شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
غداء مع مونتجمري
أتذكّر في حفل ذلك الغداء أن المستر مايلز لامبسون (اللورد كليرن) فيما بعد الحرب – وكان السفير البريطاني في مصر – كان بين الحاضرين، وهو محاط بأعضاء سفارته الكبار من المشرفين على دقيق الأمور وجليلها في العالم العربي بعامة. وفيما أحاط بمصر بصفة خاصة، وكان بين المدعوين أكثر معاوني القائد الشهير اللورد مونتجمري (اوف العلمين) في تسيير دفّة الصراع في معارك شمال أفريقيا بليبيا، ثم في الصحاري المصرية المنتهية بتصفية جحافل المرشال (رومل) ودحرها على أعقابها منكسرة متراجعة على طول الجبهة الممتدّة من العلمين إلى (طرابلس). ومن ذكرياتي عن ذلك الحفل أنه كان بجواري على مائدة الطعام السياسي الإنجليزي المشهور (برترام تومس) الذي كان مستشاراً لسلطان مسقط وعمان قبل الحرب العالمية، والذي سبق صديقنا المستر عبد الله فلبي بتحقيق أمنيته الكبرى، وهي اختراق واكتشاف ما كان مجهولاً من (الربع الخالي)، فتمّ للمستر تومس ما تمنّاه، فاشتهر بهذا العمل وانتشر صيته واكتشافه في وسائل الإعلام العالمية في أطراف العالم، ولهذا فقد كان حديثي معه حول هذا الحدث، وهذا الرجل كان من مؤسّسي ما عرف بعد ذلك بالمعهد البريطاني لتعليم طوابير من شباب بريطانيا وأمريكا اللغة العربية تمهيداً لانتشارهم في الأقطار العربية، يدرسون ويتعلّمون ويبحثون عن أحوالهم وشؤون سكّانها، ويفتّشون عن خباياها وفي زواياها عن كل ما يبصر حكوماتهم ويرشدها إلى ما يظهرها عليها وعلى حكّامها، ويحصي عليهم أنفاسهم ونبض قلوبهم وومض عواطفهم.
كان هذا المعهد في فلسطين في أوّل تأسيسه، ثم انتقل بعد ذلك إلى بلدة (شملان) في جبل لبنان، وظلّ هناك عشرات السنين يتدفّق عليه طلاب المعرفة والاستخبارات والإعلام الغربي، فينهلون من معين ينابيعه على أيدي عباقرة المعرفة والتخطيط والثقافة الغربية، ثم يتخرّجون منه وقد أخذوا عن دهاقين وبياطرة طلائع الزحف الغربي على عالمنا العرب (الساذج) كل ما يؤهّلهم لإتمام المهمات التي بدأت مع مطالع هذا القرن بشتّى صورها ومظاهرها ومراميها. ولقد سمعت أنه تزوّج المستشرقة البريطانية المشهورة في العالم العربي إبان الحرب السيدة (فرنا ستارك)، ولا أعلم إذا كان ما سمعت، قد تمّ أم لا، ولم أسأل هذه السيدة عندما زرتها منذ نحو عشر سنوات في قرية (أوزولو) المعلّقة بأحد الجبال المشرفة على مدينة (البندقية) في إيطاليا، برغبة مني للاجتماع بها والتحدّث إليها وسماع أخبارها التي واكبتها منذ سمعت برحلاتها في جنوب الجزيرة العربية كلّها، ثم في مصر والعراق وفلسطين وليبيا وسورية ولبنان. فدعتني مع زوجتي للغداء في الفندق المجاور لمنزل والدتها الإيطالية الذي ورثته عن تلك الوالدة، حتى إذا انتهى الغداء الممتع الذي أوصت الفندق على أنواع وتنويع أصنافه أصرّت إلاّ على تناول القهوة في منزلها، وهي تقول: (إن العرب لا يرون تمام الضيافة إلاّ بدخول الضيف منزل المضيف)، وهكذا كان. فانتقلنا إلى منزلها الأثري العريق وشربنا الشاهي ثم القهوة وأطلعتني على مكتبتها.
وفي الساعات الممتعة التي توالت علينا في أحاديث شيقة عن تاريخ حياتها وأعمالها وعن تأسيسها لجمعية (الحرية) في أوائل أعوام الحرب في قلب القاهرة. والتي واكبت أخبار تلك الجمعية. كما أتذكّر ويتذكّر من عاصروا تلك الأيّام من القرّاء في دعاية طنانة رنانة في الصحافة المصرية أوّلاً ثم فيما جاورها من الصحافة العربية في كل مكان.
والحديث عن هذه السيدة التي شارف عمرها يوم زرتها الثمانين عاماً كان حديثاً شائقاً جديراً بالشباب العرب كلّه وفي كل مكان أن يسمعه ويعيه ويتدبّره ويتعمّق في دراسته ونتائجه.
ففريا ستارك إحدى السيدات البريطانيات العملاقات في خدمة بلدهن، تجوّلت في مجاهل الأقطار العربية وحواضرها، وركبت الجمال والبغال والحمير في حضرموت وإمارات عدن وفي أرياف مصر وجبال الأكراد بالعراق، وعرفت أمراء وزعماء وقبائل كل بلاد نزلتها. وفي مؤلّفاتها العديدة عن رحلاتها تلك المعجب والمدهش والخطير، من عزمها وثباتها وسعة اطّلاعها وسعة إلمامها بدقائق الأمور وجليلها مكتوبة ومصوّرة ومعزّزة بخرائط وإحصائيات ووثائق، فهي بكل ذلك تزاحم في الشهرة وصدق ولائها لبريطانيا وللغرب مثيلاتها من لداتها، كالليدي (سنهوب) في لبنان منذ عشرات السنين، وكالمس (بل) التي كانت لولب الاحتلال البريطاني للعراق في ما بعد الحرب العالمية الأولى.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :492  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 136 من 191
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج