شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عــودة إلــى بيــروت
وأعود إلى الحديث عمّا أتذكّر في الأعوام الخمسة بين عامي 1935 – 1940م، وأنا لا أزال مقيماً في الجامعة الأمريكية في بيروت، وما كادت سنة 1939 تهلّ على العالم حتى كانت نذر الحرب العالمية الثانية قد تطاير شررها، وتجلّى للعالم شرّها وكوارثها، وكانت أوروبا تتأجّح بتلك النذر، وتتوالى عليها مقدّمات الزلزال الكبير الذي غمر العالم بعد ذلك بشروره وكوارثه، وغيّر مجرى تاريخ البشرية بأسرها، ورأينا عند مستهلّ صيف ذلك العام أن نبقى أنا وزملائي أعضاء البعثة السعودية في فصل الصيف، ملتحقين كعادتنا في فصول الصيف السابقة في أكثر الأعوام الخمسة المذكورة بمدرسة الصيف، التي اعتادت الكلية الثانوية العامة أن تقيمها في مصيف "برمانا" من جبل لبنان، فيلتحق بها طلاّب الأقطار العربية الذين يرغب أهلوهم أن يجيئوا لقضاء فصل الصيف في تلك المدينة قريبين من أولادهم، فانتقلنا من بيروت إلى الجبل، وانتظمنا بين طلاّب تلك المدرسة الصيفيّة.
كان هتلر وحليفه موسوليني يثيران ويشعلان نيران الصراع والحرب بينهما وبين الدول المجاورة لألمانيا، وأهمها فرنسا وبريطانيا، كانت أعظم قوّة بارزة في أوروبا، وكان هتلر قد استولى على أجزاء من بعض الدول المجاورة له في شرق أوروبا، والمحتوية على أقلّيات بين سكّانها يتكلّمون الألمانية وينتمون إلى الشعب الألماني بصلة الدم.
واستعدّ الغرب استعداداً كبيراً منذ عامين من ذلك التاريخ، وقد رأى أن لا مناص من قيام حرب بينه وبين دولتي المحور ألمانيا وإيطاليا، فأُنشئ في سوريا ولبنان ما سمّي بجيش الشرق، أخذت فرنسا مسؤولية تأليفه من رجال مستعمراتها في شمال أفريقيا وفي السنغال وفي فيتنام، وتولّى يومئذ قيادة هذا الجيش الضخم الضارب الجنرال "ويغان"، وكان أحد مشاهير قوّاد فرنسا في نهاية الحرب العظمى الأولى، وكان من معاوني وتلاميذ الماريشال "بيقان" والماريشال "فوش" والماريشال "جوفر"، فوصل إلى بيروت وبدأت طلائع ذلك السيل الجارف من قوى فرنسا تصل إلى بيروت من كل مكان، وفُرّقت تلك القوات في سوريا ولبنان ووضع القسم الأكبر منها على حدود تركيا، فقد كانت على الحياد، إلاّ أنها كانت معرّضة، إمّا للإنضمام إلى ألمانيا، أو أن تجتاحها ألمانيا إذا ما قدّر لها في تخطيط الحلفاء أن تكتسح البلقان وتصل إلى مضايق "الدردنيل" فيها.
وأتذكّر أنني كنت يومئذ أتابع بحرص شديد الصحف اللبنانية وجريدة الأيام السورية، وفيها البيانات الرسمية والتعليقات التي تصدر عن قيادة الجنرال "ويغان" عن مراحل تلك الأزمة الخانقة، والاستعداد لخوض الحرب، وتهيئة وسائلها في سوريا ولبنان.
وأتذكّر أن الجنرال "ويغان" عندما حلّ في بيروت لتولّي المهام المشار إليها اختير لسكنه القصر الواقع في محلّة "المنارة" في نهاية خط الترام، والذي كانت تشغله المفوضية التركية في بيروت، والذي أصبح فيما بعد وإلى اليوم سفارة المملكة العربية السعودية.
وهو قريب من كليّتنا المجاورة له تقريباً، فكنت أمرّ أمام مدخل حديقة ذلك المبنى فأرى على أبوابها مجموعة من ضبّاط وجنود الاستعمار الإفرنسي، من أبناء المغرب – مراكش، كما كنّا نسميّها، والجزائر، وهم بعمائمهم وأردانهم الحمراء الفضفاضة يتنكّبون سلاحهم، ومعهم أعداد من الشركس بخناجرهم، وأغطية رؤوسهم السوداء، فأتمعّن في الجميع، وأرى أن أكثر هؤلاء من العرب المغاربة، وأتساءل ما الذي يدخل العرب في هذا الصراع بجانب مستعمريهم، ونشطت في قيادة الشرق العسكرية المشار إليها حركة الإعلام والنشر، وكان راديو الشرق قد أصبح علماً من وسائل دعايتهم في بيروت، ثم علمنا أن المفوضية الإفرنسية العليا قد أنشأت عدداً من الصحف والنشرات لتنوير الرأي العام بما ينتظر أن يجري في تلك البقعة من الشرق وفي العالم بأسره، ليكافح به الدعاية النازية التي استشرى أمرها بين الناس من إذاعات "برلين"، ويكافح بها الأثر الكاسح الذي كان يتغشّى الناس يومئذ إكباراً وإجلالاً لهتلر بالذات بعد انتصاراته الكثيرة في شرق أوروبا سلميّاً، كضمّ النمسا بالذات، إلى بلاده، وأجزاء من "تشكوسلوفاكيا" و "السويد"، وكان بين المطبوعات التي ظهرت يومئذ من وسائل الإعلام الإفرنسية مجلة سمّيت بـ "المراحل المصوّرة"، اختير لها عدد بارز من نخبة المتثقفين في لبنان وسوريا، تولّوا إخراجها والتحرير فيها والدعوة إليها، يرأسهم الأديب اللبناني الكبير والمؤرخ الصحفي المشهور صديقي فيما بعد الأستاذ "يوسف إبراهيم يزبك".
وانتشرت مجلة "المراحل المصوّرة" هذه، فهزّتني الوطنية في أن أكتب في أعدادها الأولى مجموعة من المقالات تعريفاً بالمملكة السعودية وبالحركة الأدبية فيها، وكتبت المقال الأوّل وتوجهت إلى إدارتها، وكانت تقع أمام مكاتب جريدة "النهار" مطلّة على مطعم "العجمي" في دور من بناية أنيقة جديدة، فدخلت إلى غرفة رئاسة تحريرها، فلقيت الأستاذ "يزبك"، الذي كنت أقرأ وأسمع أخباره ونشاطه وأتابعه، لكنّي لم أكن قد اجتمعت به.
ورأيت حوله في القاعة الواسعة مكاتب متقاربة، كان بين من يجلس عليها عدد من الشباب الذين قد اشتهروا يومئذ بأدبهم، عرفت بينهم صديقي رشدي المعلوف، الذي كان معنا في العروة الوثقى بالجامعة، وعرفت الأستاذ الكبير "قدري القلعجي" الذي كان من الكتّاب والصحفيين المعروفين يومئذ أيضاً.
ورحّب بي الأستاذ يزبك بما فطر عليه من بشاشة ومحبة ومجاملة، فعرّفته بنفسي وساعدني الأستاذ المعلوف مخاطباً الأستاذ يزبك ومعرّفاً بي، وفرح رئيس التحرير عندما عرف أنني من السعودية، فقلت له: هل يمكن أن تفسحوا لي مجالاً أكتب فيه ما قد أرى أنه تعريف بالمملكة العربية السعودية وعاهلها الملك عبد العزيز وبالحركة الأدبية فيها من شعر ونثر، فتهلّلت أسارير وجهه سروراً، وقال لي: يا أخي أهلاً وسهلاً بك وبكل من يجيء من السعودية، ونحن في حاجة إلى أن تكون في مجلّتنا صورة مشرقة لتباشير النهضة العربية في بلدانها، وأخصّها السعودية، فهل كتبت لنا شيئاً؟ فقلت له: نعم، وأخرجت من جيبي بضع صفحات رأيت أن تكون البداية، وتناولها مني فرحاً وبدأ يقرأها؛ حتى إذا ما انتهى منها، قال لي في حماس: عال! عال! إذن هذا وعد منك وتعهّد منّا أن نرحب بك أديباً، كاتباً معنا، فقلت له: إن شاء الله، وألقيت نظرة على تلك الغرفة وعلى الأخرى المجاورة لها، فوجدت أن من فيها يعملون كخليّة النحل، وأن "بروفات" المجلّة تجيء إلى الأستاذ يزبك، فيلقي عليها نظرة ثم يوزّعها على من كان حوله.
ومرّت عليّ ساعة تناولت فيها القهوة، وأنا في شعور عميق أُكبر ما أسمع وأرى، فقد كنت أعشق الصحافة، وكنت قد جئت من مكّة المكرّمة من جوّ صحافي شاركت فيه، كان يديره صديقي محمد سعيد عبد المقصود، وهو مطبعة وجريدة أمّ القرى بمكّة.
كسبت في تلك الزيارة معرفة الأستاذ يزبك، والأستاذ قدري قلعجي، والتعرّف عليهما ونشأت عن ذلك صداقة تطاولت إلى مشارف الخمسين عاماً، اشتدّت بعد ذلك وقويت، وأنا معتزّ بها إلى الآن – بعد أن توفّى الله الأستاذ يزبك، وأسبغ على الكاتب القدير "قدري قلعجي" نعمة طول العمر (1) .
في الأسبوع الثاني ظهرت مقالتي في العدد الذي خصّص لها من مجلة المراحل المصوّرة، وكنت عندما قبل منّي رئيس تحريرها النشر فيها قد استمعت إليه وهو يسألني: هل لديك شيء من الصور نطعم بها ما سيجيء في ما تكتب؟ قلت له: نعم! وجئت في اليوم التالي ببضع صور أحتفظ بها للملك عبد العزيز، وللحرم الشريف، ولبعض مناسك الحجّ وسلّمتها إليه، فسرّ بها ووعد بنشرها، وقد فعل.
كتبت المقال الثاني وحملته إلى الأستاذ يزبك عن المملكة أيضاً، فتلقّاني بسرور وترحيب كعادته مع كل من يلقاه، وتركت له المقال وانصرفت بعد جلسة قصيرة، كان في خلالها الأستاذ ومن حوله كما قلت يعملون بجدّ ونشاط غبطتهم عليهما.
وظهر المقال الثاني في العدد الذي يلي العدد الأوّل، وكنت قد أعددت المقال الثالث، إلاّ أنني رأيت أن المحرّر الموكول إليه الإشراف على مقالي السابق قد حذف منه أجزاءً حسّاسة كادت أن تخرج سياق البحث إلى ما أنتقد عليه.
فحملت أوراقي وذهبت إلى الأستاذ "يزبك" وسألني: كيف رضاك على ما نشرنا؟ فقلت له في عتاب لم أستطع إخفاءه بأنني لا أودّ أن يختصر شيء مما أكتب، لأنني عندما أكتب عن بلدي فإنني أراعي ظروفنا وعاداتنا قد تخفى على المحرّر في مجلتكم، ولهذا فأنا عاتب! قلتها بمنتهى الحزم، فقال لي الأستاذ: هذا هو العدد وقد جاء به، وهذا أصل المقال، بخط يدك. وما حذفه المحرّر كان اجتهاداً منه لعدم وجود سعة في صفحات العدد، فأنت تعلم أن أعداد هذه المجلة زاخرة بالكتاب والأخبار والصور عن الحرب، وكما تعلم إننا قد جعلنا لما كتبت أولويّة النشر مؤخرين عشرات المقالات، إلى أعداد أخرى حبّاً في السعودية وتشجيعاً لشاب مثلك حريص على تنوير الرأي العام بأحوال بلاده، وأظن أن هذا سيغفر لنا ما اقترقناه.
وخجلت من هذا التصرّف مني بمثل ذلك الحماس والعتاب الذي قابله الأستاذ "يزبك"، بمثل السماحة التي يقابل بها مثل هذه المواقف.
وكنت شاباً متحمّساً معتدّاً بنفسي إلى حد لا يصل بها إلى الغرور، أو تجاوز ما تقضي المجاملة به.
