شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الناحية الاجتماعية والعقلية
ووهم بعض المؤرخين في إدراج مكة مدارج القبائل من أحياء العرب، وحسب آخرون أنها كانت نزلة يمضي عليها ما يمضي على نزل العرب وقراهم في آفاق الجزيرة ولكن شيئاً من الاستقراء ينتهي بنا إلى غير هذه النتيجة. فالقرآن سمّاها في أكثر من مرة ((أم القرى)) وفي هذا ما يشير إلى ميزتها في مستوى من حولها من منازل الجزيرة وقراها. والقرآن خاطبها بمعانٍ ليس من يعتقد أنها غريبة عنها فتحدث عن المشكاة والمصباح والزجاج وعن المساكن يعرج إليها بالمعارج، وتحدث عن أنواع من الطيب كالكافور والزنجبيل والمسك وأنواع من الأثاث المترف كالنمارق والزرابي والسرر والفرش المبطنة بالاستبرق والسندس وأنواع الأواني من الفضة كالقوارير والأكواب والكؤوس وأنواع من الحلي كالمرجان واللؤلؤ، كما حدثهم عن القراطيس والكتب والسجلات والصحف والأقلام والمداد وأشار في كثير من آياته إلى النحاس والحديد والفخار والصحاف والجفان والقدور، ولا يقول إنسان أن القرآن كان يخاطبهم بما لا يفهمون مدلوله من الألفاظ وأنه كان يشير إلى معانٍ غريبة عنهم.
إذن فبيئتهم كانت تعرف هذه المعاني معرفة من اختلط بها واندمج فيها، وفي هذا من الأدلة ما يقوم بحجتنا على من وهم من المؤرخين وفيه ما ينطق بأن مكة كانت في ذلك العهد قد أخذت بطرف غير يسير من أسباب الحضارة الخاصة بجيلها الذي تعيش فيه.
وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب، فقد كان المكيون من قريش يضربون في مناكب الأرض بين اليمن والشام والعراق وفارس والهند ومصر والحبشة ويتصلون في رحلاتهم هذه بالقصور المشيدة والعمران الفخم وألوان من الحضارة تتعدد بتعدد الحضارات التي كانوا يختلفون إليها، فلا عجب أن تتلاقى في بيوتهم في مكة أكثر الحضارات الشائعة في عهدهم وأن تبدو واضحة في حياتهم.
وكانت مخابئهم إلى جانب هذا تكتنز بالذهب والفضة كما تكتنز بالنقد المضروب من الدينار والدرهم، وقد ذكرها القرآن في معارض مختلفة نستطيع أن نفهم منها أنهم كانوا يعرفونها معرفة تامة.
وكانوا يستعملون الموازين في أسواقهم والمكاييل، ويعرفون من مفردات أثقالها أنواعاً كثيرة كانوا يتعاملون بها، وليس أدل على هذا من خطاب القرآن لهم وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (المطففين: 1-3) ويسرد بعض المؤرخين بعض الحوادث الفردية التي يحسبون أنها تحدد معارف القرشيين في علم المال أو تبين مدى حيازتهم له فيذكرون في رواية الصحابي الذي اشترت منه إحدى السبايا نفسها بألف درهم أن رفاقه عندما لاموه على رخص الثمن قال لهم والله ما أعرف فوق الألف شيئاً، ويريدون أن يستدلوا من هذا على تحديد معارف القرشيين في الأموال والأرقام ولعلّهم نسوا أن القرآن كان يخاطبهم بأرقى من هذا المستوى وهو يستعرض هول يوم القيامة ((في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)) أو يسرد لهم قصة يونس وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (الصافات: 147) وليس من شك أن قوماً أحصوا بعشرات الألوف ومئاتها كانوا على شيء كبير من الغنى، وكان يصحبه ما يتبع الثراء من الحضارة وما في الحضارة من ترف.
كانت بيوت أُموية وأخرى مخزومية يضرب المثل بها في الغنى وكان ابن جدعان يتَّجر في الرقيق وقد أثرى منه ثراء فاحشاً حتى شبهوه بقيصر.
يوم ابن جُدعان بجنب الحزوره
كأنه قيصر أو ذو الدسكرة (1)
وما ظننا بقوم كان القرآن يعرض أمامهم في صدد التشريع أدق من هذا فيشير إلى النصف والثلث والربع والخمس والثمن والعشر في أوامره بتوزيع التركات، لا ريب أنهم كانوا في بيئة تجيد هذه الكسور ومضاعفاتها.
واستعمل القرشيون في مكة الثياب والسراويل والقمصان والنعال وتختموا بالذهب والفضة، واتخذوا لخواتمهم حبات اللؤلؤ، كما استعملت القرشيات الخُمُر والجَلابيب والخلاخل التي كن يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن عدا ما تحلين به من عقود وأساور وما تطيَّبن به من ذي أريج فوّاح، وقد قيل أن عبد المطلب دفن في حلتين قيمتهما ألف مثقال من الذهب وأن من قريش من كان يلبس الثوب بخمسين ديناراً (2) وهو ما يقابل اليوم 300 ريال، وجاء في القرآن ذكر من ينشأ في الحلية.
وكان لمترفيهم مجالس للسمر ينصبون لها الأرائك ويمدون فيها الموائد ويتفكهون بما طاب من ثمارهم ويتلذذون بفواكه الطائف الطازجة أو مجففات الشام وفلسطين المستوردة لمتاجرهم ويعرفون طعام الفالوذج نقلاً عن الأمم المجاورة (3) .
وكانوا يتخذون من ثمرات النخيل والأعناب خموراً يعدونها في مجالسهم في آنية من فضة وأقداح من بلور، ويدور عليهم ساقيهم بها تفوح منها روائح المسك والكافور أو الزنجبيل.
وكانت لهم حلقات يعقدها القصَّاصون يتلون فيها عليهم أساطير الأولين أو يقصّون عليهم بعضاً من نوادر الحياة مما يصادفه الرجل في آفاق الأرض فيجتمع إلى هذه الحلقات كهولهم في أقبيتهم الفضفاضة وشبيبتهم في ثيابهم الموردة أو المحمرة من أغلى الحرير المجلوب من بلاد فارس أو المصنوع في العراق والشام.
وكانت مكة في عهد قريش تضم إلى هذا ما تضمه عواصم اليوم تقريباً من جاليات أجنبية يهبطون إليها بفنونهم وأموالهم وبعض علومهم فلا تلبث أن تتسع لما يهبط إليها وتفسح لها من المجال ما تفسحه اليوم، وكثير من كتب السير في مجموعها تحدثنا بأنه كان من سكانها نصارى الروم ووثنيون من فارس وأنه سكنها جاليات من العراق ومصر والحبشة والسريان، ونحن لا نستبعد أن يكون نزوح هذه الجاليات فراراً من الثورات وألوان الاضطهاد (4) وتحت عوامل أخرى شبيهة بالتي تؤثر في انتقال الموجات البشرية في كل دور من أدوار التاريخ.
ولست أدري رأي من يقول بشيوع الأمية شيوعاً مطلقاً في هذه البيئة التي ندرسها ولا ممن يرى أن وسائل الكتابة يومها كانت تقتصر على العظام والحجارة لأن القرآن ذكر عن الصحف المنشرة (5) وسجلات الكتب (6) والمداد (7) والأقلام (8) ما يشير إلى معرفتهم بها وأنهم كانوا لا يجهلونها.
ومما يلفت النظر أن القرآن في أوائل نزوله بمكة كان يكتب وينسخ ويذكر ابن هشام في سيرته أن عمر دخل على شقيقته قبل إسلامه وفي يدها صحيفة قرآنية، ويؤيد هذه الرواية أكثر المؤرخين، وهي تدل فيما تدل على وجود الصحف يومها وأن نسخها كانت تتداول في مكة، ولا يصح فيما أرى أن تكتب الصحف ويتداول نسخها في بيئة تشيع فيها الأمية شيوعاً مطلقاً وتقتصر المعرفة فيها على أشخاص معدودين على أصابع اليد كما يذكر بعضهم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :594  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 258
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج