شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(( ضيف الأمسية الشاعر خالد محيى الدين البرادعي مجيباً: ))
- شكراً لكم.. يا سيدي أنا كما ذكر الأخ الأستاذ في سيرتي الذاتية، ولدت في مدينة يبرود التي كانت قرية آنذاك. ولا أطيل عليكم لنصل إلى الشيء الأهم، وهو أن ظروف الريف البائسة في تلك الفترة، وفي تلك الأرض شبه الصحراوية، وإن كانت مليئة بالجبال والخضرة والماء إلا أنها في الحقيقة منطقة شبه صحراوية، لأن أهلها أي آباءنا وأجدادنا كانوا يعتمدون على زراعة الحبوب بطريقة البور، بطريقة انتظار رحمة السماء، أو زراعة البعل (1) كما يسمونها، فإذا هطلت السماء بخير أكل الناس، وإن احتبس المطر جاع الناس.
ولدت في تلك البيئة المسحوقة. ورحلت إلى دمشق وانتسبت لإحدى الحرف اليدوية، لأتمم حياتي لكن الشيء الأهم هو أنني بدأت حياتي الأدبية استأجر الكتب من سوق اسمه "المسكية"؛ الملاصق لجامع بني أمية الكبير بمدينة دمشق، كنت استأجر الكتاب بخمسة قروش، ولا أعرف ماذا تساوي بالنسبة للريال السعودي، لكن كل ليرة سورية بها عشرون فرنك، عشرون خمسة، استأجر الكتاب لليلة الواحدة بخمسة قروش، إذا تأخرت في قراءته ليلتين أضطر لمضاعفة الأجرة، ولهذا السبب كنت حريصاً على قراءة الكتاب في ليلة واحدة، حتى أوفر خمسة قروش لكتابٍ آخر.. أصدقكم القول أنني قرأت تراث عصر النهضة بالأجرة، قرأت طه حسين، والعقاد، والمازني، والمنفلوطي، وتيمور، وأساطير عصر النهضة بالإضافة إلى ما استطعت الحصول عليه من الروايات الروسية المترجمة التي كانت سائدة في تلك الفترة بالأجر وبالفرنكات يعني بالخمسات قروش، وامتلكت جزءاً من خلفيتي الثقافية قبل أن التحق بالخدمة العسكرية أو بالجندية كما يسمونها عندنا في سوريا، وقد يكون جسمي ملائماً، أو أن جسمي شبه رياضي فأُخذتُ لفوج "المغاوير" أي (الكماندوز).
وأذكر في تلك الفترة كان الضباط يضعون أمامي مكبر الصوت لأنشدهم شعري وقصائدي التي كتبتها في تلك الفترة والتي مزقتها فيما بعد، لأنها تافهة لا قيمة لها طبعاً، وتعرفون أن الشاعر كلما امتلك قدراً من الوعي، كان أقدر على نقد نفسه وعلى نقد ذاته، وعلى تمزيق الكثير من إنتاجه ليصل إلى المستوى المطلوب. بعد الجيش وجدت أن فرص العمل في الخليج العربي في الخمسينات وخاصة في الكويت في الخمسينات كانت الكويت مدينة تعمر وتنشأ، وكان فيها نهضة صناعية ونهضة عمل كبيرة جداً. وفرص العمل متوفرة فيها فرحلت إلى الكويت، بعد أن استدنت أجرة الطريق من خمسة أشخاص، لكن وفيت هذا الدين الحمد لله فيما بعد، وفتح الله علينا ببعض الرزق، أو بالقليل من الرزق، أصدقائي يتندرون بحياتي إنك ذهبت إلى الكويت لتكتب الشعر أمام آبار النفط، وهذه مأساة كما يسمونها، وهي ليست مأساة إنما تجربة لحياة جميلة. وأنا أؤكد لكم أن الشعر العظيم والإبداع العظيم يوجد أو يولد مع المآسي الكبيرة. قضية احتلال فلسطين أنجبت كوكبةً من المبدعين والمفكرين السياسيين والفلاسفة، وكتُّاب الرواية والشعراء والنقاد والمثقفين الكبار، الذين وصل إسمهم العربي إلى العالم. وهكذا استمرت بي الحياة حتى عدت إلى سوريا ووجدت أن المطالعات الخاصة بالرغم من الإبداع، وبالرغم من نصيحة أستاذي زكي نجيب محمود الذي طلب مني أن أكتب المسرح الشعري عندما قرأ لي ديواناً طبعته في بيروت سنة 1969م واسمه "صور على حائط المنفى".
وسألت د. زكي نجيب محمود لماذا هذه النصيحة بالذات؟ فقال لي: إن قصيدتك تحمل المشهدية الدرامية. فأرجو أن أقرأ لك مسرحية شعرية فكانت تلك النصيحة غيرت مجرى حياتي فعلاً، وكتبت أولى مسرحياتي الشعرية وهي دُمَّر عاشقاً.. على فكرة كلمة دُمر بالأساطير أو بالسير الشعبية، تعني دُمر بن الملك سيف بن ذي يزن، ولأني مشغول بالهم القومي، وبالهاجس الوحدوي الكبير، دائماً أحاول أن أشكل أشخاص مسرحياتي من الوطن العربي ككل وليس من جزء واحد.
وشاءت الظروف أن تتحول هذه المسرحية إلى محور أطروحة الدكتوراة تقدم بها السيد "مصطفى رمضاني" في المغرب ونوقشت هذه الأطروحة بإشراف الدكتور عباس الجراري. بعد أن طبعت المسرحية ومثلت ونقدت بأكثر من خمس وعشرين سنة، وأستمرت مسيرتي الأدبية وأمام إحساسي الدائم بأني لم أتعلم بشكل منظم في المدارس، كانت دائماً تلاحقني عقدة الشهادات الكبرى، وإن كانت في بعض الأحيان لا قيمة لها. حتى كتبت أطروحة الدكتوراة التي تقدمت بها مؤخراً إلى أستاذي الأستاذ الدكتور أسعد علي، وعنوان أطروحتي كان "تعددية النمط الشعري الجاهلي وظلاله الطويلة".
حاولت في هذه الأطروحة الضخمة التي اشتغلت فيها حوالي عشر سنوات، أن أثبت أن النقد العربي الذي واكب الشعر القديم، كان أقصر قامة من هذا الشعر، وأن شعرنا القديم كان شعراً عظيماً بكل ما تحمل هذه كلمة العظمة من معنى، كان فيه الشعر القصصي. وكان فيه البناء الدرامي، وكان فيه البناء الملحمي، وكان دائماً السؤال الذي يلح علينا لماذا أوجد الشاعر الجاهلي المرأة في أول القصيدة حتى وهو يرثي ميتاً؟ يعني لماذا وجدت المرأة بهذا الشكل؟ حاولت أن أجيب بحوالي ثلاثمائة صفحة من الأطروحة وهي تتجاوز الألف صفحة عن هذا السؤال، وأحمد الله أن جميع الأساتذة الذين ناقشوا الأطروحة كان رأيهم أني أضفت شيئاً جديداً للنقد الأدبي الذي واكب شعرنا القديم، وكلما مررت بمأساة أو بحدث أو بكارثة أو بواقعة تلم بهذا الوطن، تتفجر شاعريتي إذا كنت أمتلك شيئاً من هذه الشاعرية، أو تتفجر لغتي التي أحس أنها هي الرابط الوحيد الآن بين العربي والعربي، وأنا أتعامل مع اللغة وهذه أرجو أن تسامحوني على هذا التعبير، أتعامل مع اللغة العربية تعاملي مع مقدس لأني أعتبر أن اللغة العربية إضافةً إلى أنها لغة الإسلام ولغة الوحي هي المستمسك الوحيد الآن، الذي يجمع أشتات العرب الذين مزقتهم الإقليميات ومزقتهم الأحزاب ومزقهم الغريب شر ممزق.
وإذا كنتم تسمحون لي أن أسمعكم قصيدة.. احتفل أحد أصدقائنا واسمه علي بفرح وطلب مني، أن أنشد شعراً بمناسبة هذا الفرح، فوقفت وقلت لهم أنا محزون أنا لا أستطيع أن أفرح في هذا المناخ، هذا مناخ حزن وليس مناخ فرح، الأمة تتمزق. وفلسطين ضاعت والحكام العرب يتهافتون على أقدام إسرائيل للاعتراف بها، كيف تريدونني أن أفرح أنا أشبه متمم بن نويرة، الذي قُتل أخوه أيام حرب الردة، وعندما سألوه عن إطالة بكائه ودوام حزنه قال:
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللوى فالدكادكِ
فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى
دعوني فهذا كله قبر مالكِ
 
فقلت في هذه القصيدة: (أرجو أن نعلم أن اسم الذي علينا أن نفرح به إسمه علي).
أَنُنْشِدُ في زحَامِ النَّادبينا؟
ونَفْرَحُ والْهزائِمُ تَزْدَرينا؟
وتَبْتسِمُ القُلوبُ على الْمآسي؟
فَعُذراً يا عَلِيُّ إذا بَكينا
فَعَصْرُ الْمُضْحِكاتِ بكَى عَلَيْنَا
ليُضْحِكَ حوْلَنا الْمُتَفَرِّجينا
لنا في كُلِّ نائِبَةٍ نَصيبٌ
ولَوْ كُنّا خِفافاً هاربِينا
كأنَّا بُؤْرَةُ الْبَلْوى بعَصْرٍ
له كفَّانِ مثْلَ الرَّاجِمينا
ونَجْتاحُ الدُّروبَ رَحيلَ لَيْلٍ
فلا ضَوْءٌ شِمالاً أَوْ يَمينا
ونَسْتاُف الطُّيوبَ ولا طُيوبٌ
تُزَغْرِدُ في لَيالي الْعاشِقينا
رَحَلْنا
تُؤرْجِحُنا رياحُ الْغاصِبينا والشَّتاتُ لنا دَليلٌ
فَزَرْقاءُ الْيمَامَةِ فارَقَتْنا
وعَرَّافُ الْيمَامَةِ ليس فينا
وحاديَةُ الرُّؤى بلَغتْ رؤاها
وعيٌن أُطْفِئَتْ ماذا تُرينا؟
أَتذكُرُ يا عَليّاً كم كَبُرْنا؟
بأَطْيافِ الكِبارِ الرَّاحلينا
وأَسكَرَنا شَميمُ المجدِ آناً
فَحَلَّقْنا بأُفْقِ الْفاتِحينَا
وأَشْرَفْنا على وَطَنٍ مُوَشىٍّ
بزهرِ الْعِشْقِ
مُزْدَهِراً حَصينا
كما جَنَّاتُ عَدْنٍ في الْمآقي
مُقَرَّبَةُ الجَنى للْمُؤْمِنينا
وزَغْردتِ الْقَصائُد راقِصاتٍ
إلى الأَقصى تَزُفُّ الزَّاحِفينا
أتذكُرُ كَمْ شَهيداً سابقونا
لِساحاتِ الْخُلودِ لِيَفْتَدونا؟
زَهَتْ أَحلامُنا حتى رَأَيْنا
رَوابي الْقُدْسِ تُفْرَشُ ياسِمينا
وغازَلْنا جِيادَ الْفَتْحِ شَوْقاً
لِمَنْ عَبَروا إلى الْيَرْموكِ حينا
حَسِبْنا خالِداً سَيَعودُ يَوْماً
يعانِقُهُ أَبو بكَرٍ قَرينا
وفي الأَحْلامِ عُقْبُة صارَ مِنّا
وسَعْدٌ نَلتَقيَهِ وَيَلْتقينَا
* * *
وبَعْدَ رحيلنا خَمْسينَ عاماً
رَأَيَنْا الْحُلْمَ مَثْقوباً حَزينا
تُعابِثُهُ الرِّياحُ فلا هِشامٌ
ولا عُمَرٌ يَعودُ لِكَي يَقينا
وأَشْياخُ الْهَوى سَقَطوا سُكارى
وما ذاقوا خُمورَ الأَنْدَرِينا
ولكنَّ الْمَذَلَّةَ قدْ سَقَتْهُمْ
يَهودِيَّ الْكُؤوسِ مُعَرْبِدينا
ورَكَّعَهم يَهودِيٌّ فَهَروُّا
هَريرَ الْكَلْبِ إذْعاناً وَلينا
ورومِيٌّ يُصَفِّقُ مِنْ بَعيدٍ
ومَلْكُ الرُّومِ يَهْوى الرَّاكِعينا
وأَظْلمتِ الدُّروبُ،
وقيلَ: سِلمٌ
وأُطْفِئَتِ الصُّوى بالْمُدْلِجينا
* * *
عليٌّ.. كيف نَفْرَحُ يا عَلِيّاً؟
وكُلُّ جِراحنا جُنَّتْ أَنينا
تَجوسُ حَناجِرُ الطُّغْيانِ فيها
لِتُبْدِلَ ماءَها حَمَأً وطينا
وتُبكْينا الضَّواحِكُ لا الْبَواكي
بعَصْرِ الْمُؤءمِنينَ الْمُشرِكينا
فَسَفَّاحٌ نَموهُ إلى عَلِيٍّ
ويُصْلَبُ مَنْ يَراهُ فَتىً هَجينا
وعَبْدٌ نَسَّبوهُ لعَبْدِ شَمْسٍ
سِفاحاً أَوْ جُنوناً أَوْ ظُنوناً
أَيَسْمو الْعَبْدُ في أُفُقِ الْمَعالي
إذا كانَ ابْنَ زانَيةٍ خَؤونا
وكُلُّ مُسَمَّرٍ في شِبْهِ عَرْشٍ
بِشِبْرٍ مِنْ تُرابِ الأَوَّلينا
لَهُ نَسَّابَةٌ وَوَليُّ عَهْدٍ
وحَبْلٌ مِنْ عُروقِ الْجائِعينا
وشَيْخٌ أَجْنَبيٌّ خَلْفَ سِتْرٍ
بعَتْمَتِهِ يَخُطُّ لَـهُ الْمُتونا
وسَجَّانٌ
وسَيَّافٌ
وجَابٍ
وسِمْسارٌ
وعُصْبَةُ مُخْبِرينا
ويَحسِبُ أنه الْمَهْدِيُّ آتٍ
على قَدَرٍ إلى الْمُسْتْضَعَفينا
ليَمْلأَ عَصْرَهُ نوراً وعَدْلاً
ألسنا يا عَلِيُّ بِمُضْحِكِينا؟
فَوا خَجَلَ الْخلائفِ مِنْ جُدودٍ
بظَهْرِ الشَّمْسِ كانوا سابِحينا
* * *
سنفَرحُ يا عَلِيُّ
لأَنَّ جُرْحَاً
يُذكَرِّنُا بأنّا واقِفونا
فلم نَسْجُدْ لقاتِلَةٍ بيومٍ
ولم نجهَلْ سَلامَ السّاجِدينا
ونرفَعُ كَفَّنا الدامي احْتِجاجاً
ونُطْعِمُ مِنْ فواجِعنا بَنينا
وننهضُ مِنْ حَرائِقِنا كِباراً
كَعَنْقاءِ الْخَرافَةِ مُصْبِحينا
1995
 
إذا سمح رب البيت أستاذنا وشيخنا فإنني سأسمعكم قصيدةً، وهي آخر قصيدة كتبتها اسمها "سفانة والريح"، سفانة هي حفيدتي، ابنة ابني، بلغت من العمر الآن حوالي سنة ونصف السنة، وعندنا في منطقة يبرود، في فصل الشتاء تأتي الثلوج والرياح والعواصف العاتية، أحياناً وتهز أبواب المنازل وفي أحد هذه الصباحات كان الثلج يهطل، وكانت الرياح تبعثر الثلج بصورة جميلة، ومخيفة بالنسبة للأطفال، وسفانة على صدري، فتحت الباب لأريها الثلج لكن. شعرت بأن ظفرها خدش عنقي وكأنها خافت، هذه الواقعة كانت مفتاحاً لهذه القصيدة: اسم القصيدة "سفانة والريح" على فكرة: سفانة هي بنت حاتم الطائي، ومعنى سفانة اللؤلؤة البيضاوية أو شيء من هذا القبيل.
مَـنْ أَيْقظَ الريـحَ قبـلَ الصُّبحِ فانتفضَتْ
تَدُقُّ بابي؟ كأني إِلْفُ مَسْراها
وبَكَّرَتْ تَلطُمُ الشُّبّاكَ في نَزَقٍ
فهل مُدانٌ أنا؟
والدَّيْنُ أَغْراها؟
أم تعرفُ الريحُ أني حاضِنٌ حُلماً
وفَجْرُ طَلَّتهِ النَّدْيانُ آذاها؟
فَشرَّدتْهُ
ولم أَمْلُكْ سوى حُلُمٍ
مِنْ الْحياةِ، وقد كُلِّفْتُ لُقْياها
وباغَتَتْني بمَجْروحِ الْعَويلِ، ولي
مع العويلِ حَكايا لَستُ أَنْساها
أَهكذا؟ وأنا الْمَزْروعُ في لُغَتي
أَنْفاسَ نارٍ
تُؤاخيني حُمَيَّاها
أَتَيْتِ صَوْبَ سَجينٍ في رَهافَتهِ
مُكَبَّلٍ بِرُؤىً
والصَّحْوُ رَوّاها
تُحَرِّكينَ ذُهولَ الصَّمتِ خالِعَةً
مَوْجاتهِ بَغتَةً من دِفْءِ مَجْراها
جَرَّحْـتِ صَمْـتي، وقـد خَبَّأْتُ أَسْئِلـتي
مِـنْ بعـدِ مـا خابَ رُغْمَ الشَّيْبِ مَسْعاها
وفاضَ عَنِّي لساني فاختبأْتُ بِهِ
كي لا تَراني حُروفٌ كنتُ إِيّاها
أَقْلَقْتِ سَفَّانَةً يا ريحُ فانْفَلتَتْ
مِـنْ وافـدِ الرُّعْـبِ عَـنْ خَدَّيَّ كَفّـاها
وأَنْشبَتْ ظُفْرهَا في لَحْمِ حَنْجَرَتي
وحَمْلَقَتْ في ارْتعاشِ الْبابِ عَيْناها
وطَوَّقَتْني
ولم تنطُقْ، بلِ انْكَمَشَتْ
كالْمُسْتَغيثِ وصَمْتي كانَ يَرْعاها
وخَبَّأَتْ جسْمَها المَقْرْورَ في نَفَسي
وأودعَتْ في وَجيبِ الْقَلْبِ نَجْواها
أَنْسَيْتِ سَفّانَةً
كيفَ الْقَصيدُ انْحنَى
يَصوغُ تأتأةً سالَتْ فَغَنّاها
بِحِبْرِ دَمْعَتِها
تَجْلُو ابتسامَتُها
مِنَ الْقصائدِ رُغْمَ الصَّمْتِ فُصْحاها
يا ريحُ كيفُ تُخيفينَ الصِّغارَ،
وفي لثَغْاتِهم
من جِنانِ الطُّهْرِ أَزْكاها
كُفيِّ إذَنْ مِنْ وِفاداتِ الأَذى وَدَعي
سَفّانَةً في حُروفِ الشِّعْرِ أَنْداها
لِتُتْقِنَ الشَّدْوَ في أَغْدائِها فَرَحاً
وفي الدَّفاترِ تَتْلو إسْمَ مَوْلاها
مَهْـلاً علـى سَمْعِهـا الْمنَسْوجِ مِـنْ وَهَـنٍ
ولُطْفِ مَلْمَسِ يُسْراها ويُمْناها
* * *
والثَّلْجُ ينقُرُ شُبّاكي مُعابِثَةً
أَظْفارُهُ البيضُ
ذِكْرى خَبَّأَتْ فاها
وهادَنَتْني زَماناً لا تُحَدِّثُني
إلاَّ لِماماً
إذا غادَرْتُ مَثْواها
فأَيقَظَتْها بنَانُ الثَّلْجِ مِنْ فَزَعٍ
لتَنْثرَ الْحُزْنَ في حضْنٍ تَحَاشاها
حتى الْكَنارانِ
دارا حَوْلَ فَرْخِهِما
اَلأُمُ مَذْعورَةٌ
والزَّوْجُ واساها
كأَنَهُ نَسِيَ التَّغْريدَ مِنْ هَلَعٍ
فبادَلَتْه ظُنوناً، ما تَمَنّاها
والْفَرْخُ يَرْجفُ كَالْمبَهُوتِ بَيْنَهُما
كَمِثْلِ سَفَّانَةٍ مِمَّا تَوَلاّها
تَغَيَّرَتْ في مَقامي كُلُّ آلِفَةٍ
وازَّعْزَعَ الصَّمْتُ
هل في الصَّمْتِ مَرْعاها؟
فَوَردَةُ الدارِ خافَتْ مِنْ زِيارَتها
فَخَبَّأَ الثلجُ طيباً في ثَناياها
والْياسَمينَةُ تَعْوي دونَما عَبَقٍ
مِنْ لَسْعةِ الَبْرْدِ، والتَّجريحُ غَطّاها
حَرَّكْتِ كُلَّ طيورِ الثَّلجِ فانْتَثَرتْ
تَرُشُّ حَوْلِيَ أَنَّاتٍ وَتَنْساها
* * *
هل تَحْسِبُ الريحُ أني نائِمٌ رَغَداً
ومَضْجَعي هانِئٌ حتى تَصَبَّاها؟
فأرعَبَتْ حُلْوَتي سَفَّانَةً لترى
في أَوَّلِ العُمْرِ ما تُهْديهِ دُنْياها
فَلَيْتَها الريِّحُ تَدْري ما أُكابِدُهُ
لِيَتَّقي مَضْجَعي الْجافي جَناحاها
يا ريحُ كُفيِّ
فإني مُتْخَمٌ شَجَناً
وجَذْوَةُ الصَّحْوِ في رُؤْيايَ مَرْقاها
تَهْمي فأَنظمُ أَوْجاعي وأَبْلَعُها
وما تَراءى فَفَيْضٌ مِنْ حَكاياها
وكُلَّما زارَني طَيْفٌ لِقافِيَةٍ
آَنَسْتُ ناراً
وفي جَنْبَيَّ أَصْلاها
وصِرْتُ في ضَوْئِها كالصُّبْحِ مُنْبَلَجاً
أَعْلو وأَهْبطُ في مُهْتَزِّ مَرْساها
وَالْعُمْرُ طَوَّقَهُ حَرْفٌ بِدَائِرَةٍ
ما زِلْتُ أَجْهَلُ أَدناها وأَقْصاها
خَمْسينَ عاماً ولم تَسْمَحْ لِسانَحِةٍ
مِنْ الْكَرى
أَنْ يرى غَمضي مُحَيّاها
وفي تَجاعيدِ وَجْهِي أَلْفُ أُمْنِيَةٍ
أَحالَها الدهرُ أَطْلالاً وعَفّاها
وفَتَّقَ الشَّيْبُ في رَأْسي سَحائِبَهُ
وسالَ حتى على الأَهدابِ تَيّاها
تَجاوزي مَوْقِعي يا ريحُ وانْطَلِقي
فليس في حَوْزَتي
إلاّ صَدىً تاها
مُشَتَّـتٌ عَـنْ أُصـولِ الصَّوْتِ مُغْتَـرِبٌ
وَلِلأُصولِ جُذىً حَرىَّ تَلَظّاها
* * *
لِمَنْ أُحاوِرُ؟
هل لِلريحِ ذاكِرَةٌ؟
تَسْتَحْضِرُ الْمُتَخَفيِّ في خَفاياها
فأَقْبَلَتْ تَتَقَصىَّ ما أَنوءُ بهِ
منَ الضَّنى
أَمْ لِتُخْفي ما تَغَشّاها؟
أَمْ أَنَّ زَائِرَتي
عَمْياءُ لم تَرَني
وزَحْفُها خاطِئٌ
واللَّيْلُ أَدْناها؟
يا ريحُ لا تَفْرُدي مَطْوِيَّ ذاكِرَتي
ولا تُزيحي سِتاراً عَنْ مَراياها
فلن تَرَىْ غيرَ أَوْزارِ السِّنينَ لُقىً
تَزاحَمَتْ واحْتَوتْني في مَطاياها
إنْ تَهْدَأي
أَفْتَحِ الْبابَ الذي اخْتَلَجَتْ
أَوْصالُهُ رَهَقاً
والخَوْفُ أَوْهاها
فقد أُحاوِرُ مِلءَ الصَّحْوِ زَائِرَةً
وقد تَكونُ شُجوني مِنْ هَدَاياها
مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتِ عَجْلى
تَزْحفينَ على سُجّادَةِ الثَّلْجِ
فاغْبَرَّتْ زَواياها
واسَّاقَطَتْ نَمْنَماتٌ عَنْ جَوانِبها
مِثْلَ الدُّموعِ
وذابَتْ تَحْتَ حُمّاها
هل كُنْتِ في فُسْحَةِ الصَّحْراءِ هاجِعَةً
وأَيَقْظَتْكِ الضَّواري غِبَّ مَمْساها؟
وهل لَمسـْتِ رَهافـاتِ الْعَـرارِ ضُحـىً
وما تُرَتِّلُ موسيقى خُزاماها؟
وهل رأيتِ نُجوماً في مَسايِلِها
يَخْتالُ بينَ جِيادِ الْفَتْحِ أَعْلاَها؟
فخَفِّفي الْوَقْعَ وارْوي ما رأَيْتِ إذَنْ
طَيَّ الأُصولِ
فإنّي مِنْ بَقاياها
يشُدُّني الزَّمنُ الْمَهْزومُ عَنْ غَدِهِ
لأَرْتَدي مِنْ بُرودِ الأَمْسِ أَزْهاها
وأُبْصِرَ النّاشِرينَ الضَّوْءَ مُنْتَجَعاً
والْمُسْكِرينَ مِنَ الأَحْلامِ ظَمْآها
والْواهبينَ وما ضَنُّوا بما وَهَبوا
إذْ عَمَّروا مِنْ صُروحِ الْحُبِّ أَسْماها
وحَمَّلوا الْحَرْفَ في أُولى سَفائِنهِمْ
وبَسْمَلوا
بين مَجْراها ومَرْساها
ورَصَّعوا الْكَوْنَ بالْقُرْآنِ فاحْتَرقَتْ
منَ الْعُروشِ ببدْءِ الزَّحْفِ أَعْتاها
ورَتَّلوا مِنْ سَمَرْقَندٍ لِقُرْطُبَةٍ
أُنْشودَةً
لم تَزَلُ في الْكَوْنِ أَصْداها
يا ريحُ كَمْ ساهِراً في الْكَوْنِ تُقْلِقُهُ
مِنَ الطَّواغيتِ
حتى ذابَ جَرّاها
* * *
يا ريحُ كيفَ اسْتَدَارَ الضَّوْءُ
واحْتُبِسَتْ أَصْباحُهُ
في ليالٍ قد تَخَطَّاها؟
والزَّارِعونَ صَحارى الأَرْضِ خُضْرَتَهُمْ
تَكَوَّموا في يَباسٍ مِنْ صَحاراها؟
وحَمْلَقوا في سَماءٍ لا نُجومَ بها
ولا سَحائِبَ تُنْدي مَنْ تَشَكّاها
يَبْكونَ أَطْلالَهُمْ ظَمْآى
وتَنْدِبهُمْ ربَيبَةٌ لِلْخَنى
ضَلَّتْ رَعاياها
سِتُّ الْجِهاتِ بَراءٌ مِنْ تَوَجُّههمْ
والْحادِياتُ اخْتَفَتْ في لَيْلِ مَنْفاها
والْبَوْصِلاتُ ضَبابٌ دونَ رُؤْيَتهِمْ
وحالِكُ اللَّيْلِ أَعْطاهُمْ وأَعْطاها
خَفَّتْ مَوازينُهم في كُلِّ حادِثَةٍ
وشَرَّدوا مِنْ جيادِ السَّبْقِ أَغْلاَها
وشَفَّعوا الْقُدْسَ في سَفّاحِها فَجَثَتْ
تَدْعو لِقاتِلِها
مِنْ جورِ قَتْلاها
فَمَنْ رأى كَقَتيلِ الْقْدُسِ ذا مِنَنٍ
أَعْطى لِقَاتِلِهِ
نُعْمى تَشَهّاها
بَراءَةً مِنْ دَمٍ ما زالَ ساخِنُهُ
