطبيعة عربية نقية لا يكدرها أمر من أمور السياسة المعاصرة التي تعج بالتشنج والتهويل والعقد التي تودي بأهلها إلى متاهات مزعجة، وبخاصة وهو يتحدث عن علاقات الدول العربية ببعضها، وخلافات حكامها، والإساءة لحسن الجوار، وافتعال الأسباب لإثارة البغضاء.
وإذا كانت شخصية الملك عبد العزيز برزت بشكلها الطبيعي في العلاقات العربية المجاورة، فإنها تبرز بشكل دقيق ويقظ في العلاقات السعودية والبريطانية. وقد روى لنا شيئاً من ذلك الحوار الدائر بين الملك عبد العزيز وتشرشل في الفيوم، وعلى المدمرة الأمريكية الراسية في البحيرات المرة أما الإسماعيلية من قناة السويس، ولا سيما ما كان يرويه المستر تشرشل للملك عبد العزيز وإشارته لخطابه الذي ألقاه قبل يومين في أثينا، وسبق أن علمه من تسجيلات أديبنا بلخير، ويتخذ الخطاب السياسي وجهين أو طابعين:
الطابع الإعلامي، والطابع التقويمي. فيجمع يقظة العملية الإعلامية في المملكة العربية السعودية، وتقويماً لشخصية الملك عبد العزيز الدولية القوية. ولهذا وجدنا الملك عبد العزيز يرد على تشرشل بالقول: (إنني قد عرفت فحوى خطابكم المشار إليه منقولاً إلي من الجهاز الذي أصحبه معي، والذي نقله من إذاعتكم لندن) فأعجب المستر تشرشل بما سمع من أن الملك قد أحاط بما جاء في خطابه قبل ليلتين وما جاء في فحواه "خلاصة موجزة عن ملامح ما تقرر في مؤتمر يالطا: وهو إنشاء مؤسسة عالمية تسمى هيئة الأمم المتحدة في إحدى مدن الولايات المتحدة الأمريكية، بدلاً عما كان يسمى بعد الحرب العالمية الأولى بعصبة الأمم في مدينة جنيف".
وكانت تلك الأحاديث السياسية الإعلامية مدخلاً لإطلاع تشرشل وإيدن ومن معهما على عادة الملك في اليقظة والعزم، ومتابعة أخبار الدنيا ودوران الحرب ساعة بساعة...!!
كما كان هذا من العوامل الأخرى للإعجاب، وهي كثيرة جداً بهذه الشخصية العربية اليقظة التي تدير دفة بلادها في تلك الزوابع والأعاصير العالمية، التي تكسر ما طال وما اشمخر وما علا مما يقف أمامها. وسلم الله ونجَّى المملكة العربية السعودية مما وقع للبلدان العربية المحيطة بها من جرها إلى تلك الحرب على غير رضا منها ولا قدرة لتفاديها".
ولقد كان أديبنا عبد الله بلخير يعرج من حين لآخر على نشأة الحركة القومية العربية كلما تطرق للاستعمار والدولة العثمانية في نهاية مجدها وقد أصبحت رجلاً مريضاً، فضلاً عن قوميات أخرى ظهرت بظروف تماثل ظروف العرب السياسية، بل ربما كانت الحركات القومية في بعض الدول الأوروبية عاملاً محركاً لظهور البذور الأولى للفكرة القومية عند العرب. وربما كان ثمة اتفاق أوروبي لضرب الدولة العثمانية ولا سيما بعد أن أشرفت على الأفول. ورغم أن بلخير تميز بفكرة القومي العربي فإنه لا ينسى عظمة الدولة العثمانية وهيمنتها على دنيا الغرب والأوروبيين، وفضلها على الإنسان العربي، فيقول كلاماً لا يخلو من الحس التاريخي المرحلي:
"في تلك العهود التي كانت الدولة العثمانية تمد ظلالها على إمبراطوريتها الشاسعة الواسعة في شرق وشمال أوروبا وفي غرب وجنوب آسيا، كان العربي يسير من عدن المعروفة على المحيط الهندي صاعداً في أرض مستمرة إلى الشام ولبنان والأناضول وآسيا الصغرى، ومن ثم يستمر سائراً ومسافراً – إذا افترضنا أنه على قدميه – إلى بلغاريا ورومانيا، وما يسمى اليوم بيوغوسلافيا، وإلى المجر حتى يصل بعد ذلك إلى أسوار مدينة (فيينا) عاصمة النمسا. وفي كل هذه الرحلة لا يحتاج العثماني والعربي الذي كان عثمانياً إلى حمل جواز سفر ولا هوية، لأنه كان يمشي في بلاده وتحت علمها إلى أن يصل كما قلنا إلى حوض نهر الدانوب في فيينا".
ولهذا لا بد لأديبنا من وقفة يقف فيها عند دور الدول الغربية في تفتيت وحدة الإمبراطورية العثمانية، وبالتالي إثارة النعرات القومية للعرب وغيرهم في الداخل والخارج. كل ذلك للخلاص منها. وبخاصة ما صنعه (مكماهون) من ألاعيب استعمارية.
وقد دخل بلخير في حديث دقيق واضح – اقتضته مناسبة الاستطراد – وتحليل وتفسير لكثير من الظواهر السياسية للعرب، وهم يتأرجحون بين الاستعمار الأوروبي وبين الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى التي انتهت بخلاص العرب من الحكم التركي.. ليدخلوا تحت لواء حكم استعماري جديد تقاسم الكثير من الدولة العربية وإن كان قد غنم بالقسم الآخر قبل تلك الحرب. ولا يغفل عن تلك اللعبة التي أقرت وعد بلفور، والنهاية المعروفة للعرب.
ويبدو أن ذلك الاستطراد كله جرّه إلى ظهور الجمعيات التركية والعربية، وليقف أخيراً عند (جمعية العروة الوثقى)، والتي سيتحدث عنها طويلاً من حين لآخر، لأن أكثر المثقفين العرب والسياسيين العظام والطلاب الذين مروا بالجامعة الأمريكية قد انتسبوا إليها. وقد أفسحوا له المجال ليكون ممثل الجزيرة العربية فيها.
وقد تستدرجه الأحداث المفاجئة أو المناسبات الحزينة ليخوض في شيء من الجوانب السياسية، كحدث مقتل الملك غازي في العراق وما رافقه من إشاعات وأقاويل، وما أظهره من مواقف وآراء. مثل استياء الجمهور من المفوضية السعودية في بغداد، لأنها لم تنكس عَلَمها حداداً على وفاة ملك العراق، وذهاب أديبنا بلخير مسرعاً إلى الوزير السعودي المفوض (حمزة غيث) ليخبره بما شاهد، ولكن يطمئنه قائلاً: (إن العلم السعودي يحمل شهادة التوحيد، فلا ينكس لموت أحد ولا يرفع لمولد أحد)، كما يستدرجه مشهد الجنازة أو الحدث الجلل ليخوض في مقولة زوجة الملك غازي كان يوصي دائماً بأن يكون الأمير عبد الإله، فيما لو قدر الله عليه شيئاً الوصي على ابنه الملك فيصل وعلى عرش العراق"، وأيد نوري السعيد وأعضاء وزارته ما سمعوا، وأصدروا به بلاغاً رسمياً.. وبذا انقطع الجدل بين من يرى أن الوصي الأمير عبد الإله، أو الأمير زيد بن الملك حسين، وهو عم الملك غازي الذي كان يومئذ كبير العائلة الهاشمية في بغداد.
ويبدو أن أديبنا يعزي بالمصاب، ويشارك في تشييع جثمان الراحل. وتمتزج مشاعر الأسى والحزن والرثاء برؤاه السياسية، فقد استدرج بعض القرائن لذلك الحدث، وعاد إلى يوم وفاة الملك فيصل – والد غازي – في بيرن عاصمة سويسرا وذكر تلك الواقعة. كما قاده الحزن أيضاً على الملك فيصل إلى موقف الملك عبد العزيز، فوصف حزنه والكلمات الشعرية التي نقلتها جريدة أم القرى التي كان يحررها (رشدي ملحس ومحمد سعيد عبد المقصود) من شعراء عرب وسعوديين. وهذه الأحداث والمصائب الحزينة التي ترجمت موقفاً سياسياً وشعراً حزيناً صادقاً لها انطباع وجداني ووطني ورؤية سياسية وعربية من أديبنا بلخير، فهي عادة الأصلاء الذين تهتز أوتار قلوبهم حالما يلامسها خفق المحن ووقع الشجن، وظهور الأساة الذين يداوون ويخففون من آلام الأسى والشجن، ولذلك سيكون انطباعه عما كان ورؤيته عما صار من أحوال العرب وحكامهم.
"وهكذا كان الرعيل المعاصر الأول من رجالات العرب وملوكهم وأمرائهم وزعمائهم على مثل هذا المستوى من الشمم والنخوة والإخاء والقربى.
وكان العالم العربي في تلك الأيام (على دين ملوكه)، فكانت المحبة والصداقة والإخاء راسخة في قلوب جماهيره، يتوادون ويتراحمون ويتزاورون، ويعلي كل منهم من مقام الآخر، بلا حسد ولا حقد ولا شتائم ولا مهاترات، هذا إذا لم نتعرض إلى ذكر حمل السلاح بين حكوماتهم. كان ذلك:
يوم كنا ولا تسل كيف كنا
نتهادى من الإخاء ما نشاء
رعى الله تلك الأيام، ورعى من مات ومن لا يزال حياً، وغفر الله لجميع من مضى ووفق الله جميع من بقي من جماهير الأمة العربية وقادتها، وألهمهم الرشد والرشاد".
وإن هذه المشاعر سنجد مثلها كثيراً في ذكريات بلخير وفي حسه الوطني والعربي والديني والإنساني.. وكلها ستتضافر من حين لآخر لتشكل سيمفونية رائعة في السياسة والوحدة والإخاء العربي.
وإذا كان لعبد الله بلخير أحكام رائعة وتقويم صائب للشخصيات التاريخية والوطنية والفكرية والأدبية، فإنه بالمثل له آراء في بعض رجال التاريخ الحديث ممن شوهوا صورة الحضارة الإنسانية وقيم ومبادئ الأمم أمثال: (هتلر، وموسوليني)، وفي بعض هذه الآراء والأحكام ترجمة ورمز لكل الرجال المصابين بجنون العظمة عبر التاريخ البشري.
فيقول عن (موسوليني) كلاماً زاخراً بالإعلام والمعاني الدالتين: ".. وكانت الغارة الفاشستية في الحبشة قد تحدى بها موسوليني العالم بأسره، وزحف بأسطوله وفيالقه وقواته الجوية على تلك الفريسة التي طالما نادى بأنها من نصيب إيطاليا ومن غنائمها بل، أنه كان يتطاول ويتحدى وينذر ويرهب بأن تكون له جزيرة (كورسيكا) الفرنسية و (تونس) العربية و (جيبوتي) العربي و (ألبانيا) الإسلامية البلقانية. ولقد أرهب بهذه الحملة بريطانيا وفرنسا، ثم أقدم على الزحف على الحبشة وخاض مياه البحر الأبيض إليها، وعبر (قناة السويس) وطوى البحر الأحمر بين قرع القنا وخفق البنود، حتى تلقته مستعمرته (أرتيريا)، فنزلت قواته في ميناء (مصوع) وطالب (بالصومال) الفرنسي المجاور لها، وتحدى بكل هذا القوى العالمية بأسرها، ولم تخفه تهديدات إنجلترا ولا فرنسا، وكانت مراحل الحرب الإيطالية الحبشية صاخبة مدوية لم تحول إيطاليا عنها لا عصبة الأمم يوم كانت في (جنيف) ولا الوعد والوعيد. وانفجرت أجواء أوروبا والشرق الأوسط بدعاية مرعدة مبرقة، كان موسوليني يؤججها بخطبه المشتعلة بجحيم تهديداته يقذفها من شرفة قصر البندقية في روما على الألوف المؤلفة من شباب الفاشية الذين كانت تتلاطم بهم الساحة المحيطة بذلك القصر، ثم تنقلها وسائل الإعلام العالمية، فيتطاير شرر كلماتها إلى الصحافة والإذاعات في كل زاوية من زوايا العالم المسموعة منها والمقروءة والمرئية".
وتطول استطرادات أديبنا السياسية عن الحبشة وتاريخها ورجالها وحكامها برؤى معاصرة تمتزج فيها الشؤون التاريخية بالشؤون الإعلامية وآثارها في نفوس الجماهير، وهو الرجل الإعلامي كما سنبين هذا الجانب من شخصيته في قسم خاص.
وإن انتصار (موسوليني) على إمبراطور الحبشة (هيلاسلاسي) واحتلال بلاده، ليثير في بلخير رؤية جديدة معاصرة حول الصراع بين الحضارة والتخلف وبين وسائل الحروب الحديثة والقديمة.
كما أن تلك الحروب تجره إلى تصوير مشاعر الشباب السعودي آنذاك، ثم العربي، وهي مشاعر تنبع من الأصالة العربية والإسلامية والرؤية التاريخية التي لا تنسى صلة العرب والمسلمين الأوائل بالحبشة، وبخاصة الصلة التي ترتبط بالهجرة الإسلامية الأولى. ويجره الاستطراد ويقوده إلى الوقوف عند معلومات وحقائق تاريخية ذات قيمة كبرى للقارئ العرب المعاصر الذي يمكن أن يكون قد نسي بعضها، أو غابت عن تفكيره على نحو ما. فيأتي عبد الله بلخير ليعيد له أنصع ما في تاريخ العرب والمسلمين، وبخاصة في بدايات الدعوة الإسلامية وما كانت تلاقيه من عنت وجمود ومقاومة ضارية.
وطالما حديث الحبشة مقرون بتاريخ الدعوة، فلا بد أن ينتهي تحليله السياسي واسترجاعه التاريخي بتجسيد للمشاعر والعواطف مرة ثانية، ولكن برؤية جديدة يتمخض عنها دفقات شعورية لا تنقصها الفطرة العربية السليمة التي تندفع دوماً مع كل ما له وفيه نفع للعرب والمسلمين.. وبه تتحدد المواقف والدوافع من الأعداء، وتتقرر الغايات والأهداف لأصدقاء العرب والمسلمين.
"وعلى هذه الصلات والعواطف الموغلة الجذور في القدم قامت قيامة العرب المعاصرين ضد المعتدين على الإمبراطور وعلى بلاده، برغم ما اقترفه ذلك الإمبراطور وسلفه الإمبراطور (منليك) من محو الإمارات الإسلامية في الحبشة، وأرتيريا وجيبوتي والصومال.. يعينه ويساعده على ذلك أولياؤه وأنصاره وحلفاؤه وحماته في أمريكا وأوروبا بأسرها، لا نستثني منهم ملكاً ولا أميراً ولا بلداً ولا شعباً، لا حباً في الإمبراطور، ولكن حماية له ولبلاده من المسلمين المحيطين به والموتورين من أعماله".
ويعلق بلخير على النزعة العاطفية عند العرب ولا سيما في تقويم الأمور السياسية والتاريخية، ويستدل بآراء ابن خلدون على ذلك. ويكرر تلك الفكرة مرة أخرى حين تنهار العواطف حيال الموقف العربي من الحبشة.
ولأديبنا عبد الله بلخير الكثير من التحليلات السياسية وإصدار الأحكام على رجال الدول العظمى إبان الحرب العالمية الثانية. فحين غزا موسوليني الحبشة... كانت له وقفة سياسية من الدول العظمى، وقد انكشفت خباياها، ونوايا رجالها، ومصالحهم، ومطامعهم والتي قد تنشأ فيما بينهم.. وهم في مأدبة يتقاسمون فيها المأكل والغنائم.
ويقول بلغة لا تخلو من التصوير والبلاغة: "واستغاث إمبراطور الحبشة هيلاسلاسي بدولتي بريطانيا وفرنسا اللتين تملكان مستعمرات مجاورة ومحيطة بالحبشة، فلم تجرؤ واحدة منهما على استنفار أسطولها ومنازلته، بل نصحتاه بتقديم شكوى مستعجلة مولولة بدول العالم من على منبر عصبة الأمم يومئذ في جنيف، وهي التي تمخضت عنها نهاية الحرب العالمية الأولى، ووعد بها الرئيس الدرويش نلسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يومئذ، الذي ضحك عليه حلفاؤه وأصدقاؤه في تلك الحرب: بريطانيا وفرنسا، فعاقبهما الله في مؤتمر (يالطا) في نهاية الحرب العالمية الثانية بإقصاء فرسنا عن حضور تقسيم العالم في المؤتمر المذكور، ويتآمر ستالين الصاعقة الباقعة على تشرشل نمر الحرب وضخم الغرب بالضغط على حليفه روزفلت بأن تكون الحصة العظمى من نصر الحرب لروسيا، وأن تصفى الإمبراطورية البريطانية من الوجود الذي لا تغرب عنه الشمس. تم كل هذا في (يالطا) في غفلة مختلسة عن تشرشل انتهزها ستالين وأقنع بها روزفلت وهو على أبواب الآخرة. وخرج ستالين من المولد بالحمص كله ومعه عرائس المولد كلها وهي دول البلقان، وواحدة بواحدة، والباديء أظلم. وتلك الأيام نداولها بين الناس".
وإذا كان عبد الله بلخير قد أطال الحديث عن الحرب العالمية الثانية لانعكاساتها على مختلف شؤونه العامة ولا سيما السياسية، فقد وقف عند آثارها وأبعادها على الفكر المعاصر، ولهذا وجدنا أفكاره تسمو وتتسع لتتصل بالكون والحياة والإنسان عموماً. وهي نظرة إنسانية جديدة أخذ من خلالها يقوم الحضارة الغربية التي أزفت بالأفول، وأن سقوطها حتمي. فالحضارة التي لا تحترم الإنسان وكرامته هي حضارة مادية مدمرة شريرة. ولو قرأنا له نصاً في مفهوم الحضارة الغربية – وله نص مستفيض – لتبدّت لنا أحكامه وتقويمه لها، ولا سيما حين يستشهد بنص قرآني يظهر زيف الحضارة المادية، فيعلق عليه بمنظور ديني إسلامي، ويستهجن تلك المنجزات العلمية التي غزت الكون والفضاء من أقمار وصواريخ غير قادرة على تسيير الحياة والسيطرة عليها.
ومن هنا فقد كانت نظرته تستوعب جميع المفاهيم والقيم، ولا تقتصر على الأفق الوطني والعربي، وإنما تشتمل على الرؤية الإسلامية الأشمل والأعمق مثلما رأيناه في حديثنا عن شؤونه الإسلامية، وشخصيته الدينية.. وهكذا فحديثه عن الجانب السياسي يمازجه الحس التاريخي والعربي والرؤية الحضارية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :450  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 185 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.