الاثنينية ::المكتبة

مكتبة الاثنينية

> > > > > -39-

-39-

ما أروع أن ينتصر المجانين بانتصار الحياة في جيلها الحاضر وقد أثبتت الأيام صدق أفكارهم وصحة خيالاتهم التي كانت تثير ضحك العقلاء وسخرياتهم.

كان المجانين إلى عصر سابق يتحدثون عن قصة الشبان الثلاثة الذين تسابقوا في طلب يد ابنة (الأمير)، فأمرهم الأمير بالسياحة في الأرض.. ليتحفوا ابنته بعد عودتهم بأطرف ما يصادفهم في سياحتهم.. ووعد بأن يقدم ابنته إلى مَن يستطيع أن يتحفها بأغرب تحفة في الأرض.

ثم تمضي القصة المجنونة خلف السائحين الثلاثة، إلى أن تعود بعودتهم.. فإذا ثلاثتهم يجتمعون في طريق العودة في مركب واحد.

أمّا الأول فقد ظفر بمرآة إذا نظرها استطاع أن يرى فيها صورة مَن يحب على هيئته في تلك اللحظة، وقد عنَّ له وهو في المركب أن ينظر صورة بنت الأمير فرآها تعاني مرضاً خطيراً، فاستبد به الحزن وأسرَّ ذلك إلى زميليه فتقدما إليه يعرضان ما عندهما.

قال أحدهما: إنني أملك قنينة تحوي ماء الحياة، إذا ازدرد المريض منها قطرة عاد إلى الحياة صحيحاً معافى، فقال الزميل الثالث: إنني أملك حمامة من الزاجل مدربة على نقل البريد إلى أي جهة نائية، فإذا وافقتما على ربط قنينة ماء الحياة برجلها فستحملها إلى بيت المريض في سرعة خاطفة.

ثم تمضي قصة المجانين حتى تصل بالقنينة إلى المريضة التي لا تكاد تزدرد القطرة منها حتى تشفى.

وتأبى القصة (قصة المجانين) إلاَّ أن تعلن الحيرة في بيت الأمير! فقد تعذر على الأمير أن يعرف أي التحف أشدهن غرابة وأثبتهن منفعة وأطرفهن منظراً.

أعلن الأمير حيرته فيمن يستحق يد ابنته.. أهو صاحب المرآة التي استطاع بها أن يكتشف مرض الفتاة من مسافة تبعد آلاف الأميال عنها؟ أم صاحب القنينة التي أعادت إليها الحياة؟ أم صاحب الحمامة التي عاد الفضل إليها في نقل القنينة؟

أعلن الأمير حيرته فيما تقول قصة المجانين.. ونحن لا تعنينا حيرة السلطان في القصة كما يعنينا الخيال الخصب الذي كان يتمتع به مؤلف القصة المجنون، فقد أبدع في تصوير المرآة التي تكشف المطلوب من وراء الأقاليم النائية، والحمامة التي تستطيع أن تؤدي خدماتها في نظام خاطف، والقطرة من الماء التي تستعجل الشفاء في أخطر الأحوال.. يعنينا من القصة أن يؤلفها مجنون متطرف الخيال في نظر جيله، فلا تلبث الأيام أن تثبت صدق أفكاره وصحة خياله المتطرف.

لا تلبث الأيام أن تثبت أن في الإمكان رؤية الشخص من وراء الأميال البعيدة بواسطة التلفزيون، وأنه لا يعجزنا أن نسعف المريض في بقعة نائية بجهاز نسميه طائرة تؤدي خدماتنا في سرعة خاطفة، وأننا إلى جانب هذا في سبيل اختراع عقاقير تفعل مفعول السحر في استعجال الشفاء.. بدأنا ذلك بالبنسلين وسنختمه بأحدث ما ينتهي إليه علم الذرة.

إنها خيالات مجنون انتصرت بانتصار الحياة في جيلها الحاضر واستطاعت أن تثبت صدق أفكاره وأن تحيل السخرية والهزء المضحك إلى حقيقة جادة يؤيدها العلم.

ما أروع أن ينتصر المجانين في أمثال هذه الأحداث، وأن تتكشف خيالاتهم المضحكة وتصوراتهم المتطرفة عن حقائق تبهر العقلاء فتملي عليهم احترام المجانين، والكف عن السخرية بهم.