بِدِمائي بَكَيْتُهُ، بدمائي |
يعجز الدَّمْعُ أن يَخُطَّ رثائي |
لَوْعَةُ الشعر لَوْعتي، فاقرأوها |
في مَتاهاتِ نَظْرتي الخَرْساء |
باعَدَتْ بيننا المسافاتُ، لكن |
كان أدْلى من الصَّدَى لِلنِّداء |
نِصْفُ شِعْري فواجعٌ ومَراثٍ |
كَيْفَ يَحْلُو لسامعيَّ غِنائي؟ |
كلَّما غابَ في التُّرابِ حَبيبٌ |
أنشبَ الموتُ ظِفْره في رِدائي |
لا تغُشَّنكَ الدموعُ، فَلَيْسَتْ |
دَمْعَةُ اللَّهو غَيْرَ قَطْرة ماء |
عَقًّني الأقربونَ لا ذَنْبَ إلاّ |
أنني لم أعقَّ عَهْدَ الإِخاء |
جُرْحِهِـمْ لَـمْ يَـزَلْ طَرِيّـاً ولكـنْ |
كُلُّ جُرْحٍ على المدى لِشِفاء |
نَمْ قَريراً يا شَوْكُ وامـرحْ بَرْوضـي |
أنْتَ في جيرة النَّدَى والوَفاء |
لَنْ يَحيدَ الغَديرُ عَنْك إذا ما |
طافَ بَيْنَ الزَّنابقِ البيْضاءِ |
لَنْ يَرُدَّ العَبيرَ عَنْك حِجابٌ |
كُلُّ مَنْ في حَدِيْقَتِي أصدقائي |
تُرْبَتي خَصْبةٌ، ومائي نَميرٌ |
وقَريبٌ لناظِريْه حِبائي |
في فؤادي للحبِّ ألفُ بناءٍ |
إنْ يَكُنْ للجَفاء نِصْفُ بِناء |
أنا أنْسى شَرَّ العدوّ ولَكنْ |
لَسْتُ أنسَى غَدْرَ الصديـق المُرائـي . |
كلَّما مَرّ ذِكْرُه ارْبَدَّ أُفْقي |
غَيْرَ أني أظلّه بوَلائي |
خَيْرُ أصحابـك الـذي لا يُداجـي |
فتَجنَّبْ صَداقَةَ الأدْعياء |
ليسَ يُعدي الرياءُ لكنْ قبيحٌ |
أن يعيشَ التُّقَى مَعَ الفَحْشاء |
كمْ بعيدٍ يعيشُ منِّي قريباً |
وقَريبٍ هُوَ البعيدُ النائي |
ليسَ أدْنى الـوَرَى شَقيقـي إذا لَـمْ |
يَكُ عَوْنـي علـى صُـروف البَـلاءِ |
خيَّبتْ ظَني الليالي ولكنْ لَمْ |
تَنَلْ مِنْ كرامتي وإبائي |
أزْرَعُ الزَّهْر في الصباح وأجنيه |
قتاداً على دروبِ المَسَاءِ |
جَلَّ عَنْ باطل الكلام لِساني |
وتَعالَى عمَّا يشينُ حَيائي |
أنا راضٍ مِنَ الحياة بحظِّي |
قانعٌ مِنْ هِباتِها بالرَّجاءِ |
لَمْ تَطِبْ للنفـوسِ خَمْـرةُ شِعْـرِي |
لو خَلاَ من متارف الكِبْرياء |
لَسْتُ ثَلْجاً تُذيبه الشمـسُ، لا بَـلْ |
أنا شَمْسُ الظهيرة الحَمْراء |
قوّتي أنَّني ضَعيفٌ أمامَ الله |
عَفُّ السلوكِ مَعْ أعْدائي |
تَستطيبُ المديحَ أذْني ولكنْ |
لَسْتُ أرضاه حافِلاً بالرياءِ |
كَمْ هجاءٍ يجيء في زِيِّ مَدْحٍ |
ومَديحٍ يأتي بثوبِ هِجاءِ |
* * * |
أيُّها الشاعرُ الـذي جَنَّـحَ الحْـرَفَ |
وأحْيَا جَزالَةَ القُدَماءِ |
والذي علَّمَ الطُّيورَ فطارَتْ |
بجناحَيْن مِنْ سَناً وسناءِ |
والذي نمَّقَ الرياضَ بما في |
شِعْرهِ مِنْ نَضارةٍ وَرُواءِ |
والذي زوّقَ الملاحمَ تَرْوي |
ما بناه الآباءُ للأبناء |
والذي أرْسَلَ الشواردَ تَجْلُو |
صُـوَرَ الحُسْـن تَحْتَ كـل سَمـاءِ |
والذي اسْتَنْبَتَ البشاشةَ في |
الصَّخْر ورَوَّى حَرارة الصَّحْراءِ |
والذي طَوَّقَ النُّجومَ بَعقْدٍ |
خالدٍ مِنْ بَيانه الوضَّاءِ |
والذي جازَ حَلْبة المتنبي |
واحتفى خَطْوَ سَيْدِ الشُّعَراءِ
(1)
|
وحزَّ في النفـس أنْ يصيبَـكَ سَهْـمٌ |
غاصَ – لمّا نَعَـوْكَ – فـي أحشائـي |
نُؤْتَ بالدَّاءِ وارْتَفَعْتَ بياناً |
كَيْفَ زاوَجْتَ بَيْنَ شِعْرٍ وداءٍ |
لَمْ تَزَلْ آيُكَ السنيةُ تَهْدي |
خُطواتي في الليلة اللّيْلاءِ |
كلَّما طافَ في ضُلوعيَ غَمٌّ |
لا يُداوى.. وَجـدْتُ فيهـا دَوائـي |
بشَذاها النَّديّ تَسْكرُ رُوحي |
وبِنَعْمائها أبلُّ ظمائي |
كلُّ حَرْفٍ منها جَناحٌ ظليلٌ |
في طريقي، وكَوْكبٌ في فَضائي |
يوجَزُ الروضُ في إناءٍ وتُغْني |
عَنْ مياه الفُراتِ جُرْعةُ ماءِ |
خانني في فَجيعةِ الشِّعْرِ شَيْطاني. |
فوا خَجْلتاهُ مِنْ غَلْوائي |
كَيْفَ أشْكـو لهـا انهيـارَ جِـداري |
تَحْتَ وَقْع المصيبة الدَّهْياء؟ |
كَمْ بَكَتْ مُهْجَتي ولَمْ يَبْـكِ جَفْـني . |
لا يُقاسُ الأسَى بفَرْطِ البُكَاءِ |
* * * |
يا سَليلَ العُلا يُحييك شَعْبٌ |
ليسَ يَنْسى فضائلَ العُظَماءِ |
خُضْتَ مِنْ أجْلهِ غِمار المنايا |
شامِخَ الرأس ناظراً لِلْعَلاءِ |
تتَحدّى نارَ الدخيل بِكِبْرٍ |
لمْ يَرِدْ في معاجِم الدُّخَلاء |
كلما اشتـدَّ بَطْشُـه ازْدِدْتَ بأسـاً |
واندفاعاً على دُروبِ الفِداءِ |
بِيَدٍ تَرْفَعُ اليَراعَ سراجاً |
وبأخْرى تَهُزّ سَيْف المضاء |
يعلمُ الله كَمْ شَرِبْتَ أُجاجاً |
وافترشْتَ الرمالَ في البَيْداءِ |
ذاك عَهْدٌ مَضَـى... ولكـنْ سَيَبْقـى |
خالدَ الذِّكْر في سجل العَطاءِ |
خَطّ فيه الحسينُ
(2)
أولَ حَرْفٍ |
وزَكا جَنْيُهُ بيومِ الجَلاءِ |
* * * |
يا أبا الزُّهْـرِ مِـنْ قَـوافٍ ووُلـدٍ |
لا تَدَعْني في حَيْرتي العَمياء |
رُبَّ صَمْتٍ لو استحال كلاماً |
لكفانا حَلاوة الصَّهْباء |
مُدَّ لي راحـةً مِـنَ الخُلْـدِ أنْهَـضْ |
مِنْ عَثَاري، وتَنْتَفِضْ أشْلائي |
أنا مَيْتٌ لولا بقيَّة روحٍ |
كيف يَبْكـي مَيِّـتٌ علـى الأحيـاء |
كَيْفَ يَبْكِي فَـتى القَريـض المجلّـي |
شاعرٌ ضاع في حروف الهجاء |
كيف يَرْقَى إلى النجوم جَناحٌ. |
نَهَكتْهُ لوافحُ الرَّمْضاء |
أين ممَّا خَلَّفتَ مـا خلَّـفَ الطاغـي |
وأين الثرى مِنَ الجَوْزاءِ |
ساءَ فَـألُ الذيـن صالـوا بسَيْـفٍ |
وكَبَتْ خَيْلُهم بغارِ "حراء" |
زَرَعوا حَوْلَك العُيون وبثُّوا |
ظُلْمة الليل في طريق الضياءِ |
عَبثاً حاولوا اكتسابك بالمال |
تعالَيْتَ عَنْ مهاوي الثراءِ |
ليس عـاراً أنْ يمـلكَ المـالَ نَـدْبٌ |
آفةُ المالِ حَبْسُه في وِعاءِ |
وَطأةُ القَيْـد لا تَهـون علـى الحُـرّ |
ولَوْ صِيغ مِنْ خُيوط دُكاءِ |
عَجَزوا عَـنْ شِـراء وُدِّك بالحُسْـنى |
فمالوا للقوّةِ الرعناءِ |
خابَ عِزْريلهم، فلِلْبيْتِ رَبٌّ |
صانه مِنْ مكائدِ الجبناء |
يا سياجَ الحِمَى، عَدُوّك في الجولان لا في قصائدِ الشُّعَراءِ |
أنقذ اللهُ شاعرَ الثَّوْرةِ الْحَمراءِ |
مِنْ شرِّ نابك الزَّرْقاءِ |
فتنةٌ أخمدتْ، ولَوْ لم تُطوَّقْ |
لجرتْ في البلاد نَهْرَ دِماءِ |
لَطَفَ اللهُ بالعباد، فمرَّتْ |
بسلام، وعُولجتْ بذكاءِ |
وعفا النَّسْرُ – وهو شلْـوٌ جَريـحٌ – |
عَنْ بُغاثِ الجريمةِ النَّكراءِ |
لَمْ يَشَأ أنْ يُثير نارَ اقتتال |
تأكلُ الأخْضَرَيْن في الفَيْحاء |
قال: مَهْما قَسَا عليّ قَريبي |
لَنْ أبادي عداءه بعِداء |
ما أنا مَنْ يلوكُ لحمَ ذَويه |
إنْ جَفَوْني وأمْعَنوا في الجفَاء |
عَثْرةُ الرِّجْل قَدْ تكون وَبالاً |
تشتكي منه سائر الأعْضاء |
هكذا يَصْفَحُ العظيمُ لِيَحْمي. |
شَعْبَه مِنْ غوائلِ الأرْزاءِ |
* * * |
طالَ بُعْدي عَنِ الديار فهَلاَّ |
يسَّرَ الله عَوْدةَ الغُرباءِ |
ليس يُنسـى مَهْـدُ الطفولـةِ مَهْمـا |
حَجَبَ الغَيْمُ عَنْـك وَجْـهَ السمـاء |
غُرْبةُ الجسم أرْهقَتْني ولكنْ |
غُرْبةُ الروحِ ضاعَفَتْ أعْبائي |
أنا في السِّجْن مُنْـذُ فارقْـتُ أهْلـي |
رَحْمَةَ يا زمانُ بالسُّجَناءِ |
ليسَ قَيْـدي كغَيْـره مِـنْ حَديـدٍ |
إنًّه قَيْدُ لَهْفتي الخَرْساء |
يُوشكُ الشوْقُ أنْ يُقرِّحَ جَفْني |
أجْزَلَ الله في البلاءِ عَزائي |
أيْنَ تلكَ الآمالُ تَفْرُشُ دَرْبي |
بالرياحين، بالشَّذا، بالبهاءِ |
ذَهَبَتْ كالهَباءِ، لَمْ يَبْقَ مِنْها |
غَيْرُ ذِكْـرى علـى جَنـاح الهبـاء |
وقَفَ العَقْلُ حائراً، فَأَنِرْني |
طال تيهي في اللَّيْلَةِ اللَّيْلاءِ |
هَلْ تعيـش الأرواحُ بَعْـدَ انفصـالٍ |
أمْ يبتُ الضريحُ حَبْلَ البقاء |
هَلْ يُجازَى الأبْرار أمْ تتساوى |
تبعاتُ الأبرار الفجّار |
هَلْ يُلاقي المَحْرومُ ما يَتَمنَّى |
مِنَ رَخـاءٍ... أم تـلك دار الفَنـاءِ |
ضاقَ في البحـثِ والتسـاؤل باعـي |
يا إلهي هلاَّ غَفَرْتَ هرائي |
* * * |
هلِّلي يا بَلابلَ الخُلْدِ زَهْواً |
نَقَلَ الشِّعْرُ عَرْشَه للفَضاءِ |
شَرفٌ أنْ نكونَ للحرف جُنْداً |
نفتديه بما غَلا مِنْ فِداءِ |
ما تَغَنَّيْـتُ باسـم "غَلْـواءِ" لـولا |
أنَّها مِنْ حُصونه الشمَّاء |
مِنْ شَـذا الشِّعْـر تَسْتَمـدّ شذاهـا |
أتراها سليلة "الخنساء"؟ |
يَا بُناةَ القصورِ لا تتباهَوا |
نَحْنُ نَبْقَى وأنْتم لِفناء |
كُـلُّ مَجْـد أساسـه البُغْض عـارٌ |
كيفَ تُبنى العُـلا علـى البَغضـاء؟ |
زادُكم للبطون، لا لعقولٍ |
لَمْ تجـدْ في قُصوركـم مِـنْ غـذاء |
ألْفُ كِسْرى انطَوْوا ومـا زالَ قَيْـسٌ . |
باقياً فِي مَدامع البؤساء |
يا صديقي بَـرَى الفِـراقُ ضُلوعـي . |
واحَنيني إليْكَ يَوْمَ اللِّقاءِ! |