شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
-8-
لوثة الغنى حمى شاعت عدواها في صورة لم يسبق مثلها في جميع ما منيت به البلاد من أنواع العدوى أيام الكوليرا والطاعون وعقد الركب.
أكاد ألمس الغنى يسيل في كل عطفة أدخلها أو بيت ألجه إذا استثنيت المتورعين أو قصار الهمم من الباعة والسقائين وعامة الناس من المحدودين والقانعين.
إنني أقتعد شباك نافذتي فأشهد السيارات من أحدث (الموديلات) وأعلى (الماركات) تدرج في أرتال تتلاحق كما يتلاحق النمل في خطوط لا نهاية لأبعادها، فأسائل نفسي: أليس لهذا البطر نهاية؟
رحم الله أبي يوم كان يعرف قدر الرجال من نظره إلى (حمار الربيطة) المشدود إلى مذود القصر، أو منظر البغل في أردافه العريضة داخل الإسطبل.. أمّا اليوم ففي كل عطفة أرتال في الربائط لا تدري كيف تميز بين أقدار أصحابها، أو تتعرف إلى الفوارق بين مراكزهم من الجاه والغنى.
عظيمة هذه الديمقراطية الشائعة بشرط أن لا تشوبها لوثة أو تلوّثها شائبة.
حبذا الغنى الشائع بشرط ألاَّ تتطوّر عدواه فينسى المحمومون وسائله المشروعة، ويتهافتون عليه دون أن يفرقوا بين الجائز والمكروه.
كنتُ أعرف صديقاً يتقاضى من عمله ما يكفيه أود بيته، ثم رأيته يثرى فجأة، ويتألق ثراؤه في قصر يبنيه، وسيارة يقتنيها، وخدم يصطفون لانتظار ما يأمر.. فسألت جاره، فقال: إن دخله ممّا يعمل لا يسد حاجة الخدم فضلاً عن ألوان الترف الأخرى.
قلت: إذن فالأمر مكشوف، ولا آمن أن تتفتح العيون عليه.
قال: إنه قد أعد عدته لما يمكن أن يكون، فهو لا يخشى منذ اليوم، لأن في خزائنه الجديدة ما يغنيه إذا أدلهم الخطب.
قلت: ولكني كنت أعرف كبرياءه على مثل هذا.
قال: إنه معذور فقد رأى الغنى يعانق زملاءه، ومرؤوسيه في العمل، ورأى نفسه يعاني مقتضيات الحياة الجديدة وحده، فنزعت نفسه إلى مجاراة الغير.. فأبى أن يسلس في بادىء الأمر ولكن المقاومة كان لا بد أن يكون لها حد يسقط بعده الحصن وقد سقط الحصن بعد لأي طويل، واحتل الجشع مكان الصدارة التي كان يحتلها الكبرياء، واستحال الرجل في أثر ذلك إلى ما ترى.
وعرفت بعدها رجلاً كان يعلم أنه من المنسيين في العلاوات والترقيات.. ولكنَّ عزة نفسه تأبى عليه أن يعترف بما ناله من النسيان، وكان طابعه الذي يتميّز به بين زملائه ترفعه عن الدنايا، وإيلام الطائشين بأبلغ ما يتسع الإيلام.. وكنت أراه يغتنم دقائق الراحة من عمله فيهرع إلى مصلى قريب يتوجه فيه إلى الله بركعات خاشعة، ثم يتناول مسبحته ويشرع في ترتيل صلواته في خشية وتبتل.. حتى إذا فرغ من الراتب استأنف عمله بروح التقي الفاضل.
وظل على هذا إلى أن خطبته جهة معينة لعلّها كانت ممنونة بما خطبت، ولعلها كانت تشعر بحاجتها إلى الكفء الرفيع عن دنايا الحياة.
وغبتُ عن صاحبي سنوات زرت بعدها الجهة التي انتقل فيها عمله، فعنَّ لي قضاء السهرة في بيته، فما كدت أسلّم عليه حتى راعني الجو السائد في قاعته.
وقضيتُ ساعتين أدركتُ فيها مبلغ الطيش الذي انتهى إليه صاحبي، ورأيت من مباذله المكشوفة في غير خجل ما تهون بجانبه جميع مباذل الطيش التي كان يعيبها على غيره.
قلت لزميل له يرافقه في العمل: شد ما أسأتم إلى الرجل في أخلاقه. فقال: إنه بطر الغنى وإساءته قبل أن تكون إساءتنا.
هذه ألوان شائعة في آفاقنا فإذا عزَّ على مجنون مثلي أن يناقشها في فهم وأناة فهل يعز على جماعة العقلاء أمر نقاشها؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :366  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 41 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان زكي قنصل

[الاعمال الشعرية الكاملة: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج