شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
لنُعِدَّهم.. إعداداً فنياً!..
دعونا نمشِ في جمال وتنسيق وفن.. كما نمشي في علم، وقوة، وعقل!!
إننا إذا خدمنا نهضتنا كما -نؤمل- بعلومنا، وعقولنا، وقوتنا فليس من حقنا أن نُهمل في هذه الخدمة نواحي الفن، والتنسيق والجمال.
إن الحياة في عهود ما قبل التاريخ عرفت الفن واستهواها الجمال قبل أن تعرف العقل وتسترشده في مجالي الإنتاج والعمل.. فقد لذَّت لها زينة السماء، وإشعاعات الكواكب، وانتشار الغيوم، وسطوع البدر، ووهج الشمس.. لذَّ لها كل ذلك واستهواها جماله قبل أن يسترعي انتباهها كشف ما فيها من حقائق، وتفسير ما يحيطها من علوم.
والإنسان بفطرته فنان قبل أن يكون عالماً يستعذب زقزقة العصافير، وهديل الحمام، وخرير المياه، وأناقة الروض، وجمال الزهور.. قبل أن يستعذب البحث في كنهها، والتعمُّق في أسرارها.
ولا يقولنَّ قائل إن هواية الفن ترف لا لزوم له في أُمة تتوثَّب للأعمال الجدِّية، وإن استرواح الجمال كماليات يتشاغل بها الفارغون.. فذلك ضيق في الذهن لا يتسع لدراسة الحقائق في إمعان ودقة.
إن الأُمة التي ينشأ أفرادها من طفولتهم على تذوق الفن في غرفة رشيقة، وخزانة مرتبة، وبيت جميل، وشارع نظيف، ومدرسة منسَّقة وحديقة يفوح عبيرها، وميادين تأخذ العين مناظرها سوف تعرف في مستقبل أيامها كيف تتذوّق الحقائق، وتفهم دقائقها، وتعرف كيف تُهذِّب طبائعها وتُرقِّق مشاعرها!!
وإن الأُمة التي تُعلِّم أبناءها كيف يتذوقون الفن في قصيدة عامرة، ولوحة ناطقة، وجلسة رائعة، ونزهة شائقة.. تستطيع أن تُهيِّئهم للسموِّ الروحي، والميزة العقلية.. وتربي فيهم ملكة الفهم والنقد.
إذا أعددنا أبناءنا إعداداً فنياً.. هذَّبنا طباعهم، وهيَّأناهم لتعشُّق الجمال في أعلى صوره، وعلّمناهم كيف يحيون حياة لها سعادتها ولذتها.
كان النبي صلى الله عليه وسلم جميلاً عندما أحب الجمال، وفرض النظافة والوضوء، وسنَّ السِّواك والتطيُّب، والاكتحال، وشدَّد النكير على النجاسات بأنواعها، وأوصى بالزينة عند كل مسجد، وعيَّن الأعياد، وقرَّر لها الثياب النظيفة البيضاء!!
ولا تُعنى أُمة بأمثال هذه الخِلال إلاّ إذا رقّت مشاعرها، ودقّت أحاسيسها، واستعذبت الجمال الفني في كل رشيق منسق، واستوحت الحب السامي من مظاهر الحياة الرفيعة.
تعالوا ندرس حياة الأجلاف من أصحاب العواطف الغليظة، والمشاعر الجامدة، والأذهان الضيقة.. لنعرف لون الحياة النابضة في أفئدتهم، ونستقصي مدى تقدُّمهم في فن العيش السعيد.
إننا سوف لا نظفر بينهم بفكرة عالية تتعشَّق الخير، وطبع مهذَّب يأنس بالتلطُّف، ومشاعر رقيقة تميل لودِّ الناس وحبهم، وتعطف على أمانيهم.. ذلك لأن الكبد الغليظة لا تنبض بعطف، ولا تهفو إلى خير على عكس الفنان الذي دقّت أحاسيسه، واستهوى الفن مشاعره فنشأ مفتوناً بالجمال والخير.
ورجال العدل، وأصحاب البرِّ بالناس، والذين يؤثرون على أنفسهم، والمشفقون في المصائب، والمحسنون.. كل أولئك دقّت أحاسيسهم فجاشت بالبِر، وفاضت بأعلى ما تفيض به نفس الفنان العالية، وروحه السامية.
إننا نقرأ اليوم في الصحف السيّارة أخبار المتسابقين في أعمال الخير، والمتنافسين في شتّى أنواعه، والمتبرعين بأملاكهم وأموالهم للمصالح العامة فيأخذنا العجب من تسابقهم، وتنافسهم في ميادين لا نقوى على مجاراتهم فيها.. ولكن عجبنا يبطل إذا علمنا أن طباعهم تهذبت من نعومة أظفارهم كما رقَّت أحاسيسهم وسمت أغراضهم، وفاضت أنفسهم بأجمل ما تفيض به النفوس العالية.
في العالم اليوم.. مَن يتبرَّع بدمه للمستشفيات، وفيهم مَن يتبرَّع بأحد أعضائه، أو قطعة من جسمه براً بالمصابين، ورحمة بالضعفاء والعاجزين، فأي فؤاد هذا الذي هفا إلى مثل هذا الخير؟؟ لا ريب أنه الفؤاد الحساس؛ فؤاد الفنان بما في الفن من سمو وجمال.
وفي العالم.. قصص فيها الكثير من التضحية.. فمنهم من ضحّى بنفسه في طوربيد ينسفه، أو صقيع يُبدده، أو مجاهل تبتلعه، أو شدائد تقضي عليه.. في سبيل الخدمة العامة -فأي شعور هذا الذي دفعه إلى هذه المخاطر، وحبَّب إليه هذه المجازفات؟.. لا ريب أنه الشعور العالي شعور الفنان الذي يَنبض قلبه بالخير والجمال.
فدعونا نُربِّ أولادنا على تذوُّق الجمال، ونهذِّب طباعهم لتصفو أرواحهم وتدق أحاسيسهم.
دعونا نفتح عيونهم على بيوت نظيفة وغرف رشيقة، وأثاث جميل، ومناظر أخّاذة ومظاهر من كل لون جذّاب.
دعونا نفتح عيونهم على شوارع نظيفة لامعة، وميادين متَّسعة، ومدارس رشيقة منظَّمة، وحدائق ذكية فوّاحة.
دعونا نُشعرهم بالجمال على أي حال، وفي كل حال لنغرس فيهم حبَّه، ونُعلمهم كيف يهفون إليه مهما تنوّعت صوره، واختلفت ألوانه.. فالجمال جمال الخِلال العالية.. من مروءة وشرف.. إلى شهامة وعدل.. إلى حب وإيثار.
دعونا نفهم أنه لا يكفي أن نتزوَّد لنهضتنا الجديدة بسلاح المعرفة التي تثقف أذهاننا، وتُمرِّن ملَكاتنا.. دون أن نُعنى بأرواحنا فنُعلِّمها كيف تصفو، وتحسُّ، وتتألم، وتهفو إلى الخير.
دعونا نُهذِّب طباعنا، ونصقل عواطفنا، ونُرهف أحاسيسنا لنشعر بشعور الغير، ونحس بإحساسه، ونتودد إليه في عطف وإخلاص.
دعونا نتعلم كيف نحب الخير للخير، ونتعشق الإحسان للإحسان، ونَصْبُ إلى الطيِّبات لا لما نرجو في عواقبها، أو نخشى من مغبَّتها.. ولكن صبوة للطيِّب في ذاته.. وبذلك نعدُّ أنفسنا خير إعداد ظفر به غيرنا.. ونُهيِّئ أمتنا لأسمى خِلال تُشرِّفها أمام الله والتاريخ.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :328  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 28 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

جرح باتساع الوطن

[نصوص نثرية: 1993]

الغربال، قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه: 1999]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج