شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-42-
كنت مرة في سيارة عامة ببعض مدن الشرق العربي، وكنا مزدحمين بصورة لا تترك متنفساً لأحدنا.. ولكن السيارة كان لا بد لها أن تقف في محطاتها الخاصة، ولا بد لها أن تستقبل مزيداً من الركاب سواء غادرها بعض المزدحمين فيها أم لم يغادروها.
وأهلّت علينا في إحدى المحطات سيدة من الشباب العصري (المودرن)، واستطاعت أن تجد بين المزدحمين فرجة لا تكاد تتسع لوقوفها.. فحشرت جسمها في الفرجة، وأخذت تتأرجح بين الواقفين بتأرجح السيارة بين الخفض والرفع.
وأطالت النظر في أقرب الجالسين بجوارها، ثم شرعت تترحم على أيام زمان.. عندما كان شمم الرجل يأبى عليه إلاَّ أن يؤثر السيدة في مثل هذا الزحام، وأن يفضلها على نفسه فلا يقبل الجلوس دونها، ولا يرضيه أن يتركها تتأرجح في مثل هذه الأوضاع. وسرى تقريعها بين الركاب مسرى الكهرباء فاستجاب لها أكثر من واحد، ونشطوا واقفين يعرضون عليها الجلوس في أماكنهم.
لقد كانوا عقلاء، استجابوا لداعي الشمم في دمائهم، ولو كانوا مجانين لاستعصوا على نداء الدم، والتمسوا رأي الفلسفة فيما تقول السيدة (المودرن!!).
إن المجانين من أمثالي يعلمون أن للمرأة عندهم حقوقاً تأتي في طليعتها حماية ذمارها، والذب دونها بالمال والنفس، وتأتي في نهايتها إيثارها بالمركب السهل والعيش اللين؛ صوناً لأنوثتها وإبقاء على نعومتها.
ولكن أي امرأة؟ إنها امرأة الأجيال التي كانت تعيش فيها فخورة بحماية الرجل، مزهوة برقتها وحاجتها إلى خشونة الرجل. أمّا اليوم وقد تحولت إلى (مودرن) تنادي بالمساواة فمن العدل أن تتساوى معه في مزاحمة الأقدام، وألاَّ تعترض على ما يصادفها بجواره من ظروف قاسية، وأن تتقبلها بنفس الروح التي يتقبلها بها الرجل.
قد يتبادر إلى ذهن عاقل أن المجانين في مثل هذا الموقف يحاربون نهضة المرأة، وينكرون عليها رقيها، ولا يرضيهم أن تساوي الرجل في نصيبها من الحياة السليمة.
والواقع لا يؤيد هذا، فرقيّ المرأة دليل على نهضة الأمة التي تحيا فيها، وقد بلغت حاجتنا إلى رقيها في نهضة الشرق العربي الجديدة ما لم تبلغه في أي زمن مضى، لأننا بتنا في أمسِّ الحاجة إلى جيل تنشئه الأم الراقية في خير ما تنشأ عليه الأجيال الناهضة ببلادها.
وإن ما عانيناه من جهل الأم وعجزها في مجالي الحياة طوال قرون لكفيل باعترافنا لها بالمركز الذي أصبحت تحتله في حياتنا الجديدة.
إننا نؤمن بهذا، ولكننا نتمنى ألاَّ تنسى المرأة أن سبيلها إلى الرقي لا يعني المساواة الشاملة التي تلغي الفوارق بين أنوثتها الناعمة ورجولتنا الخشنة.
إنها بعد أن تثقفت في أكثر بلاد الشرق أبت إلاَّ أن تحتفظ بجمالها وفتنتها ورقة ملمسها.. وهي صفات تباعد بينها وبين خِلال الرجل، فأية مساواة يمكن أن نتلمسها من هذه المفارقات؟
حيهلا بها مدرِّسة، أو ممرضة، أو طبيبة، أو عاملة في كل ما يتفق وطبيعة وظائفها في الحياة، أمّا أن تساوي الرجل في جميع أعماله الخشنة؛ فذلك مردود إلاَّ إذ شاءت أن تطلّق أنوثتها، وأن تنسى حفاوتها بالرقة والفتنة.
تلكم آراء مجنون فإذا بدا للعقلاء غيرها فالعقول طبقات كما أن الجنون فنون.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :325  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 75 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.