شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ألم يأتك نبأ ما بنَينا للحضَارة؟
أكبر ظني أنك تتناسى.
وأحسب أن مثلك لا يجب أن يتناسى.
أتراك تتناسى وأنت خير مَن يعلم أن الحضارة بكل آفاقها ما كانت في أحد الأيام ملكاً لأمة بذاتها.
لا.. ولا كانت وقفاً على شعب يدعي أنها صناعة يده.
ثق أنك لا تغالطني بقدر ما تغالط نفسك.. وإن مأساتي فيك.. في هذا اللون من تناسيك.. في هذا الكون من مكابرتك لا تعادلها مأساتي في كل ما عرفت من أخلاقك.
أنا أعلم أنك مفتون بالغرب.. مفتون بحضارة الغرب، ولكن تُرى هل يطغى الافتتان على كل معلوماتك الواسعة؟ وأنت من أنت غزارة في الاطلاع؟؟
لا.. لا تقل إنك لم تقرأ عن البابليين ولم تدرس تاريخ الآشوريين والفينيقيين. ولم تدرس ما السبئيون ولا المصريون.
لا.. لا تقل هذا وأنا أعرف أنك قرأت وقرأت عن كل هذا وأنك درست عشرات الحضارات قبل هؤلاء ومثلهم بعدهم.
ترى هل تحاجني إذا قلت لك إن الحضارة ليست نتاج جيل وإنها ليست إلاّ وليدة الحياة من يوم أن عرفت الحياة. وأنها إلى هذا ربيبة الحاجة من أول يوم شعر فيه الإنسان بضرورة الحاجة.
أحسبك وبعض المفتونين بالجديد الجديد تنغضون إليّ رؤوسكم وفي أيديكم ما يشير إلى صفحة تبحث في شؤون الفضاء أو كراس يفصل قصة الهبوط على القمر.. وكأنكم بهذا تريدون أن تضعوا يدي على أبدع وأروع من كل ما كان.
سوف أسلم طواعية بكل هذا الذي تقولون، وسأمضي بمضيكم في كل ما ترون فأنا لا أعلم حضارة بلغت مثل هذا الشأو الذي أشهده اليوم ولكن..
ولكن إذا ادّعيت أن مئات الأمم مرت بتاريخ الأرض كانت تتوارث الحضارات أمة بعد أخرى لتنميها.. لتغذي روافدها.. لتسلمها إلى من يليها فيرعى نماءها وإن ظل على هذا حقبة بعد أخرى حتى انتهت مسيرتها إلى ما نشهد اليوم، وإنها ستنتهي بعد اليوم إلى أغرب ممّا نشهد مما لا يقره أخصب خيال على وجه الأرض.
إذا ادّعيت هذا فهل لكم أن تسلّموا بما أدّعي؟ وهل بينكم مَن يصافحني على كلمة سواء نتفق فيها على أن الحضارة ليست نتاج جيل واحد. وإنها عاشت حياتها وليدة الحياة من يوم أن عرفت الحياة، وإن مئات الأمم اشتركت في تغذيتها ونمائها حتى انتهت إلى هذا الإبداع الرائع، وإن ما نشهده غداً سيبدو أروع وأبدع ما دامت الليالي حبالى لا يعجزها أن تتمخض عن جديد من الأمم لا تعرف مكانهم من الغيب، وليس بوسعنا أن نقدر كفاءتهم في استغلال ما ورثوا ومدى قدرتهم على نمائه وإلى أي حد سيحققون من الأحلام.
ألكم بعد هذا ما تقولون؟
ما أحيلاكم وأنتم تتهامسون..
ففي هذا بعض الحق ليس لي أن أنكره.
لا أنكره وأنا أعرف أن الحضارة في مسيرتها الطويلة من تاريخ الأرض مرت بمئات من الأمم، أو مروا بها دون أن تصافحهم أو يصافحوها. دون أن تطبعهم أو يطبعوها، دون أن يستفيدوا من روافدها أو يتركوا أثرهم في جوانبها ولكنها أمم كانت في رأي التاريخ لا تزيد عن غثاء.
كانت أمماً يصح أن تقول عنها إنها لم تعش لأنها كانت لا تستحق أن تعيش. وما كان قرارها فوق الأرض قرار ميت عاش ينتظر الدفن.
لا يجب أن نلج في خلافنا ما دمت وإياكم لا نجهل أن الحضارة لا تصافح في التاريخ إلاّ مَن يستحق أن يعيش، وأنها لا تصافح إلاَّ أقواها لهم أهليتهم ولهم قابليتهم.. ولديهم من الاستعداد الحيوي ما يهيئهم لميراث الحضارة ويعدهم لتطويرها، وأن أمة اليوم وطأت فدافد في القمر ما لمستها قبلها قدم بشر لدليل على كفاءاتها وهي تنمي ما ورثت من حضارة الحياة.. دليل على استعدادها الحيوي لأكثر من هذا الإبداع.
أظنني بعد هذا استطعت وإياك أن نجتمع على رأي لنترك المعاني بعده تتداعى إلى جوهر البحث.. ولا عبرة بمن يقول إنك أمق وإنني أمق وأنه لا أمل في أن نتفق.
لقد كنت أسألك قبل اليوم عن دورنا كعرب في مسيرة هذه الحضارة التي نشهدها فكدت كمن يوارب ثاني عطفه.
تراك ما خطبك؟ وأنت خير من يعرف..
ألم يأتك نبؤنا يوم صافحنا الحضارة في حقبة طويلة من مسيرتها.. ألم يأتك أنها وجدت من علمائنا وفلاسفتنا ورجال الفكر فينا من القابلية ما هيأنا لميراثها وساعد على استغلال روافدها؟
ألم يأتك أننا كنا خير مَن جاهد في نمائها وتطورها.. وأننا أسلمناها عندما أسلمناها لورثتنا في موضع أفضل منها يوم ورثناها؟
أتراك ضل بك الهوى فنسيت؟
أم تراك أغوتك الفتنة التي أغوت آلاف المفتونين بزينة ما نشهد اليوم؟
أولئك أقوام لا تتسع آفاقهم لمثل هذه الأبعاد.. حسبهم من هذا النظر السطحي الذي لا يمتد إلى أكثر من أنوفهم سيقول البلهاء منهم أين كان هذا ومتى؟
قل: عودة إلى التاريخ إن كان لصدوركم ما يتسع لقراءة التاريخ.
عودة إلى التاريخ لتروا أن جميع هذه الأفانين التي تلمع اليوم في آفاقكم كانت مخدومة قبل أن يتفتق وعي صناعها في جيلكم.
عودة إلى التاريخ إذا كان يلذ لكم أن تعرفوا أن بين لابتي هذا المشرق عاشت في أحد الأيام أمة دوّت لصيتها آفاق الأرض، وعنت لسلطانها جبابرة الحياة.
عودة إلى التاريخ لتدركوا كيف استطاعت هذه الأمة في جيل من حياة الأرض أن تضع يدها على مقدرات الحضارة، وأن تبني لمجدها صرحاً قليل النظير. وأن تحتل بما بذل عباقرتها مركز الأستاذية. وإنها إلى هذا لم تبخل بعلومها وفنونها وسائر بحوثها على ورثتها من شعوب الغرب حتى هيأتهم للعمل الباهر الذي نشهده اليوم.
أسمعك تتهمني بالعظامية.. لا يا صاحبي.. حذارِ أن تأخذ بلحيتي أو برأسي..
فليس في الأمر إلاّ دروس علينا أن ننتزعها من الماضي، عسانا نثبت بها أن أمة كان لها في أحد الأيام مثل هذا السبق لا يجوز أن ننفي عنها قابليتها إذا كانت تؤكد عزمها على استئناف ما فات.
أفهمتني؟
لِمَ يكبر الأمر إذن في صدرك وأنا أذكّرك بما فعل أبوك لتغضب لكرامتك وتأبى على نفسك إلاّ أن تستأنف طريقك إلى ما كان؟
ثم أي غريب فيما حدث؟؟..
لئن زحف التلميذ اليوم إلى مكان الصدارة ليبزُّ أستاذه فتلك سنة الحياة من أول يوم خلقت فيه الحياة.
أنت تشهد دون شك (صناديق العيد) تدور بدورات محورها بين صاعد وهابط فدونك وما تستنتج.
دونك لترى أن الواطئ لا يلبث أن يأخذ دوره إلى السموق ليلحق العالي. وأن العالي لا ينشب أن ينحدر تحت تأثير الحركة التلقائية ليعطي مكانه للصاعد.
إنه دأب الأمم الحية في حدود الأرض فلا تأسف لمن يتباله ولا تأس على القوم الغافلين.
دعني أذكرهم فيك ببعض ما يحضرني وأنت من خير من تنفعهم الذكرى.
دعني أذكرك بأبي بكر الرازي وأنت به أعرف مني.
لا أحسبك تجهل أن أبا بكر الرازي كان مصدراً رئيساً للكيمياء، وأن بحوثه من هذا النوع كانت نواة لمئات البحوث التي جدت في عالمك اليوم. وأنه إلى هذا كان مفخرة من مفاخر الطب العربي استطاع بما يملك من مواهب فذة أن يعالج في فنه آفاقاً كان لها أثر فعّال في كثير من مكتشفات اليوم، وأن ابن النديم أحصى له في كتاب الفهرست مائة وثلاثة عشر مؤلفاً كان أكثرها يبحث في العلوم الطبيعية، كما أحصى له ثماني وعشرين رسالة في الكيمياء ذكر المطلعون عليها أنها كانت عميقة الأسرار، وأن أكثرها نقل إلى أكثر من لغة في أوروبا فكانت منبعاً ثراً لمقومات الفكر في أوروبا.
وأحسبك لا تجهل جابر بن حيان، فقد كان علماً من أعلام الصيدلة.
حسبك أنه كان أول مَن أسس لها مدرسة خاصة بها، وأنه كان أول من ألّف في علم الأدوية، وأنه أول مَن ابتكر إنشاء مخازن عامة للصيدلة، وأنه كان يفرض على الصيادلة أن يجتازوا امتحاناً خاصاً ليبيح لهم تعاطي بيع الأدوية. وأنه فرض مثل هذا على الأطباء، فكان لا يبيح التطبيب إلاّ لمن اجتاز بين يديه امتحاناً شاقاً، واستطاع أن يظفر بالشهادة مذيلة بتوقيع ابن حيان.
ويوحنا؟؟
أتراك لم تقرأ الكثير عما تناقل الثقات من أخبار يوحنا؟
أتراك لا تدري أنه كان أول مَن فكر في علم التشريح من أطباء الأرض.
وأنه أول مَن رأى أن يجري تجاربه على جثة قرد.
وأن تجاربه هذه انتهت إلى نظريات كان العلم لا يحلم بها.. وأنه بما فعل مهد الطريق لكل نطاس التشريح إلى يومنا هذا.
وأنه إلى هذا كان أول مَن عُني بعلاج أمراض العين، وألف في هذا أكثر من كتاب ضاع علينا أكثر ما فيها، واستطاعت خزائن الكتب في أوروبا أن تجمع من شتاتها جملة طيبة يعتد بها.
أتلومني بعد هذا؟
أتلحاني وتعذلني؟
أترى من السهل أن تصمني بالعظامية، أو تنظر إليّ نظرتك إلى من يتمرغ في تراب الأحداث؟
دعني أكبرك عن هذا فنحن نعايش ملابسات قمينة بأن تحيى فيها ذكريات تحيي آمالنا في صلاحيتنا للعمل المنتج، وتبعث الثقة العالية في نفوس شبابنا فلا يضلّلهم مضلّل يرى أن أهليتنا لا تحفز لمصافحة الحياة في أعلى مراتبها.
أراك وقد بدأت تستعجلني.
هوّن عليك فمدى النبوغ في عصر أمتنا الزاهر أوسع من أن تستقصيه بمثل هذه العجلة.
بودي أن أحدّثك عن ابن اسحق الكندي. ولكني أخشى أن تكون معارفك عن مثل هذا النابغة أوسع من معارفي.
دعني أتركك لما أعرف من مكرك لأبيح لنفسي أن تمضي في سياقها.
حسبي أن أذكرك بعلامة حبس نفسه على التوفيق بين نظريات أرسطو وأفلاطون، وأنه ما لبث أن خرج بنظريات لا تمت إلى المدرستين بصلة ذات بال، وأنه استطاع فيما بحث أن يشير إلى بعض أخطاء شابت بعض النظريات التي اعتقدتها الأجيال قبله اعتماداً على كفاءة القائلين بها. وأنه إلى جانب هذا عني بدراسة النجوم فكان أبرع من نظر في ذلك، ولا تزال بعض قواعده في علم النجوم حية إلى اليوم يأخذ بها كثير من المشتغلين في المراصد الفلكية كما عُني ببعض فروع الكيمياء حتى قيل إن مؤلفاته في الفلسفة والتنجيم والكيمياء بلغت نحو مئتين وأن بعضها مترجم إلى أكثر من لغة أوروبية، وأن بعض هذه المترجمات عاشت ردحاً طويلاً تدرس في أكبر جامعات أوروبا كما قيل إن جمعية في فرنسا كانت قبل قرنين تطلق على نفسها جمعية إخوان الكندي، وأن أعضاءها البارزين كانوا يكبون على دراسة ما عثروا من مخلفاته، وأن صندوق الجمعية كان ينفق من سعة في سبيل البحث عما فقد أو توزع بين أشهر المكتبات في الغرب أو الشرق.
والطريف في أمر هذا النابغة إذا كان يعجبك ما يطرف من أمره أن ذهنه المشغول بالكثير المعقد من النظريات العلمية لم يمنعه من النظر في الموسيقى، فقد توسع في تحليلها نظرياً وتطبيقياً.. حلل الغناء الموزون كما تقول ترجمته إلى أوليات كانت نواة بعده لدراسات واسعة في الأندلس، حيث انتقلت منها إلى فرنسا ثم إلى كثير من ممالك أوروبا..
ولبحوثه في الموسيقى أربع رسائل تركت له شهرة واسعة في فن الموسيقى كما تقول ترجمته.
ترى هل تبيح العصامية لنا إذا كنا عصاميين بحق أن ننسى فضل هؤلاء على نماء الحضارة وتغذيتها بالغزير النافع الذي مهّد لحضارة أوروبا سبيلها اليوم إلى التبريز؟
ثم ماذا عن الفارابي؟
هل لمثلك أن يتجاهل أنه كان أول مَن تناول بحوث النفس في فلسفته قبل أن تنفرد هذه البحوث بعلم خاص ليطلق الأوروبيون عليه علم النفس؟
إن أكاديميات أوروبا قبل نحو قرنين كانت تتخذ من دراساته النفسية نبراساً يستضيئون به في بحوثهم.
وهل لمثلك أن يتجاهل عنايته بالآراء الصوفية وأنت تعرف من أسماء مؤلفاته في هذا الصدد ما يدلل على مدى كفاءته وقدراته على التعمق وتحليل أصولها في بحوث ذاعت شهرتها؟
وهل لمثلك أن يتجاهل عنايته بدراسة الفرق بين كثير من الفرق الإسلامية؟
أحسبك ستعجب -وأي عجب- لرجل يترك مجال اختصاصه ليتفرغ لدراسة التشريع الإسلامي ويتعمق في بحث النظريات التي فرقت بين بعض الفرق الإسلامية ليعلل أسبابها، ويحقق ما بني عليها تحقيقاً منطقياً فكانت رسائله في هذا عمدة لكثير من روّاد البحث المستشرقين.
ولا أدري أي عجب يستغرقك وأنت تقرأ من ترجمة هذا الرجل أنه عُني بدراسة بعض الظواهر التي سمّاها ما وراء الطبيعة، وأنه تراءى له في أحد الأيام أن نظم الحياة السياسية حرية بأن يفلسفها على نحو خاص فألف رسالة مستفيضة عن ذلك، وساقه البحث إلى نظريات جديدة رآها صائبة في سياسة العالم، فكانت رسالته المشهورة التي أطلق عليها (المدينة الفاضلة).
يقول متتبعو آثاره في هذه الرسالة وفي غيرها عن السياسة المدنية إنه كان يقرر الأسس التي استوحاها من فلسفته مستقاة من آراء مَن سبقه من فلاسفة اليونان وهي أسس تفرض التعاون الطبقي بين أفراد الأمة الواحدة بصورة متتالية.
ويقولون: إن فلاسفة روسيا الشيوعية لو تهيأ لهم بحث نظرياته لأغناهم ذلك عن كثير من نظرياتهم الفوضوية التي فرضوها في صور مؤلمة.
أتسمعني؟
ويل لي منك يا رجل.. فقد أكثرت عليك في مجال لا أنكر أنه بعض معارفك فهل تسامحني؟
إن السماحة بعض مميزاتك فما عليك إذن إن أنت سامحتني؟
وصدقني إن من بعض مزاياك الفاضلة ما يغيظني.
وإلاّ فما معنى أن أسمعك تذكر أفذاذ رجال الفكر في بلد أجنبي لتثير الغيرة فيمن حضرك من الشباب رجاء أن يحذوا حذوهم، وفي استطاعتك وأنت مَن أعلم مدى حصافتك أن تثير نخوتهم بذكر الأفذاذ في تاريخهم ليستيقنوا أنهم أحفاد أمة كان لها شأنها، وأنهم يدرجون على أرض لا يصح أن يرتابوا في قابليتها لتربية الأساطين في كل فن.
إنها كلمة ما أنشأتها لأناقش بها عريفاً مثلك بقدر ما أنشأتها لأخاطب فيك بعض الغفل الذين لا يقرأون من تاريخهم ما يثير نخوتهم.
وعسى أن تكون لي إليهم عودة أطول.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :416  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 73 من 92
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج