شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(11)
ستي (1)
وأحسبني أطلت في استقصاء ما أحاط بي في المدرسة، ومن الخير أن أنتقل إلى ما أحاطها في البيت مما ترك أثره في حياتي.
كان أبي -كما أسلفت- قد طبعني رغم حبه لي على قسوة الحياة لأن حب الأبناء ما كان يعني في نظر جيله غير الصرامة والإلزام يقصر عنها الجدل، وكان جميع ما يبلغه من شقاوتي في البيت أو الشارع أو المدرسة لا يقبل دفاعي فيه، ولا يبيح لي في شأنه تفصيل الملابسات التي تهون من وقع الحادث أو تخفف من عقوبته.. لأن ذلك في نظره فصاحة أو (فصعنة لا يقرها الأدب العالي!!).
وكانت لأبي عقائد في الحياة لا هوادة في شأنها. فمذاكرة الدروس والإكباب عليها لا يجب أن تحدد بأوقات وتقاليد لف العمامة، وطريقة ربط الحزام، وكيفية انتعال (المداس) وشكل ارتداء الكوفية كل هذه أشياء يجب أن يساير فيها الوضع العام، وأن تحترم عادته في شأنها.
وكان لمجلسه أدب خاص.. فجلوسي أمامه يجب أن لا يتغير عن الوضع المعروف عندهم بالحشمة، ويجب ألا يستثيرني الحديث فأنبس بكلمة. أو أناقش في رأي، أو أضحك لأقل مناسبة بحضوره فذلك سلوك لا يتفق مع الأدب العالي كذلك!!
وقد تركت هذه الآداب في نفسي أكثر من عقدة فإذا رأيتني اليوم أمقت التقاليد، ولا أتقيد في المجالس الكبيرة بآدابها الخاصة إلا مكرهاً، وأتميز عن كثير من غيري بكثرة الكلام، وشدة اللغط وقوة المراس في الجدل.. فذلك أثر الشعور بالنقص الذي أحاول أن أعوِّضه باللجاجة وحب الانطلاق، والنفور من القيود العامة. أما أمي فقد كانت مسكينة لا تتميز بشيء، ولا تترك في غيرها أثراً ويبدو أنها عاشت رحمها الله مشغولة في التوفيق بين عطفها عليَّ؛ واحترام إرادة أبي في تقويمي.
وعندما توفيَ والدي، وتركني لها قضت حياتها حائرة في انتهاج السبيل الذي يوفق بين ضعفها وتهذيبي، ورأيتني أستغل حيرتها فأتخطى الحدود، واستمرىء الانطلاق، ثم أستوي على عرش البيت، وأفرض إرادتي على الضعفاء والحائرين. وتلك هي عقدة النقص التي تركتها في نفسي حياة القسوة والقيود، والتي اندفعت بتأثيرها بأول ما استطاعت الاندفاع في حرد لا تقيده الضوابط، ولا تضبطه القيود.
وإذا قيل أن الخيوط الدقيقة التي يغزلها الطفل أثناء شيطنته سينسج منها إذا كبر أهم مقومات رجولته فإن رجولتي إلى اليوم لم يكتمل لها -فيما أظن- إلا بعض المقومات التي يعتقدها علماء النفس فهل في الغيب ما هو ألعن؟
وصادفتني في هذه الفترة التي تخطيت فيها الحدود، وأستمرأت الانطلاق.. مدرسة لها لونها وطابعها ومنهاجها في التأثير.. تلك هي مدرسة (ستي).
كانت ستي (جدتي لأمي) قد عاشت حياتها الأولى مضطهدة في بيت زوجها. فلما أطلق قيدها بموت زوجها عنيت قليلاً ببناتها منه، ثم زوجتهن وتحررت من كل ما يقيدها في الحياة، وأخذت على عاتقها أن تتسلى فيما بقي من عمرها بسجادتها وسبحتها، وتلاوة الأدعية والابتهالات التي كانت تحفظها عن ظهر قلب، تلقيناً عن العجائز اللواتي كن يخالطنها في (حصوة) النساء بالمسجد، أو خلف (حلقة العالم) بجوار زمزم.
كانت تحدثهم عن الصالحين الذين يمتطون متن الهواء بأجنحتهم والمقربين الذين يطوون البحر بأقدامهم، وأصحاب الخطوات الذين يصبحون في مكة ليمسوا في القدس، ويبيتون وراء جزر واق الواق.
وكان لها رأي خاص في (المدركين) بأركان الأرض، والمشرفين على أحوالها. وكانت تحفظ من حكاياتهم ما يثير العجب. فإذا آنست إنكاراً لما تروي، أو ارتياباً فيما تقص، جمعت سبحتها بين يديها، وتوجهت إلى الله بقلب واجف ألا ينزع الإيمان من الصدور، والتقوى من القلوب.
سمعتها مرة تقول إن أحد المتكبرين راعته -وهو يصلي في المسجد- وساخة جاره الفقير في الصف فاشمأز. فأراد الله أن يعاقبه، فسلط عليه الحدث فخجل من الخروج من المسجد المكتظ إلى حيث يجد ماء يتوضأ. فنظر إلى جاره الفقير. ثم فتح كمه بين عينيه. فشاهد المتكبر في الكم طريقاً نافذة مضى فيها إلى حيث وجد متوضّأً جدد فيه وضوءه، ثم عاد، فلما انتهت الصلاة تعلق بالفقير وقال له: إنني أرجو سماحك كما أرجو أن أكون تابعك أضع عنقي حيث تضع رجلك. فقال الفقير: إذا كان ولا بد أن تعلم فإني خادم عند إحدى المومسات. فقال إني قبلت متابعتك إلى حيث تخدم فلما رافقه إلى بيت المومس وتطلعت من نافذتها لتراهما، قالت للفقير.. هل أذعت السر اذهب فأنت مطرود.
تقول ستي في تعليقها على القصة: إن المومس كانت من الصالحات والمقربات وأنها إذ تبيع جسدها للشهوة لا تريد إلا التظاهر بما يحقرها في نظر الخلق، ويقربها إلى الخالق.
فإذا قلت يا ستي لو وليناك حاكمة؛ هل تقيمين الحد على مثل هذه الزانية أم تتركينها؟ وتتركين مثلها خشية أن تكون من الصالحات المتظاهرات بالفجور؟
كنت أقول هذا فتصرخ في وجهي مستاءة: ((يا ولد لا تعترض تنطرد)).
وإذا قلت: يا ستي إن هذا الفقير ألا ينهاه الدين عن الوسخ الذي يتقزز منه الناس؟ ويأمره بالنظافة؟ قالت: -(إن ربك رب القلوب).
فإذا قلت: ولكنه أمر بالنظافة، صاحت في وجهي (قم من قدامي يا قليل الحيا، انت ولد مجادل بطال). وكان استياؤها يزداد كلما جادلتها في أمر. ولكنها كانت تحبني رغم جدلي، وكانت تميزني دون بقية أحفادها بقصصها المخرفة، وكانت في بعض الأحايين تضحك ملء رئتيها من عقليتي الصغيرة وتسميني (الواد المتفلفس!!).
كانت تحفظ عن ظهر قلب أكثر سور جزء عم بالإضافة إلى سورة يس، وسورة الواقعة، وكنت إذا سمعتها تقرأ فاض اعتزازي بنفسي -كقارىء حافظ- وشرعت أصلح لها كل كلمة تنطقها وأراجعها في كل حرف تحفظه. وكنت أقول يا ستي إن ما تقولينه ليس قرآناً لأنه ليس فيه كلمة صحيحة النطق. فكانت تسمع مني ثم لا تلبث إذا أعياها إخراج الحروف كما أنطقها أمامها أن تطردني (قم يا واد ربك رب قلوب!).
وكانت إلى جانب معلوماتها تلم بكثير من قصص التاريخ. ومن قصصها في التاريخ أن منارة باب الوداع كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قائمة في باب السلام. فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم من باب السلام إلى طواف الوداع مشت خلفه وعندما خرج من باب الوداع كانت تتبعه. فلما التفت ورآها سألها إلى أين؟ قالت إني ذاهبة إلى حيث تذهب! ولكن النبي أبى عليها الذهاب. فبقيت في مكانها تبكي إلى اليوم؛ وكان من علامة بكائها أن نقوشها إمّحت ولم ينقشوها بعد ذلك دون سائر المنائر!!!
وكنت لا أدري أن المنائر لم تحدث إلا في وقت متأخر عن عهد النبي، لهذا كنت لا أجادل إلا في أسلوب المشي؛ لأني لا أرى للمنائر أرجلاً تصلح للمشي. فكانت لا تزيد عن أن تحدجني بنظرة طويلة، وتدعو الله لي أن يهديني ثم تعيد لازمتها: (قم يا واد ربك رب قلوب!).
ومن قصصها أن عين زبيدة في مكة متصلة بنهر دجله في العراق لأن زبيدة زوجة الرشيد عشقها ملك الجان فاقترحت عليه عندما حجت أن يسقي مكة من نهر دجلة فجمع الجان لبناء القنوات في العراق إلى مكة فجرى الماء إليها في ليلة واحدة وبقي يسقي المسلمين إلى اليوم.
ومن قصصها أن رجلاً وقعت عصاه في بئر بمسجد المدينة فوجدوها في بئر زمزم بمكة ذلك لأن ماء زمزم يجري من مسجد المدينة إلى مكة وإن هذا الماء ماء زمزم يختلط في يوم نصف شعبان بماء الكوثر في الجنة فيطفح البئر ويظفر الشاربون ليلتها بماء مصدره الجنة. كما أن قصصها تبحث النيل في مصر فهو ينبع من قبة على حدود الجنة.
وكأن إلمامها يتسع لكثير من شؤون الدنيا والدين. فكانت تقول إن النصارى يلبسون (البرانيط) لغرض خاص. فهم لا يريدون رؤية السماء حتى لا تلين قلوبهم للإسلام لهذا يسترون عيونهم عنها بحافة البرنيطة وتقول: إن المرأة المجوسية إذا اشتد الطلق في ولادتها وأرادت أن تهرع إلى الله جيء إليها بقربة ضيقة الفم وضعتها بين شفتيها وصاحت (يا الله)، ثم أطبقت على الفم وأبعدت عنها القربة حتى لا تدركها نفحة من لفظ الجلالة تهديها إلى الإسلام.
ومن أحاديثها -عفا الله عنها- قصة الثور الذي يحمل الأرض على قرنه، فإذا تعب أحد القرنين نقل حمله إلى القرن الثاني فتكون الاهتزازات والزلازل.
ومن معلوماتها حديث الجزر التي يسمونها واق الواق، وتقول: إن في أشجارها طلع يشبه رؤوس المخلوقات، لا ينفك ينادي (واق الواق.. سبحان الملك الخلاق)، وكانت تجوز عليّ مثل هذه الحكايات، ومن الغريب أنني وجدت فيما بعد أن بعض الكتب المؤلفة كانت تروي هذه الحكايات، وتصوغها في قوالب تغشاها مسحة الصدق، وتسندها بهتاناً إلى أجلة من علماء الرواية والحديث.
وكانت رحمها الله تنهى عن كنس البيت على أثر خروج المسافر منه لأن ذلك يمنع عودته، وتوصي بصب الماء خلفه في اللحظة التي يخرج فيها من الباب لأن الماء أمان!! وكانت تنهى عن غسل الثياب يوم الاثنين لأن صحابياً فقد ولديه على أثر الغسل يوم الاثنين كما تنهى عن خياطة الثوب فوق لابسه أو كنس البيت أثناء الليل أو شراء الفحم في شهر محرم لأن ذلك كله (بطّال).. (وبس بطال) فإذا قلت (يا ستي) لم هو (بطال) صاحت في وجهي: (قم يا ولد.. أنت متفلفس)!!
احنا ناس زي ما نسمع من الكبار!! نقول طيب.. وما علمت رحمها الله أن مأساة المسلمين في بعض كبارهم الذين ظلوا يسمعون منهم وهم يقولون طيب!! دون أن يناقشوا حقيقة هذا الطيب أو يبحثوا مصادره الصحيحة.
وكانت ستي تفرض على كل من يخلع سنه من أحفادها أن يرمي به إلى وجه الشمس وهو يهيب.. يا شمس يا شموسه خذي سني واعطني سن العروسة!!
وكانت رحمها الله تحفظ لكل مناسبة قصة.. تروي بعضها عن الأنبياء، وأخرى عن الأولياء، وغيرها عن غيرهم وكانت قصصها تمتاز بالمبالغات التي تشبه هوايتها المتطرفة في المغيبات وما وراء المحسوسات.. كانت تقص عن الخضر عليه السلام آلاف القصص التي يحفظها عجائز جيلها؛ وليس فيها ما يثبت في النقل أو يخضع للعقل، ولكنها مجذوبة ترضي وجدانها، وتنافق أعصابها كما يفعل المتفيقهون من أصحاب الأفهام المكدودة، والأذهان الضيقة.
وكانت تحدثني عن الملائكة والجن أحاديث لا أدري كيف توافرت لها مع أميَّتها. وإنه ليأخذني اليوم العجب من تلك الحافظة التي استطاعت أن تعي كل هذه المعلومات، وأجدف على الظروف التي لم تهيئ تعليمها على أسس صحيحة. وأسائل نفسي: ترى أي مدى كانت تبلغ من العرفان لو تهيأت لها دراسة مستقيمة؟؟
- أكبر ظني أنه سيستوي منها عالمة من أروع المتعلمات، وأن ربح أولادها وأحفادها من معارفها سوف لا يوازيه ربح في الحياة، ولكن سوء الحظ إلى جهل المسؤولين بها أبى إلا أن يترك ظروفها عاطلة من أسباب التعليم وأن يحيطها بالمنهل الوحيد الذي نهلت منه معلوماتها الخاطئة وخرافاتها الضالة، وتركها تهيئ أولادها لأسوأ ما يتهيأ له الناشئون.
وكانت ستي تعرف عن (الدجيرة) و (هول الليل) و (السبع الجنيات) ما لا يعرفه قصاص نابغة! فكنا نقضي حولها الليالي نستمع إلى حكاياتها، ونتعلم منها غوائل الليل وعجائبه في صور تركت في تربيتنا أسوأ الآثار، وملأت أعماقنا بالعقد التي عجزنا إلى اليوم عن حل أكبر طائفة منها.
وكنت أجد في استعدادها للتخريف أوسع فرصة ألفق فيها ما شاء إلي التلفيق، وأخترع لها ما يحلو لي من اختراع.
كانوا يكلفونني ببعض الخدمات في الليل خارج البيت، فكنت لا أعصي، ولكني لا أكاد أخرج إلى (طرف الزقاق) حتى أتصنع الذعر، وأعود إلى البيت لاهثاً؛ لأني (رأيت الدجيرة بعيني تناديني!.. تعال يا ولدي.. تعال يا حبيبي.. ورأيت إحدى رجليها تشبه رجل الحمار). أقول هذا على مسمع من (ستي) لأن ثقتي في أعصابها المتوترة لا تعادلها ثقة. فلا أكاد أنتهي مما ألفق حتى تأخذني في أحضانها ثم تهيب بهم (والله صحيح.. هادا الواد عينه كشافة!!.. هادى صحيح أوصاف الدجيرة!. لا ترسلوه مرة ثانية إذا أظلم الليل وخلونا مستورين!!) وهكذا أنجح فيما لفقت على حساب أعصاب ستي، وأنجو من الخروج إذا تكاسلت عن الخروج.
وعلى حساب أعصاب (ستي) انتفعت بالكثير، فقد كنت إذا أغضبني أحد في البيت تصنعت ما يشبه التشنج، وأتيت ما يشبه حركات المجانين حتى إذا هدأت أسررت إلى (ستي) أنني أرى شيئاً يتراقص بين عيني إذا غضبت. فلا تلبث أن تتأوه حزناً عليَّ وتقول لي: (هذا أخو رأسك لا يحب الزعل) وبذلك أشاعت ستي أن لرأسي أخاً لي لا يحب الزعل!! وراحت تمنع كل من في البيت من إزعاجي. فأصبحت سيداً في البيت عتياً.
ومرضت المسكينة مرة فكانت لا تطعم غير ماء زمزم، فكنت مكلفاً بحمل الدورق إلى المسجد لملئه بماء زمزم عدة مرات في اليوم فلما طال تكليفي، وأرهقت صورت لي (شقاوتي) أن أستفيد من أعصاب (ستي) فجئتها مرة وأنا ألهث من الفزع ولا أكاد أفصح الحروف من شدة ما نالني وقلت: (يا ستي. رأيت يداً تمتد من الجدار المحفور بجوار باب الدرج في المكان الذي نضع فيه المفتاح الكبير.. رأيتها بعيني تمسك الدورق الذي ملأته لك من زمزم وتقبض عليه فسحبته بقوة وجئت أجري!!).
فقالت -(يا ولدي: قلت لك أن عيونك كشافه، وصاحب اليد لا بد من الشياطين الذين لا يحبون ماء زمزم!!).
قلت: (ولكن اليد تشبه يد الشيخ (..) تمام الشبه!!.
وكان الشيخ (..) الذي أردت الإشارة إليه من أقرباء (ستي)، وكان قد حدث بينه وبينها بعض النفور رغم أنها تعتقد صلاحه.. فتنهدت ستي وقالت: (نعم يا ولدي.. هو زعلان مني، ولا بد، ما يبغاك تجيب لي زمزم.. على كيفه!.. والله أنا أحبه، ويشهد علي ربي أني سامحته.. وانت بلاش تجيب زمزم حتى أشوف خاطر الشيخ)..
وهكذا أبت (شقاوتي!) إلا أن أحرم (ستي) من شرب زمزم طعامها الوحيد يوماً كاملاً حتى تهيأ لها غيري واسترحت.
ولا تستطيع (ستي) أن تفرق بين منع ماء زمزم إذا أحضرته أنا، وأباحته إذا أحضره غيري! ولا تعرف هل زعل الشيخ كان لمنع ماء زمزم؛ أم لمنعي شخصياً من حملها!.. لا تستطيع المسكينة أن تميز هذا، لأنها تمضي فيما تعتقد بدافع من أعصابها الحادة. أما عقلها فليس له مجال في كل ما تعتقد شأن المجذوبين الذين ورثت أعصابهم ما اعتقدوه؛ فأغلقوا أفهامهم عن مجال العقل في ما ورثوا.
تلك هي مأساة المسلمين في كثير من عصور التاريخ، قبل أن تكون مأساة (ستي)!! حدثت ستي مرة فقالت: كنا مدعوين ليلة في الزاهر، فجاء ولدي بحمار لأركبه إلى الزاهر، وكان الوقت بعد العشاء الأخيرة، فلما ركبت الحمار ومضى ولدي يمسك بقياده مضينا حتى انتهينا إلى نهاية العمران من مكة؛ فشعرت بالخوف يراودني؛ لخلو الطريق من المارة، فأمرت ولدي أن يقف بي عند قبر الشيخ محمود بن الأدهم، ثم قرأت الفاتحة له، وقلت ما في قلبي!! ومضينا؛ فلم نبعد إلا قليلاً حتى راعني بدوي حاسر الرأس حافي القدمين، يواكب سيرنا كأنه مكلف بحراستنا فزاد رعبي لما رأيت، ولكني تجلدت وصار البدوي يلازمنا دون أن ينبس بحرف، حتى انتهينا إلى الزاهر فاختفى.
قلت يا ستي: وهل علمت أن ولدك كان يرى البدوي الذي كان يلازمكما؟ قالت: إني سألته فأكد أنه لم يره فكنت أعجب لمثل هذه الظاهرة. ولكني اليوم لا أرى مكاناً للعجب بعد أن ثبت لي أن أعصاب ستي لا تعجز عن تكوين المستحيلات.
واجتمعت مرة بستي مع بناتها وحفيداتها في بيت قريب لها فاقترحوا عليَّ عمل الفأل..
وكان لعمل الفأل عند ربات بيوتنا كتيب يسمونه (قرعة الأنبياء) يحتوي على تراجم في نبذ قصيرة.. لكل نبي نبذة خاصة يترجم حياته، وما لاقى بين قومه، وقد صدر الكتاب بفهرست يحوي أسماء الأنبياء، ورقم الصفحة التي تجد فيها ترجمة كل نبي.. وكان على طالب الفأل أن يقرأ الفاتحة ثم يغمض عينيه ويضع إصبعه على أول اسم يصادفه في صفحة الفهرست، ثم يبحث عن ذلك الاسم فيقرأ الترجمة ويأخذ فأله منها.
فلما جيء إليّ في تلك الليلة بذلك الكتيب بدأت أقرأ لكل سيدة منهن فألها على ضوء الاسم الذي تضع عليه أصبعها، وكان صاحب البيت يجلس في تلك الآونة على كثب منا، في نفس الغرفة التي نجلس فيها، منهمكاً في أعمال خاصة به فكنت أراه كلما التفت إلينا استهجن ما نعمل، وأزدرى قلة إتقاني القراءة فعنَّ لي أن أنتقم منه بطريقة صبيانية، فقدمت الكتاب إلى زوجه فلما وضعت أصبعها على الاسم الذي وضعت عليه كشفت الصفحة المختارة كما يكشف علماء الرمل، وشرعت أقرأ الصفحة. فلما لم أجد ما يسيئها، أو يسيء إلى زوجها الحاضر، بدأت ألفق نعوتاً لزوجها وأوصافاً لا وجود لها في الكتاب. فقلت: (إن لزوجها لحية مثل التيس، وقروناً مثل قرون البقر، وصوتاً مثل صوت الحمار) وأشياء كثيرة لا أدري كيف تلقفت لي.
وكان الشيخ يسمع كل هذا دون أن يعيرنا لفتة، ولكنه عندما رآني أتمادى دون حياء، ورأى النساء ينصتن إليّ، ولا يخالجهن ريب في صحة ما أقرأ أقبل عليّ في هدوء ووقف حيث تبدو الصفحة التي أقرأها أمامه، وقال: (أرني الكلام الذي تقرأه) فسقط الكتاب من يدي، وتولاني من الذعر والخوف ما ألجم لساني.
وعندئذ جاء دور ستي.. وبدأت أعصابها تسيطر على الموقف. قال لها (إن هذا الولد من فين جاب هذا الكلام اللي بيقوله؟.. خدي هذا الكتاب وقولي له يوريني كلمة واحدة من الكلام اللي بيقراه. هذا ولد قليل أدب وأنتم ناس زي الحمير ما تفهموا شي!. فين الكلام اللي بيقراه).
فصرخت ستي في وجهه -وكانت لها دلة على جميع أقربائها- صرخت في وجهه: (كل هذا صحيح، لكن، الكلام ما يقعد في الكتاب.. أصله كلام الفال يطير في الهواء ويجي غيره.. نعم هو فال والا.. شي تاني).
وهكذا كانت ستي مقتنعة، لأنها ورثت ما تعتقد بأعصابها، دون أن يكون لعقلها دخل فيما تناقش!!
وقد أفادتني أعصابها؛ لأن بناتها وحفيداتها بما فيهن زوج الشيخ لم تجرؤ واحدة منهن على معارضتها.
أما الشيخ فقد جر أقدامه إلى حيث كان يجلس.. ويبدو أنه رأى نفسه أكبر من أن يجادل حميراً آدميين، ويضيع وقته في ترهات صبيانيه.. لا تستحق الجدل.
عفا الله عنك يا ستي في دار الخلود؛ فقد كانت سذاجتك أسوأ معلم ربانا على التخريف، ودس في بواطن أعماقنا ما لا نزال إلى اليوم رهن أساره رغم ما نحاول من علاج.
عفا الله عنك فإن في ذكراك أبلغ مثل للتدليل على حاجتنا إلى تعليم نسائنا ما يفرضه الدين، وإعدادهن، إعداداً مستقيماً يساعدهن على تربية أولادهن، وإنشائهن إنشاء قديماً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :436  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 85 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.