شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-17-
صديقي:
لك الهناء.
إنها صدقت الوعد. لقد كان مساء جميلاً ازدحمت السماء فيه بطبقات رقيقة من السحاب، وانتشرت في الأفق.. وكان رذاذ المطر يتخلَّل فروع الدوحة فتسمع لتوقيعه بين أوراقها ألحاناً أشبه ما تكون بعبث الأطفال في أوتار قيثارة.. وكانت في جلستها تستند على جذر ناتىء من الدوحة، وتتجه إليَّ بوجه شاحب في بياضه الناصع صفرة من لون الذهب النقي الخالص.
قالت: وبعد؟
قلت: إنني في انتظار رأيك الأخير فيما أسلفت.
فاعتدلت في جلستها، وابتدرتني في صوت المتعجرف.
- أمحب أنت تحاول وصال مَن أحببت من انكسار المحبين وضراعتهم؟ أم تاجر تساوم في صفقة، وتناقش في العرض والطلب قبل توقيع الصك، وتذليله بالختم والطابع؟؟
فإن كنت الأول فأنت عاشق جرى القلم في شأنك بما يتفق وحظك في شكل لا يتَّسع للمناقشة.. وإن كنت الثاني ففي محافل السوق متسع لما تمتهن، وفي أعماله ما يتفق مع مذهبك في مناقشة العرض والطلب، وتوقيع الصكوك.
- إنها مصلحة يا فتاتي قبل أن تكون أي شيء آخر.. وإنها مقابلة لا يستوي بينها نتيجة صحيحة إلاَّ على أساس من التفاهم المتبادل.. وإنك بعد ذلك في حل من أن تستعيري لها اسم التجارة، أو أي اسم آخر تختارينه لها، على ألاَّ تفرضي فيها حكماً إدارياً لا يتسع للمناقشة، ففي ذلك عتوّ أليَق بالعبد المهين منه بالمتودد العاشق، لا تشترطي الضراعة والانكسار، فذلك تقحم على العلاقات العاطفية وتعسف لا مبرر له.
هبوب.. أتنكري أن الحب متعة يجتليها روحان متحابان، وأنه فيما عدا ذلك سعير يذخر بالكبريت والنار؟.
- لست أخالفك في هذا، ولكنني لا أدري إذا ما استطاع المحب أن يجني اليوم متعته أيملك أن يتحاشاه غداً إذا ذخر بالكبريت والنار؟
هذا مفترق صالح لأن نبدأ منه البحث في يمينه يمضي المحب المأخوذ بما افتتن مضي الأسير المملوك يستعطي الرحمة، ويطلب الإحسان.. وفي شماله يمضي صنوه مضي المختار يزن الخطوة قبل أن يضعها، ويناقش فيما يأخذ قبل أن يعطي، ويأبى على نفسه الحركة إلاَّ في وجه بيِّن، وسبيل واضح.
- إنك بهذا تدرج الحب في قوائم الماديات، وتعطيه من الفروض ما تعطي أحداث الحياة ممّا يتناوله عقلك.
- وما يمنعنا أن نقول هذا؟
- يمنعنا الواقع!!
- بل يمنعنا ما تركز في أعمق خفايا عقلنا الباطن من أوهام كاذبة.. والمسؤول عن هذا أول مشعوذ اخترع أكذوبة الحب، في صور أسندها إلى الشياطين مرة وإلى استجابة في حنايا القلوب أو مجاري الدم مرة أخرى.. وسايره في هذا جاهل أو مجنون، فتبلورت الفكرة، ووجدت على مر الأجيال من يُشايعها، واغتنمها القصاصون لترَّهاتهم، فجعلوا منها مصدراً ثرثراً حافلاً بالمبكيات والمضحكات، ترويجاً لبضاعتهم، وإشباعاً لشهواتهم.. وخلف في أعقاب ذلك خلف يُجلّون ما ترويه الكتب في غير فحص، ويُقدسون ما تحدثت به الأجيال قداستهم لكل مأثور يستعصي على المناقشة، ولا يقبل الجدال. فتأصّلت الفكرة في الخفايا الباطنية للعقول، وانطبع الناس عليها انطباعهم بكل موروث مقدس.
- ولِمَ لا يكون تحليلك افتراضاً تتخيّله، وتبني له قصوراً من الرمال؟
- تصوريني قبلت هذا، وسلَّمت به. فهلا يتعيَّن علينا أن نتلمَّس الحقائق في المذهب المعارض.. تعالي نقل مع القائلين بأن الحب شيء أغزر من المادة، وأبعد من أن يباشره العقل.. هنا تواجهنا أسئلة لا بد منها؛ هل هو نفثة من الشياطين تنفث في النفس ما تنفثه في العقد؟ أم هو استجابة في حنايا القلب ومجاري الدم أبعد من أن تتناولها تصرفات العقول؟؟
- إنه ينقصك لتقيمي البرهان في هذا شهود من الواقع.
- أجل فقد شهدت الحياة شخوصاً كانت أرجح ما يكون عليه العقل، وأسمى ما تنعت به العفة.. فلم يغنها عقلها عندما استهواها الحب ولم تربأ بها عفتها عنه.. ولقد جرت حوادثهم في هذا مجرى الأمثال، وعرف الناس في كل عصر من حوادثهم وما يغني عنه البيان.. فمنهم من أطبق عليه الجنون، ومنهم من قضى نحبه، ومنهم من بات على يأس ينتظر.
ألا ترى أنه لو كان في أمر الحب ما يتناوله العقل لرأينا لرجاحة العقول، وعفة النفوس تأثيرها في مصير الضحايا التي ذكرت؟؟
- أشهد أن ما أشيع عن مثل هذه الحوادث يغني عن البيان، وأن ما سجله التاريخ أوسع ممّا تشيرين.. إنه سجل عن شهداء الغرام مئات الألوف من القصص.. ولكنك لا تملكين قيدي بجميع ما فيها، فقد أثبت التحري أن لوضع القصاصين علاقة بما سجل المؤرخون في هذا الباب، وأن أكثرهم كان معتمداً في نظر الكثير من المؤرخين.
على أنها إذا ثبتت حادثة أو أكثر فليس في تصرفات الشواذ والمجانين ما يمكن الاحتجاج به في ميادين الحياة.
- ولكنك لا يجب أن تنسى ما سجل الشعر في غرامهم وما تشهد به للتاريخ قصائدهم.
لا أنسى؛ ولكنك تعرفين أنهم شعراء -ولا مؤاخذة- يُسايرون العقائد السائدة، وتُشايعهم أخِيلة خصبة.. وأعذب الشعر أكذبه -كما كانوا يقولون- على أني لا أمانع في أن تصح أخبار هذه القصص وأكثر منها، وأن يصدق الشعراء فيما صوّروا.. لا أمانع في هذا، وأنا أعلم أن لتأثير الوهم من التأثير ما ليس للحقيقة، وأن ما استقر في الخفايا الباطنة للعقول في مدى الأجيال السحيقة له قيمته من التأثير في النفس.. ألا لعنة الله على أول مشعوذ اخترع هذه الفِرية، وأول مجنون شايعه عليها، وأول جمهور اعتقدها، وأتاح لها فرصة الرسوب في أعمق خفايا العقول، لتنطبع عليها أفكارنا وتتسع آفاقها لقرائح شعرائنا.
ولحظت أنني أثير دهشتها بهذا المنطق، وأن مسحة من معاني الإقناع تلوح في هدوء على صفحة وجهها، فلم أشأ أن أطيل.. واستشرتها في أن ترجىء البحث إلى مثل موعدنا في الغد؛ فلبَّت إلى موافقتي مسرعة وافترقنا..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :345  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 100 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثالث - النثر - مع الحياة ومنها: 2005]

التوازن معيار جمالي

[تنظير وتطبيق على الآداب الإجتماعية في البيان النبوي: 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج