شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أبو نمي الأول
ظل أبو نمي وعمه إدريس يحكمان مكة بالاشتراك عدة سنوات ثم عادا إلى الاختلاف فخرج إدريس من مكة غاضباً وبقي أبو نمي في حكمها منفرداً (1) .
وفي هذه الأثناء كان مماليك الأتراك في مصر قد فرغوا من أعمال التأسيس في حكومتهم كما أسلفنا في الفصل السابق، واستطاع الظاهر بيبرس أن يقضي على جميع الخلافات التي نشأت بين قوادهم في سني التأسيس الأولى وأن ينتزع الأمر لنفسه في سنة 658 (2) فيوطد بنيانه ويثبت دعائمه وأن يستقبل حفيد الخليفة العباسي المشرّد بعد وقائع التتار في بغداد استقبال المضيف لضيفه ويوطئ لمقامه في مصر ويبايعه بالخلافة الروحية فيها.
وفي هذه الأثناء، وعلى أثر الظفر الذي ناله بيبرس، امتد طموحه على بلاد العرب وخدمة الحرمين ليضيف إلى اسمه مفخرة جديدة.
ويبدو أن بيبرس أراد أن يتوسل إلى ذلك بأجمل الوسائل، فقد شدّ رحاله في عام 667 إلى الحج فاستقبله أبو نمي في حفاوة بالغة وتقدير عظيم.
وبسط بيبرس يده بالبذل في مكة والمدينة فقدم إلى صاحبها أبي نمي من التحف والهدايا والأموال ما لم يقدر، ووزع على الأشراف عطاءً سخياً وأغدق على الأهلين في المدينتين مبالغ طيبة ورتب لكثير من العائلات فيهما منحاً سنوية وأعطى القبائل من أهل البادية أعطيات جزيلة تركت أثرها الطيب في حياتهم.
وعلم بيبرس بالخلاف بين أبي نمي وعمه إدريس فجمع بينهما وسوَّى جميع الخلافات ولم يتركهما إلاّ بعد أن تصالحا على كل الأمور كما اتفقا على أن يخطبا للسلطان بيبرس (3) .
ثم ما لبث أن عاد الخلاف بين أبي نمي وعمه فخرج العم إلى البادية واستنفر القبائل فأطاعوه، فعاد إلى مكة بجموعه المقاتلة واشتبك الفريقان في واد خليص (4) بالقرب من عسفان شمالي جدة واقتتلا قتالاً شديداً انتهى بقتل إدريس وعودة أبي نمي إلى الحكم منفرداً بنفسه.
ويختلف المؤرخون في عدد المرات التي اختلف فيها أبو نمي وعمه وتواريخ الوقائع التي اشتبكا فيها ولكنهم اتفقوا في أن ذلك انتهى بقتل إدريس وانفراد أبي نمي بالحكم.
واتصلت الأنباء بالظاهر بيبرس ولا نستبعد أن يكون أبو نمي كتب إليه بذلك وأنه برر أعماله بحجج أدلى بها، فكتب إليه الظاهر بيبرس يشترط إلغاء المكوس وإباحة بيت الله الحرام للعاكف والبادي وألاّ يمنع زائراً في ليل أو نهار وألاّ يتعرض لتاجر بظلم وأن تكون الخطبة والسكة باسمه لقاء عشرين ألف درهم تقدمها مصر سنوياً (5) .
وظل أبو نمي على أمره نحو ثلاث سنين، ثم هاجمه من المدينة أحد أولاد عمه إدريس المقتول في جماعة من بني عمهم آل قتادة وكثير من مقاتلة البادية واستطاع المهاجمون أن يجلوا أبا نمي عن مكة ويتولوا أمرها نحو 40 يوماً، ثم ما لبث أبو نمي أن استأنف الكرة عليهم فأجلاهم وعاد إلى حكم مكة وذلك في سنة 670 (6) .
واتصلت هذه الأنباء الجديدة بالملك الظاهر بيبرس في مصر، ولعلّ أنباء أخرى سيئة بلغته معها، وكان يقظاً للعلاقة السياسية التي تربطه بمكة حريصاً على العناية بالأشراف عليها، فكتب إلى أبي نمي في عام 675 كتاباً شديد اللهجة هذا نصه:
من بيبرس سلطان مصر إلى الشريف الحسيب النسيب أبي نمي محمد بن أبي أسعد.. أما بعد: ((فإن الحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن! والسيئة في نفسها سيئة وهي من بيت النبوة أسوأ! وقد بلغنا عنك أيها السيد أنك أبدلت حرم الله بعد الأمن بالخيفة وفعلت ما يحمر به الوجه.. وتسود الصحيفة، ومن العجب كيف تفعلون وجدكم الحسن وتقاتلون حيث لا تكون الفتن ولا تقاتلون حيث تكون الفتن هذا وأنت من أهل الكرم وسكان الحرم فكيف آويت المجرم واستحللت دم المحرم ومن يهن الله فما له من مكرم، فإما أن تقف عند حدك وإلاّ أغمدنا فيك سيف جدك والسلام)).
وقد أجابه أبو نمي معتذراً عما حدث (7) ولا يعتذر أبو نمي إلاّ لخلال سيئة ارتكبها، ونعتقد أنها كانت في غير موضوع القتال مع آل قتادة في المدينة لأن موقفه من آل قتادة موقف المدافع عن إمارته إلاّ أن يكون آل قتادة -وقد كانت تجمعهم بسلطان المماليك في مصر مودة عظيمة- قد أوغروا صدر الظاهر بيبرس على أبي نمي إذا صحّ هذا فمن الطبيعي أن يعتذر أبو نمي اعتذار الضعيف الذي لا يملك من القوة ما يقاوم به جنود المماليك في مصر.
اعتذر أبو نمي ونحن نعتقد أنه لم يكن في اعتذاره مخلصاً كل الإخلاص، وأنه ما لبث أن عاد إلى عناده مع مماليك مصر وليس للضعيف المستعصي على الطاعة من حيلة أمام القوي إلاّ العناد في الحدود التي يستطيع أن يمارس فيها عناده، لهذا لا عجب أن يؤدي العناد إلى استئناف فرض المكوس وإهمال بعض شؤون الحراسة خصوصاً فيما يتعلق بالركب المصري، ولا عجب أن يتصل بحكومة الرسوليين سراً في اليمن ويتقبل هداياهم ويحتفي بركبهم في مكة، ولعلّه كان يقدمهم على ركب المصريين.. ويدلنا على هذا جميعه ما يذكره الفاسي من أن الملك المنصور قلاوون الألفي (8) كتب إلى أبي نمي في عام 681 يستحلفه بأن يخلص طويته ولا يضمر للمماليك غدراً ولا يلتفت إلى جهة غير جهتهم!! وألا يقدم غيرهم عليهم وأن يبيح زيارة البيت للعاكف والباد وأن يؤمن سيرهم وأن يفرد الخطبة والنقود باسمهم وأن لا ينقض ذلك.
وقد حلف أبو نمي صيغة اليمين التي طلبوها منه وكأني به لا يملك سبيلاً إلى العصيان ولعلّه شعر أن الجهة التي يعرضون بها فيما استحلفوه -وهم الرسوليون في اليمن- لا يملكون مناصرته ضد مماليك الأتراك في مصر.
فإن الفاسي يحدثنا أن أبا نمي ما لبث أن نقض بعض الشروط الخاصة بالدعاء في الخطبة للمماليك ولعلّه كان متأولاً إلى أن يقول: حلف أبو نمي يمينه ولعلّه كان لا يضمر الوفاء وهو تأويل غير مستقيم (9) .
وفي عام 683 هجم جماعة من آل قتادة على مكة واستطاعوا أن يجلو أبا نمي عنها، ثم ما لبث أن عاد إليها بعد أن أجلاهم، ونحن نعتقد أن لهجوم آل قتادة علاقة بغضب مماليك مصر واستيائهم من أبي نمي.
ويؤيد ما نذهب إليه ما يذكره صاحب الأرج المسكي تعقيباً على هذا الحادث فهو يقول ما خلاصته.. ثم ورد جيش من مصر مع الحاج لإخراج أبي نمي من مكة فمنعه أبو نمي من دخولها وأغلق أبواب السور فاقتحم المهاجمون السور من جهة الشبيكة ففر أبو نمي هارباً من الباب إلى منى ثم تربص لقائد جيش المماليك حتى قتله ثم أمر أن ينادي في الناس أن من قتل رجلاً من المماليك فله فرسه وسلبه ففتكت العرب بجيش المماليك وأخذوا خيلهم وعاد الهاربون منهم إلى مصر وذلك في نهاية عام 683 ومن الطبيعي أن يكون لوصول أخبار الهزيمة إلى مصر أسوأ الأثر لدى صاحبها المنصور قلاوون وأن يأمر بتجنيد حملة لاستئصال أبي نمي وقد فعل ذلك وعزم على قيادة الجيش بنفسه إلى مكة لولا أن ثبطه عالم في مصر كان معروفاً بتقواه وصلاحه فقد دخل عليه وهو يأمر بالتأهب فقال: إلى أين تمضي بمقاتلتك؟ فقال: أمضي إلى استخلاص الحرم من أبي نمي.. فقال إنك حسنت العبارة ولكن الناس لا يقولون هذا.. إنهم يقولون إنك ذاهب إلى القتال في حرم الله وقتل أولاد الرسول، فوقع ذلك من السلطان موقعاً ثبط من عزمه (10) .
واستمر أبو نمي بعد هذا على أمره وظل يخطب للمماليك في مصر ويتلقى إعانتهم بالرغم من جفاء العلاقة بين الطرفين.
وفي عام 689 توجس أبو نمي شراً من عسكر ابن عقبة أمير الحج الشامي فأمر بمنعه من دخول مكة وأغلق أبواب سورها فتسلق أجناد ابن عقبة السور من جهة الشبيكة وساعدهم بعض أجناد المصريين ثم أحرقوا باب السور فانثال العسكر الشامي والمصري منه إلى مكة وحدث الاشتباك واشتد القتال عند درب الثنية (11) بالشبيكة ثم اتصل بالمسجد الحرام وكان عدد السيوف التي شهرت به نحو عشرة آلاف سيف، وقد قتل من الفريقين نحو أربعة آلاف وجرح خلق كثير (12) .
 
طباعة

تعليق

 القراءات :545  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 88 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج