شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أكَانَ هذا مِنْ عَمَل الجان؟
دعونا نخطُ خطو المتقدمين.. لا نفكر بغير أسلوب العصر، ولا نحيا بغير حياة العصر.
إن نظرة عميقة إلى الأصول الصحيحة في ديننا تُبيِّن لنا المدى الواسع الذي يُتيح لنا التفكير التقدمي إذا أحسنّا التفسير والفهم.
خطب أحد الوعّاظ المسلمين في باريس يدعو إلى تعاليم الإسلام، فوقفت إحدى المستمعات ترجوه أن يكتب لها حجاباً يُعينها على إنجاب الذرية.. أسوة بما يفعله المسلمون في مثل هذه المناسبات فقال: ((يا سيدتي: إن عمل المسلمين لا يكون حجة على الإسلام في جميع الأوقات، كما أن أعمال اليهود والنصارى ليست حجة على تعاليم ما أُنزل إليهم)).
ثم قال ((وإن في موضوعك يا سيدتي ما أشار إليه القرآن في صراحة لا تحمل اللَّبْس فقال تعالى يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيمًا (الشورى: 49-50). فلا محل إذن للحجب التي يصطنعها بعضهم لينجب الذرية إذا كان قد سبق في علم الله أنه سوف لا ينجب)).
وليس في هذا ما يمنع من مباشرة الأسباب، لأن الأسباب المشروعة لا يطعن فيها الإسلام، ولا يمنعها بل يوصي بها ويُلزم، ولكنه يمانع؛ بل ويحارب جميع الأسباب غير المشروعة ممّا لا يقره عقل أو دليل محسوس.
ولو سايرنا ديننا فتجنبنا جميع الترَّهات مما لا يُقره عقل، لوفَّرنا للمسلمين أوقاتاً طويلة بدَّدناها في مئات مضت من السنين سعياً وراء أباطيل لا حقيقة لها. ولاستطعنا أن نجعلهم يستفيدون مما بدَّدوا في أشياء عملية يُسابقون بها مَن سبقهم إلى الهواء فركبوه، وإلى البحار فغاصوها، وإلى طبقات الأرض السفلى فاعتصروا خيرها.
في سبيل الشيطان آلاف الأفكار التي أنجبناها في عصور مظلمة. نظَّمنا في خلالها قواعد للاتصال بالجان واستخدام الشياطين وغيرها. وغيرها مما نستلهم فيه النجوم والكواكب، وعناصر الكون وراء المجهول.
أتُرانا كنا من السذاجة والغفلة بمكان ممتاز حتى استطاعت الشياطين أن تستهوينا بترّهاتها وأباطيلها، أم كنا حاذقين فلم نعجز عن امتلاك الجان واستخدامهم؟
كنت أتمنى لو يصادفني شخص واحد من ذلك الرعيل المُجِد، الذي أفنى حياته في الهمهمة والدمدمة، ليثبت لي بدليل محسوس أنه استطاع أن يحتكم على جنيٍّ واحد لا يزيد على حجم دُويبة صغيرة يُسخّره لشؤونه ويتحكم في مقدراته.. إذن لثبت لي أننا عمليون، وأننا فيما صرفنا من أوقاتنا في أجيال طويلة لم نكن مسرفين أو مبذرين، بل كنا من الحصافة بحيث نعرف كيف نعطي لنأخذ؛ وكيف نصرف من أوقاتنا ما يعود علينا بالعوض النافع.
حدثني عجوز قضى صدر شبابه دؤوباً في تجارته الواسعة حتى كوّن ثروته من أرقام تستحق الحسد فقال: وإني لفي عنفوان نشاطي إذ صادفني دجَّال يَدَّعي تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب إبريز.. فاستهواني حديثه فيما يمتهن، واستوصفته طريقة العمل فلخَّصه لي في جملة مقتضبة.. فرأيتني أعقد العزم على تقليده فيما وصف، وأُواصل الدأب الذي ألِفته في تجارتي، فلم يحل الحوْل حتى جاء الدأب الزائف على جميع ما أملك!! وليتني بعد هذا اقتنعت بما جربت!!
قلت أوَتنوي أن تمضي فيما وهمت أكثر مما مضيت؟ قال إنني لا أزال بعد هذه السن الطاعنة مأخوذاً بما استهواني من صناعة الزيف ولا يمنعني إلاّ فراغ اليد!!
قلت كذلك دأب الأماني الباطلة تستهوي عقول السُّذَّج وتغريهم بزيفها الكاذب، ولا أمل لتبديد ما يلمع من برقها الخلب إلاّ في انقشاع الغشاوة السائدة على أبصار الضالين.
وأمثال هذا المخدوع في الشرق عدة لا يوفيها الحصر.. أضلّتهم نظريات سجلها الدجّالون والممرورون في عصور مظلمة تعاقبت عليها أجيال وأجيال ولا يزال سحرها يلمع في أبصار غَشِيَها التمويه، وأعماها الخِداع.
لا يعلم إلاّ الله كم ورثنا من آلاف الكتب التي بحثت عن قبائل الجن الأحمر، والجن الأصفر وملوكهم المتوَّجين وخدمهم المسخَّرين، ولا يعلم إلاّ الله كم دوَّنت هذه الكتب من (أوفاق للجلب) والجذب، وخدمة العاشقين والمدنفين، وسجَّلت طلاسم بلغة من غير لغات الأرض.. بعضها يُعالج الأسقام والعلل، وبعضها يُعالج الجنون وأوهام النفس، وبعضها يفتح الكنوز المخبوءة، أو يُسهِّل الأرزاق المعسَّرة، وبعضها يحول دون فتك السيوف والأرماح، وبعضها يساعد على امتطاء بساط الريح، أو يُعين على تجميد المياه للراكب والماشي؛ وبعضها لخدمة جميع الغايات ومختلف المآرب.
تُرَّهات أضاعت عمر الأجيال في بلاد الشرق، وضيّعت من فرص الحياة عليه ما لا تعوِّضه الأجيال.
ورثنا هذه الكتب من عصور الظلمة، وعكفنا عليها عكوف المجانين فتركنا غيرنا يتحيّن الفرص ويكتسب الوقت.
لعلّهم لم يرزأوا بالشعوذة التي رُزئنا بها، ولم يرثوا هذه الأرتال من التدجيل الذي ورثناه.. فاستطاعوا أن يحتفظوا بأذهانهم صافية وعقولهم صحيحة.. استطاعوا أن يمرنوا تلك الأذهان على الاستنتاج والبعث، وأن يتركوا عقولهم تحتك بما يصقلها ويزيد في حرارة طاقتها فابتكروا لنا في الحياة ما يعجز عنه الجن؛ واخترعوا في مرافقها ما لا يقوى عليه الشياطين.
أكانوا يستخدمون الجان عندما نقلوا أصواتهم في الراديو من أقصى الأرض إلى أقصاها؟ أم كانوا يمتلكون المردة عندما ذلَّلوا الهواء لطائراتهم، أو البحار لماخراتهم، وأعماق المحيطات لغواصاتهم، وآفاق الأرض لتجاربهم الجهنمية التي أتاحت لهم امتلاك ناصية العالم وسودتها في جميع القارات؟
أكان هذا من عمل الأبالسة وإيحاء الجن وتعليمهم، أم كان نتيجة لتمرين العقول، واحتكاكها بالأمور الجسيمة والحاجة الملحة؟
ماذا صنع الجن لنا في عصور طال دهرها كنا فيها نُهمهم بأسمائهم ونُدمدم، ونُقسم عليهم بالأيمان المحرجة، والتوكيدات المغلظة، ونهتف بأسماء كبارهم وألقاب ملوكهم؟؟ أبنوا لنا طائرة واحدة نطوي بها أبعاد السماء أم صنعوا لنا رصاصة واحدة نقاتل بها الأعداء؟؟
أنجادل بعد هذا في ترَّهاتنا، ويتبجح بعضنا فيُغرينا بإلغاء عقولنا لنستمع إلى أحاديثه في مبلغ استفادتنا من امتلاك الجن وتسخير العفاريت، وضرورة استعانتنا بالطلاسم والأوفاق؟ أم نقنع اليوم بما جرَّبنا، ونكتفي بما نالنا، ونحاول أن نجعل من مآسينا دروساً ننتفع بها في مآتي أيامنا؟
ومن غريب المفارقات أن أجدادنا في الشرق اتَّسع خيالهم قبل مئات السنين. لكل ما نتمتع به اليوم من مخترعات الغرب، فألَّفوا القصص التي جعلوا أبطالها يطيرون في أجواز الفضاء، ويغوصون في أعماق البحار ويطوون المسافات الشاسعة في ساعات محدودة.. اتَّسع خيالهم لكل هذه الظواهر فأتاحوها لأبطال قصصهم في صور تغاير الصور الملموسة التي نشاهدها اليوم في وسائل نقلنا، صور اخترعوا لها حكايات عن بساط الريح والعفاريت الطائرة التي كانت كما تقول حكاياتهم تضطلع بهذه الأشياء فتنقل أبطال قصصهم عبر السحاب، أو تطوي بهم الأقطار كما تطويها لنا السيارات.
اتّسع خيالهم فافترضوا ما شاء لهم الافتراض حتى إذا نهض الناهضون في الغرب استطاع هؤلاء أن يُحيلوا كل تلك الخيالات إلى حقائق نلمس اليوم فيها الطائرة والباخرة والغوّاصة والسيّارة وما لا يحصى من وسائل المدنية.
أمّا نحن ورثة أولئك الذين تخيَّلوا فقد اقتصرنا على ما ورثنا من أوهام ولم تتَّسع مداركنا لفكرة واحدة نُحيل فيها ما افترضوا إلى حقيقة نلمسها.
إن ألوف الاختراعات التي ابتكرها الغرب والتي أتاح لنا استعمالها في نطاق استنزف أموالنا، لم نستطع إلى اليوم أن نشارك في ناحية بسيطة من نواحيها، ولم نستطع أن نحقق طرفاً واحداً من أطرافها.
هل من عِلَّة حالت دون نشاط عقولنا واحتكاكها بالنظريات النافعة الحية؟.. أجل فلا يزال سحر الشرق القديم يُغشي وعينا العام، ولا تزال فينا أغلبية تُعلِّق آمالها بمُعمِيات فيها شيء من خوارق السحر، نستعرض فيها قوى الجان وكفاءتهم لعمل المستحيلات التي نتخيلها، ولا تزال منا كثرة ساحقة تحفل بكتب القصص المفعمة بأخبار السحر والسَّحَرَة، وحكايات المَرَدة الطائرين وعرائس البحر الغائصات، ولا يزال إلى اليوم كثير من أطفالنا يستمعون إلى أحاديث العجائز عن ملوك الجان السبعة وعن الكنوز المطمورة في الأقبية، وعن طاقية الاستخفاء وعن الحجب التي يندفع حاملها إلى معترك السيوف فلا يناله شيء من أذاها.
وبالرغم من أن الإسلام حارب في عصره جميع هذه الترَّهات وتَوعَّد السحرة والمشعوذين، إلاّ أن العقلية الشرقية ما لبثت أن عادت إليها خرافتها واستطاع المشعوذون أن يعودوا إلى كهانتهم، وتدجيلهم.
لا نريد أن نُزكّي العقلية في الغرب من كل هذه الترَّهات، فهي لا تزال في بعض نواحيها تستسلم لدعاة الدجل عندها. ولكن تقدُّم العلوم الكونية والبحوث النفسية والدراسات المستفيضة في طبيعة الأشياء، أعانت على تحديد وباء الخرافة في حيِّز ضيق.
وعنايتهم بتسخير عناصر الكون واستخدام طاقته في منافعهم كشف لهم عن حقائق دقيقة كانت الخرافة تستغل غموضها فيما تُشيعه من تدجيل.. فهل يُواتينا اليوم الذي نواجه فيه حقائق الحياة، وتتَّسع فيه آفاقنا لدراسة الكون من نواحيه المستعصية، وتتوافر لدينا الملكة العلمية التي تُعيننا على الابتكار، وتساعدنا على مساهمة الغربيين فيما تنتج عقولهم الخصيبة من مخترعات في شتى أغراض الحياة؟؟
دعونا نتفق على تصفية أذهاننا من جميع ما علق بها من أدران الماضي المظلم، ونُعِد عِدَّتنا لدراسة الحياة في توسُّع يؤهلنا للإنتاج العقلي الذي سبقنا إليه غيرنا. وعندئذ سنرى أن جميع الأوهام التي عاشت الخرافة في ظلها أجيالاً ستتبخر، ولا تقوى على مواجهة الشمس!!
وأخيراً.. دعونا.. نمشِ!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :453  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 114
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.