شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قصة زيارة لمركز "قادياني" في أوروبا
توجّهت في اليوم الثاني لوصولي إلى النرويج في سيارة أجرة لزيارة السفارة المصرية بالعاصمة (أوسلو)، حاملاً معي بطاقة التعريف من الصديق السفير ناصر المنقور في "استوكهولم"، ووصلت مبنى السفارة ودخلت إلى قاعة الاستعلامات فيها، وكانت السفارة تتألّف من دورين، الدور الثاني العالي وفيه مكاتب السفير وموظّفيه، فاستقبلتني السكرتيرية النرويجية تسأل عمّا أريد، فقلت لها: إنني سعودي أرجو أن أقابل السفير المصري، فاتّصلت به هاتفياً فجاءها الجواب بأن تسألني عن الغرض من زيارتي له، فقلت لها: التشرّف بمعرفته والسلام عليه، فأخبرته بذلك، ثم قال لي: انتظر، وأشارت إلى كرسي ذهبت وجلست عليها، وبقيت مدّة طويلة في الانتظار، حتى هممت بالاعتذار منها والانصراف، عندما رأت ذلك في ملامح وجهي، اتّصلت مرة أخرى بالسفير، ولا أعلم ماذا قالت، إلاّ أنها قد أشارت إلى السلم الحلزوني إلى الدور الثاني وهي تقول لي: تفضّل، ووجدت على رأس السلم موظفاً مصريًّا شابًّا رحّب بي باتّزان، ثم أدخلني إلى غرفته وأشار إلى كرسي أمرني أن أجلس عليه ففعلت، وقال لي: الحمد لله على السلامة. فشكرته، ولم أعلم هل هو السفير أم موظف من موظفيه، فذكرت له أنني أحمل بطاقة من سفيرنا في السويد لصديقه السفير في سفارتكم ولا غرض لي إلاّ السلام عليه، وتبليغه سلام زميله السعودي والاستفسار عن بعض الأسئلة عمّن يكون في هذه البلاد من الجاليات الإسلامية.
فأخذ مني البطاقة، وقال لي: "والله ما فيش حدّ مسلم في هذه البلاد إلاّ الموظفين في هذه السفارة! أما السفير فهو مشغول في الوقت الحاضر"، وكنت أستمع عبر الباب الموارب لأحاديث السفير مع من كان يتحدّث معه فيما لا يدلّ على أنه عمل، فقلت: هل تجمّعات العمال في هذه البلاد مثل تجمّعاتهم في بلاد السويد، فقال لي: تقصد إيه؟ قلت له: الغالب أن يكون بين العمّال أعداد من البلاد الإسلامية كتركيا ويوغوسلافيا، وبعض بلدان الشمال الإفريقي أو العربي، فقد يكون لهؤلاء شبه نقابات أو نواد يعرفون بها، فقال لي: لا يوجد في النرويج شيء نعرفه من هذا القبيل، فتحرّكت في كرسي متأهّباً للوقوف مستأذناً منه في العودة من حيث أتيت، فقام وودّعني على باب مكتبه وانحدرت في السلم خارجاً من الباب، باحثاً عن سيارة أجرة أعود بها من حيث أتيت.
ولم يتسنّ لي في هذه المقابلة أن أعرف شيئاً ممّا أريد، وأسفت لتسليمي بطاقة الأستاذ السفير المنقور التي كنت أحملها، فقد كان في عدم رغبة السفير مقابلتي بعد كل ما ذكرت ما لم أكن أنتظره، خصوصاً وقد كانت ضحكاته وأحاديثه بصوت عال من غرفته تصل إلى مسامعي، بأنه كان كلاماً أقلّ من عادي، ويندر أن يكون بين إخواننا وأشقائنا المصريّين في سفارتهم في كل مكان من العالم، كما شاهدت ولمست من لا يخف للترحيب بأي عربي يزور سفارة من سفاراته، وهذا شيء لا يحتاج إلى شهادة مني فهم في ذروة الأخوّة والضيافة والمجاملة والمساعدة.
وانتظمت بعد ذلك مع عائلتي في رحلات مما يشرف عليها الفندق للسياح والغرباء، وبقينا بضعة أيام نتجوّل في أحياء "أوسلو" ونتعرّف على معالمها، وقد دوّنت كثيراً من المعلومات عنها وعن بلاد السويد في أوراق من أوراق رحلتي البعيدة.
وأزمعنا السفر من "أوسلو"، وكانت وجهتنا بلاد الدانمارك وعاصمتها "كوبنهاجن"، فركبنا باخرة من بواخر المواصلات المبثوثة بين هاتين العاصمتين عبر خلجان "النرويج" المتشعّبة وجزرها المتناثرة حوالي تلك الخلجان وفي مدخلها ومضايقها، وكانت الباخرة سريعة الجري مكتظّة بالركاب المتوجهين إلى "كوبنهاجن" وقضينا فيها ليلة كاملة، كنّا في صباحها في ميناء "كوبنهاجن"، وتوجهنا إلى فندق "كودان" الذي أرشدنا إليه في زيارتنا الأولى قبل أسابيع عندما وصلناها بطريق القطار الممتدّ بين أمستردام و"كوبنهاجن"، حيث توجّهنا بعد ذلك من "كوبنهاجن" إلى السويد بحراً ومنها إلى "فنلندا" بحراً أيضاً، ثم عدنا بعد ذلك كما ذكرنا إلى "استوكهولم" فـ "أوسلو" فـ "كوبنهاجن" كل ذلك كان في صيف عام واحد.
في العام السابق له كنت مع العائلة في زيارة بريطانيا، وفي لندن قرأت في إحدى الصحف الإنجليزية صفحة مصوّرة عن أوّل مسجد إسلامي يتعالى بمئذنته العالية في قلب مدينة "كوبنهاجن"، وقرأت ما كتب في هذه الصفحة، فإذا بالخبر يحتوي على قيام المسلمين الوافدين إلى "الدانمارك" بإنشاء أول مسجد إسلامي بها، وأن الذي خطّط ورسم المبنى الذي قام بعد ذلك هو مهندس دانمركي سبق له الإسلام واسمه "زكريا سن"، وتذكّرت في الحال أن هذا المهندس هو صديقي الذي سبق له أن هاجر إلى مدينة "الخبر" في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية وأقام بها مهندساً مع بعض الشركات، ثم تعرّفت عليه يوم كنت أتردّد على تلك المنطقة للإشراف على أعمالي في شؤون الإذاعة والصحافة والنشر، وكان قد بنى مسجداً في مدينة الخبر، ولقد تعرّفت عليه هناك، وعرفت أنه متزوّج بسيدة مصرية فاضلة، له منها طفل اسمه "ريان".
وفي إقامتي في مدنية الدّمام، يومئذ بضعة أسابيع في ضيافة محطة سكة حديدية، كان المهندس المذكور يزورني في كل مساء مع أصدقائي الذين كانوا يجتمعون بي يومئذ هناك، وبينهم الدكتور أحمد كمال، وعرفت من سمعة ذلك المهندس واستقامته وشهرة فنّه المعماري وحسن إسلامه ما حبّبني إليه وحبّبه إليّ، وكانت زوجته المصرية تقوم بتعليم اللغة العربية في مدرسة سكة حديد الدمّام لأبناء الموظفين والعاملين في تلك السكّة.
ولهذا فعندما صمّمت الحكومة السعودية على إنشاء أكبر محطة للإذاعة في ذلك الوقت، وكنت مديراً عامّاً للإذاعة والصحافة والنّشر، وقرّرت الحكومة أن أشرف على تأسيس دار الإذاعة في جدّة في طريق الميناء، استدعيت المهندس الدانمركي المذكور "زكريا سن"، وطلبت منه أن يتولّى المسؤولية الكاملة على الإشراف على إنشاء الدار المقامة اليوم في طريق الميناء بجدّة.
فانتقل من الخبر إلى جدة وأصبح موظفاً عندي، يتولّى مسؤولية قيام ذلك المشروع الذي قامت به شركة تسمّى "نجدكو" وقامت دار الإذاعة بجدّة وانتهينا، وغادر المهندس المذكور المملكة عائداً إلى بلاده "كوبنهاجن" في "الدانمارك" ومعه عائلته. لذلك فإنني عندما قرأت تلك الصفحة المصوّرة في الجريدة الإنجليزية، وأنا في لندن وعلمت أن صديقي زكريا هو الذي تولّى قيام ذلك المسجد الإسلامي، في "كوبنهاجن"، حرّرت له رسالة شكر واغتباط وتهنئة على ما قام به، وأرفقتها بصورة من تلك الصحيفة التي تحمل الخبر، وصورة المسجد فيها، ووعدت الرجل أنني عائد إلى جدة بعد نهاية صيف ذلك العام، وأنني سأجيء في مستهل الصيف القادم لزيارة البلدان الاسكندنافية مرّة أخرى، وأنني سأبدأ بالدانمارك، كل ذلك شوقاً إلى رؤية ذلك المسجد والتعرّف على من أقامه من المسلمين، وتجديد المحبة والاجتماع به وبعائلته، وأن عائلتي ستكون معي كالعادة في صيف ذلك العام.
من هنا شددت الرحال في مستهلّ الصيف التالي من جدّة بالسيارة عبر سوريا وتركيا إلى أن وصلت بالقطار إلى "أمستردام"، وزرت جاليتها الإسلامية، ثم ركبت القطار الليلي الذي قضى بنا ليلة كاملة من "أمستردام" إلى "هامبورج"، ثم انتقل بنا تحمله وتحملنا عبَّارة بحرية ضخمة عبر مسافة طويلة حتى وصلنا الأراضي الدانماركية، ومنها تركنا العبَّارة، ونحن لا نزال في القطار، وسار بنا إلى أن وصلنا محطة سكة حديد "كوبنهاجن" نزلنا في فندق "كودان" المشار إليه آنفا.
ولم يكد المقام به يستقر بي ساعة واحدة، حتى أخذت الدليل المصوّر لهذه العاصمة، مما يوضع في مداخل الفنادق وغرفها، وفيه صور النوادي والمباني والميادين والكنائس وغيرها من معالم كل عاصمة، حتى وجدت فيه صورة ذلك المسجد الإسلامي نفسه، كما رأيته في الصحيفة الإنجليزية في العام الماضي، والنشرة المصورة تحثّ على زيارة ذلك المسجد بين ما يزورون من المعالم الأخرى فيها، والتقطت عنوان المسجد ورقم هاتفه واتّصلت به في الحال، مؤمّلاً أن أجد من القائمين على ذلك المسجد رقم هاتف صديقي المهندس زكريا سن، جاءني الجواب على هاتفي من المسجد بلهجة إنجليزية هندية، فأخبرتهم بأنني أريد زيارة المسجد بعد نصف ساعة، فسألوني أسئلة متوالية فيها استفسار عن اسمي وعن بلدي وعن الغرض الذي أرغب تحقيقه من تلك الزيارة، وعندما استغربت أنا هذا السؤال من الرجل المجيب على اتّصالي، ففطن لما أقصد من أنه لا يسأل عن السبب في طلب زيارة المساجد، فارتبك متردّداً، وقال لي بادراً: لأنه لا يوجد مدير المسجد فقلت له: نكتفي بك أنت في أن نزور المسجد ونطّلع على أقسامه، وأن نتحصّل منك على هاتف المهندس الذي صمّمه وهو زكريا سن، فقال لي بتروِّ ودهاء: كيف عرفتم أن من أشرف على بناء هذا المسجد هو من ذكرتم؟ قلت له: لقد عرفت ذلك من افتتاحكم له في العام الماضي!
قال لي: هل حضرتم حفلة افتتاحه؟ لأننا لا نعرف شيئاً عن من ذكرتم أنه المهندس زكريا سن. قلت له: هل هناك مسجد آخر في كوبنهاجن غير مسجدكم هذا؟ قال: لا، هذا أوّل مسجد للمسلمين في المدينة، قلت له: على العموم أنا مشتاق إلى المجيء لزيارتكم، وسأكون لديكم بعد نصف ساعة، فقال: نحن لا نستقبل الزوّار إذا لم يكن المدير موجوداً، فأقفلت الخط وقد رابني من هذه المحاورة الهاتفية ما رابني مما سمعته، فعجلت إلى سيارة الأجرة، ومعي عنوان المسجد حتى وقفت بي على بابه، فوجدت مظهر المسجد الخارجي بمثل ما رأيته في الصورة المنشورة له، ورأيت المئذنة القصيرة نفسها التي تتراءى على ركن من أركانه، ووجدت الباب مغلقاً، فقرعته قرعاً متوالياً، وبعد برهة طويلة فتح لي رجل بالملابس الهندية الباب، مستعلماً عن الطارق، متجهّم الأسارير منه! فقد عرف أني الرجل الذي حادثه بالهاتف، وذلك بالبديهة، فسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام، وهو واقف من دون أن يفسح لي المجال للدخول، فقلت له: أليس هذا هو مسجد المسلمين الذي ذكرته لي بالهاتف، فقال لي: لقد ذكرت ذلك لأن المدير غير موجود، فأردت أن أداعبه، فقلت له: لا حاجة بنا إلى المدير نحن نريد الإمام، لأشير له بأن إمام المسجد لا يسمى مديراً، ففطن إلى ما قلت، وعرف أنه قد أخطأ في هذا التعبير ثم زاحمته داخلاً فلم يستطع أن يصدّني، وقلت له: أريد أن أزور المسجد وأتعرّف عليه، وكأنما شممت فور دخولي ما يفترض أن يكون قاعة الصلاة أن المسجد "قادياني"، وأن من يحاورني أحد أفراد هذه العصبة النشطة التي يتجلّى نشاطها في أكثر البلدان الأفريقية والأوروبية والآسيوية والأمريكية.
ألقيت نظرة مستغربة على القاعة، وقلت للرجل: أين المحراب؟ إذ لا محراب فيها، فقال لي: هذه طاولة وكراسي إلقاء المحاضرات، فقلت له:
هل هناك قاعة أخرى للصلاة وبها محراب ومنبر للصلوات غير هذه القاعة حتى يكون المكان مسجداً كما تدلّ عليه المئذنة؟ فسكت ثوان، ثم قال: لا! هذا هو المسجد وهناك مكتبة كبيرة تقع في الجانب الأرضي منه مملوءة بالكتب، فقلت له، إذن هذا ليس مسجداً، ورأيت امتعاض وجهه وهو يقول: بل هو مسجد، وأردت أن لا أمعن في ما يثير غضبه، لأنني أريد أن أطلع على زوايا وخفايا هذا المبنى بأسره وقد تأكّد لي بأنه قادياني. فقلت له: حسناً، دعني أرى المكتبة، فقال: لا بدّ من حضور المدير وكان بابها مفتوحاً، أراه وأنا أتجوّل في القاعة الكبيرة، فسبقته للتوجه إليها، وكان في الواقع موقف حرج، فتبعني ونزلت درجات تحت الأرض بعد أن أشعلت نور الكهرباء الذي على مدخل بابها بنفسي، فإذا بالرفوف مملوءة بالكتب باللغات الإنجليزية والأردو والعربية، وفيها كتب باللغة الدانمركية، تأكّد لي ما كنت قد تيقّنت منه من تناول بعض هذه الكتب وبينها مجاميع من المصاحف للقرآن بالحرف العربي الهندي المعروف، وأخذت أقلبها وظهر لي حينئذ اليقين أن هذا مركز للقاديانية، إسوة بمراكزهم التي رأيتها قبل ذلك في برلين الغربية وفي فرانكفورت وفي زيورخ وفي لندن.
أخذت كتابين أو ثلاثة وقلت له: تسمح لي بهذه الكتب التي يظهر أنكم توزّعونها على الزوّار من باب المعلومات؟ فقال لي بحدّة: لا أستطيع أن أسمح لك بأخذها وتفادياً لعدم تفريغ شحنة غضبه المحتقنة والمشعّة في أسارير وجهه عليّ، ولئلاّ أقترف ما قد يتّخذه سبباً في أن يسيء إليّ أو يتّهمني به، أعدت الكتابين إلى الرف وأنا أقول له: حسناً. ثم أتّجهت إلى مصعد المكتبة، ولم يكن حينئذ قد تبقّى لي شيء مما يرى إلاّ ما ظهر لي أن هناك غرفتين مجاورتين يسكن فيهما الإمام وافترضت أن تكون له عائلة، إذن لا حاجة لي بالسؤال عنها ولا الاقتراب منها.
وخرجت حتى إذا أصبحت في الشارع وهو واقف على الباب يريد أن يغلقه ورائي قلت له والحوار كلّه بالإنجليزية: لماذا تنشرون في نشرات السياحة تحت صورة هذا المبنى أنه مسجد؟ لماذا لا تسمّونه باسمه وهو مركز "قادياني"؟ فقال لي: نحن مسلمون! فابتسمت، وقلت: ومساجدكم بلا محاريب، ولا منابر؟ فقال لي: في بعض مساجدنا منابر، ثم أغلق الباب وكنت قد أدرت له ظهري متوجّهاً إلى الشارع العام باحثاً فيه عن سيارة أجرة لتعود بي إلى الفندق.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :506  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 168 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.