وشغلت بعد ذلك عن مواصلة الكتابة، ويظهر أني قد انتقلت إلى مصيف "برمانا"، وشغلتنا الدنيا بأسرها "ومضات" وصواعق الحرب المقبلة، فقد كنّا نستمع إليها من كل مكان، وقد أرهبتنا وأقضّت مضاجعنا، وأصبح تفكيري وتفكير زملائي السعوديين في تلك الشهور السابقة لاندلاع نيران الحرب، هو كيف سيكون مصيرنا فيما إذا تقطّعت أسباب المواصلة بيننا وبين الحجاز؟! وما كنت قد تصوّرت يومئذ بأن لظى الحرب، بعد أن يغمر أوروبا، سيصل إلى شمال أفريقيا وإلى سوريا ولبنان، وهو ما حصل وكان، ولكني كنت أعلم مما تنشره الصحف وأتتبّعه بأن لإيطاليا مستعمرة أريتريا والحبشة المجاورة والمقابلة لجزيرة العرب على البحر الأحمر، وأن المواصلات المؤدّية إليها من إيطاليا تعبر قناة السويس وتمتدّ في البحر الأحمر من شماله إلى أقصى جنوبه، وأن هناك الصومال الإيطالي والإفرنسي، ذلك كان هاجسي مما كنت أقرأه أن شظايا الحرب إذا لم نقل أن الحرب كلّها ستمتد إلى ما حولنا في البحر الأحمر يومذاك.
وتمرّ سنون وتتوثّق صداقتي بالأستاذ يوسف إبراهيم يزبك وقدري القلعجي ورشدي المعلوف وأكرم صالح، وكنّا نلتقي إذا ما هبطت بيروت، وعندما أصبحت مسؤولاً عن الإعلام والصحافة في المملكة، وجّهت دعوة إلى الأستاذ يزبك وأخرى إلى الأستاذ معلوف، أما الأستاذ قلعجي فقد كانت له مع صلته بي صلات مماثلة بغيري، فزاروا المملكة، وألّف الأستاذ إبراهيم يزبك، عندما جاءنا إلى الرياض بتلك الدعوة، كتيّبه الذين سمّاه "ليلة المصمِّك" باقتراح مني وإمداد بجميع المعلومات التي احتوى عليها ذلك الكتيّب، فقد كان مؤرّخاً يجمع جميع الصفات التي يجب أن يتحلّى بها كل من يتصدّى للتاريخ، ومع ميوله ورواسبها السابقة في تاريخ حياته، وسبقه سواء في التعرف على الحزب الشيوعي في لبنان، مع رفيقيه المعروفين من بلدة بيت شباب، إلاّ أنه قد أصبح بعد ذلك عربياً معتزّاً بعروبته وبتاريخها وبمسيحيّته التي استعادها وتعصّب لها ودافع في سبيلها وتتوج لبنانيته جذورها الراسخة.
وفي مؤلّفاته الأدبية والتاريخية، وفي ما أصدر من مطبوعات بينها مجلته التاريخية المعروفة "أوراق لبنانية" ما يجعلنا نذكره بالخير، ولقد مات غريباً في باريس هارباً من جحيم نيران الصراع في وطنه الحبيب لبنان منذ سنوات، وكنت أكبره وأحترمه وأقرأ له بين الفينة والأخرى، وهو في منفاه بباريس فصولاً تاريخية نشرتها صحف أصدقائه وتلاميذه ورفاقه في المهجر من أوروبا، فكنت أتذكّره وأتذكّر صداقتنا بكل خير، وكانت تأتيني تحيّته وسلامه إلى كل مكان. وتوفي الأستاذ المعلوف وذكرت أيامنا في العروة الوثقى، وفي تلبية زيارته لدعوتي له وفي وفد صحفي لبناني إلى الطائف لحضور الحفل الرسمي الذي أُقيم برئاسة المغفور له الملك فيصل لافتتاح طريق الهَدَا بين مكّة والطائف، وقد كنت المسؤول عن الوفد والمرافق له في تلك الزيارة التي كان لها لدى كل عضو من أعضائه وأعضاء الوفد الصحفي الأردني أعمق الأثر، أمّا الأستاذ قدري القلعجي فلقد توهّج وأبدع في كل ما أصدر من مجلات على طول حياته الأدبية بمجلة الحرية وما كتب في الصحف، وما قام به من عمل سياسي يعرفه له كل من عرفه يوم كان أميناً خاصّاً لرئيس الجمهورية السورية العقيد "أديب الشيشكلي". والأستاذ القلعجي مرّة أخرى ومرّات عديدة كاتب موسوعي يمتح من ثقافة موسوعية عميقة ولا يزال يتوهّج بقلمه تحت شمس الحياة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :502  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 139 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد عبد الصمد فدا

[سابق عصره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج