شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-18-
صديقي:
سعدت حياتك.
إنها أبرّت بوعدها.
وإنها بعد هذا كانت أحرص مني، بدليل أنها سبقتني إلى الموعد، وأنها أخبرتني أنها ظلت تنتظرني أكثر من ساعة.. وبعد أن حييتها بأرق ما يحضرني من معاني التحية، وما أندر ما يحضرني من المعاني الرقيقة قلت:
- ألا نزال في مكاننا من البحث؟
- أجل.. أو تقلع عن أسلوبك التجاري القمين بأسواق النخاسة، وتؤمن بما وراء المادة إيمانك بفردٍ صمد لا تحيط بشيء من علمه إلاَّ بما شاء.
- الإيمان بصمدية مَن لا أحيط بعلمه لا يعني قط الإيمان بخرافة توارثتها الأجيال عن كتب القصاصين، ونوادر أصحاب المِلح، ومبالغات المبدعين من الشعراء، وغباوة البلداء من الممرورين.. إنما سبيل الإيمان التبصر وأخذ الأمور على وجوه واضحة، وفرز الأسانيد المتصلة بمصدرها الصحيح، وأنه لا يحتاط في المغيبات التي لا يدركها الحس أحد ما احتاط.. ولكني في قصة الحب لا أجد ما يحملني على اعتبارها من شؤون وراء المادة، إلاَّ إذا ألغيت تحصيلي فيه من التجارب.
- أمامك مثل قائم يحيل شبهاتك إلى هشيم تذروه العواصف.
- يسرني مثل هذا المثل ما قامت أسبابه على وجه جلي واضح.
- ألم تشهد في حياتك وجهاً فاتناً تطالعك فيه أهداب وطف، تستقر سهامها في قلبك من نظرة خاطفة فتترك أثرها دامياً في حناياك؟؟
ألم يهجرك في صباك حبيب، فشعرت في فؤادك فراغاً لا تملأه الأرض ومن فيها؟؟
ألم تفاجئك فيما عشت صدفة طالعك فيها محيا حبيبك الهاجر، فمشت في أوصالك رعدة كأنها من الكهرباء، واختلجت كل جارحة فيك، وشعرت بلسانك يتلعثم، وفؤادك يخفق، ومعاني الكلمات تلتاث عليك.. إذا صادفك شيء من هذا، وأكبر ظني أنه لا يصادفك، فستضطرب عليك فلسفتك، وتجد نفسك من جديد أمام ألغاز في الحب أغزر من أن تنطوي عليها مادة، وأبعد من أن يتناولها عقل يناقش القواعد، ويرتب على مقدماتها نتائج.. وأيقنت بأن وراء المادة المحسوسة آفاقاً لا تجدها فلسفتك.
ما أغرب ما تفهمينني.. أرجو أن لا تُخرجي من حسابك قط أنني أول من يُقدّر سعة الآفاق فيما وراء المحسوسات.. وأن سهام الأهداب الوطف لم تخطئني، وأني عانيت من التياع المهاجرين، ومشت في أوصالي من رعدة المفاجآت الخاطفة ما يُستعصى على الوصف، وأني جربت كل ما قاساه الممرورون من مجانين الحب.. إلاَّ أنني أبيت في النتيجة إلاَّ أن أحتفظ بمسكة من العقل أناقش بها كل هذه الشعوذة، وأبت فلسفتي الخاصة إلاَّ أن ترد كل علة في الحب إلى أصلها في الحياة.
أكنت تحسبين العلاقة بين الفراغ في الفؤاد، وفقد الحبيب علاقة لها معناها الروحاني أو الشيطاني، أو شيئاً يجري على مثل هذا النسق؟؟ أم أنت تحسبين الرعدة والكهربائية في اللحظة التي يصادفني فيها الحبيب أكثر من تجاوب نفسي له ظواهره العديدة في غير الهيام المجنون؟
إن في الليمونة حرافة حامضة خاصة عرفها مذاقك. وأفرز من لعابه في امتصاصها ما أفرز.. فإذا طالت غيبته عنك، ثم عرض من ذكرها عرض فستشعرين بلعابك سائلاً يفرزه مذاقك كما لو كان فصاً من الليمون بين أسنانك، فهل ترين علاقة روحانية تربط بين ذكرى الليمون وفرز اللعاب، أم جامع من الشيطان بينهما؟؟
الواقع أنها ذنبرية تنبه لها الجهاز العصبي أول ما عرض ذكر الليمونة، فأرسل إشارته إلى حساسية الذوق من فمك، فأدى وظيفته في إفراز اللعاب كعادته في كل حالة يمتص فيها فصاً من الليمون، وفي مناحي الحياة لهذا ألف قبيل؛ فقد تصادفك ساعة هنيئة تتفتح لها نفسك ثم لا تلبث أن تغشاك ذكرى منغصة من ذكريات الماضي، فإذا نفسك المفتوحة لا تلبث أن تنكمش، وفؤادك ينقبض، وتشعر أنك تضيق بنفسك، وتلتاع، وتكاد أن تمزق الكآبة والأسى صدرك أفكان في هذا أكثر من تنبه عصبي أثار كامناً في أعماق نفسك، أو خفايا عقلك، وانتهت إشارته إلى ما تفتح في صدرك فانكمش لها وقبض.
كذلك كان الأمر في الحب، فقد انطوى عقلك الباطن بتأثير الخرافة الموروثة على طعم خاص بالحب. وانطوت نفسك على ألوان لها صبغتها التقليدية.
فإذا فاجأتك النظرة الخاطفة تنبَّه عصبك؛ وأرسل إشارته إلى مخابىء الخرافة فأثارها من مكامنها بما لصق بها من أوضار وشعرت بالرعدة الكهربائية تمشي في أوصالك لأن فكرة الحبيب المدفون في خفايا عقلك كانت الخرافة قد دفنتها ملوثة بهذه المعاني..
ثم ما يمنع فؤادك الفارغ أن يظل فارغاً في ساعات الهجر تملأه الأرض ومن فيها ما دمت قد أحببت الحب الذي انطوى عقلك الباطن على معانيه بهذه الألوان.
الذكريات تنبِّه العصب، والعصب يرسل إشارته إلى مكامن الفكر ليثيرها.. ولا تثار الفكرة إلاَّ بألوانها التي دفنت بها فحاولي أن لا يطوي عقلك الباطن فكرة الحب في ألوان سوداء لتجدي أن الذكريات لا تثيرها إلاَّ فيما انطوت عليه من لبوس.
وحاولي أن لا تلجي مداخل الحب وأنت تعتقدين ظلاله الثقيلة لتجدي أن الهجر لا يترك في الفؤاد كل الفراغ الذي يشعر به المخدوعون والممرورون.
الحب مرآة تنعكس على صفحتها ظلال أفكارك في ألوانها السوداء القاتمة، أو البيضاء الناصعة.
فاختاري لها ما يعجبك من ألوان تحمدي أو تشقي.
ومضى بنا البحث في هذا النحو عذباً طرياً حتى انتصف الليل أو كاد، وتقشعت سحابة في آفاق الجنوب عن كوكب ناصع يشع بريقه في خيوط رقيقة لامعة، فتطلعت إليه طويلاً في سكون الغافي.. ثم التفتت إليه في أدب المعجب وقالت: أتنقشع الخرافات عن حقائق لها مثل بريق هذا الكوكب وقد انقشعت عنه الغيوم؟
قلت: إنك تُخجلين تواضعي.. يا فتاتي.
قالت: وقد بدأت تتحفز للقيام. لا تزال المسافة بعيدة بيننا وبين هذه النسبة.. فهوِّن عليك، وادعني باسم جنسي. وقل يا فتاة.
قلت: إنه شأنك.
قالت: وهي تودعني؛ على أن لا تستاء، وأن تعطيني من وقتك كأخت ما تسمح به أوقاتي وفرصك؛ ثم شدت على يدي، ومضت تنحدر في تعاريج الأكمة، وتمضي بمضيها في أعماق الوادي السحيق.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :379  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 101 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.