ما بَيْنَ صَخْرَتِها الْعُظْمى وأَقْصاها
فهل عَرَفْتِ لمَ الأَحْزانُ تلبسُني
عَباءَةً هَرَّأَ التَّقْليبُ مَرْآها؟
* * *
يا ريحُ، دونَكِ داري
فادْخُلي خَبَباً
وَأَيْقِظي مِنْ جِراحِ الْقَلبِ أَحْلاها
فالْحُزْنُ يَغْسلُ مَجْنونَ الْقَريضِ
وَما يَزُفُّ فَيْضُ الْقَوافي
حينَ يَلْقاها
سَفَّانَةٌ هدأَتْ كوني صَديقَتَها
فالْعُنْفُ قاصِمَةٌ، تُرْدى بِصَرْعاها
كانون الأول 1995
وفي سنة 1982 كما تعلمون إجتاحت إسرائيل لبنان، كتبت قصيدة أسميتها مذكرات شهيد في لبنان، وقلت ليس الفضل في هذه القصيدة إلا ترجمة لغتها من لغة القتيل الشهيد إلى لغتنا، هي مؤلفة من عدد من المقاطع سأسمعكم مقطعين:
 
في المقطع الأول يقول الشهيد:
ذُبِحْتُ بقرطبةٍ مرتينْ
وفي الْقدسِ كنتُ قَتيلاً على دُفعتَينْ
وكنتُ بسيناءَ نِصْفَينْ بالضِّفَّتَين
ولمَّا تعثَّرَ مُهْري بصخرِ (الشَّقيفِ) (2)
سمعتُ.. كأني سمعتُ نِدَا
لَهُ بَعْضُ صَوْتٍ، وبعضُ صَدى
-: أَيا مَنْ تُقَاتِلْ
وتَحْمِلُ رأسَكَ كالشَّمْعَدانِ
أَمامَ الْقَوافِلْ
بِكُلِّ الْحُروبِ تموتُ بسَيفيْنِ
سَيْفِ الْعَدُوِّ
وسيف أخيكَ بأَيْدي الْقَبَائِلْ
فَهَلاَّ علمِتُ
لماذا أَموتُ بكلِّ الْحروبِ على دُفْعَتينْ؟
 
القصاصة الثانية
ساءَلْتُ مُهْري
وهو يَجْتازُ الْخَنادِقَ والْخِيامْ
وسألتُ سَيْفي
وهو يَبْكي جُرحَهُ المُمْتَدَّ في حَجْمِ الظَّلامْ
-: أَيُّ الْحَشائشِ والتَّمائمِ والْمُدامْ
تَشْفي الأَعَارِبَ مِنْ مُضاجَعةِ الْكَلامْ؟
الَرُّومُ في نَزَواتهمْ
يَهْووُنَ كالسَّيْلِ الْعُرامْ
مُتَسَلِّلينَ إلى خُدورِ الْمُحْصَناتِ
بدارِ عُقْبَةَ أَوْ هِشامْ
وبَنو الْعمُومَةِ عاكِفونَ على نَسيجِ اللَّغْوِ
في دارِ الْكَلامْ
في كُلِّ حَيٍّ نَصَّبوا صَنَماً
تُراقُ لَهُ الأَضاحي كُلَّ عامْ
في الْجاهِلِيَّةِ، كانَ يُدْعى: الَّلاتَ. أَوْ هُبَلاَّ
وبَعْدَ الْحَجِّ صارَ خَليفَةً
مَلأَوا يَدَيْهِ مَصاحِفاً
وَوَراءَ كُلِّ هَزيمَةٍ
نَسَجوا لِعِزَّتهِ وِسامْ!!
 
شكراً لحسن إصغائكم، وشكراً لاستقبالكم شعري وأتمنى أن ألتقيكم..
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :448  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 158 من 187
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.