شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عليوي القرشي: العابر في المنار (1) ..
بقلم: فاروق بنجر
التربية منار للسالكين في فصول الأوقات يرملون أو يركضون في الدروب الطويلة المتلامحة في فضاءات الضوء. وأهل التربية هم سادة الحياة المسكونون بصوت المعرفة السرمدية التي تتمايز بها الأشياء والأفكار ولهاث بوادر الوعي المستبصر في أهلة المواقيت المستشرفة.
وبين الفينة والفينة تتناثر ورقة من دوحة هؤلاء السادة المشرقين، وربما سقطت ورقة قبل أوان الذبول، وصوَّحت وتقصفت أوراق في ريح الأيام. وما فتئت الأوقات المباغتة تفجؤنا برحيل تربوي جليل تذوب حبات القلوب أسفاً عليه، وتهمي مدامع المواجد إشفاقاً على انقطاع خيط شده إلى المنار في قطار مسيرته المتوالية عل الدروب.
وعليوي بن خضر القرشي (1368 ـ الثلاثاء 3/5/1427هـ) ـ مدير عام التربية والتعليم في مكة المكرمة ـ وجه تربوي أصيل رحل قبل أوان الأيام المحسوبة بمقاييس الدنيا، وعنفوان العمر، وصحة البدن، والركض في مضمار المسيرة، ومجاذبة الأوقات الدائبة في شمس الحياة وبريق آفاقها.
كان ذلك في ظهيرة يوم عملي دائب، وكان ـ كعهدنا به ـ يؤدي صلاة الظهر في مسجد الإدارة، إلا في ذلك اليوم الذي الجأه إلى بيته متعب القلب، يضع يديه عليه، حتى سكت الفؤاد الطيب في استشراف المفروضة في وقتها وهو بين بارئه الكريم استدناه إلى جوار عفوه ورحمته.
كان أخونا وزميلنا ينتظر السنة التالية موعداً لاختتام فصول الخدمة الوظيفية، وكان من ذوي التفاؤل والأناة والاستشراف المتئد الذي يحمل صاحبه على التريث في اتخاذ القرار، والنزوع إلى التفكير والاستشارة والاستئناس بالرأي، حتى في بوادر ما يقتضي البتَّ بالرأي والقرار مما يجدر برجل القيادة والإدارة. ويبدو أن طبيعة الأستاذ الهادئة السمحة المتوازنة الميالة إلى توخي أدنى السبل نحو الاستجابة لنزعة الاقتناع والتماس صحة الرأي وسلامة القصد كانت تشده إلى التأني ومجافاة الانصياع للانفعال والمسارعة في التأتي للأشياء.
على أنه كان يتألف القيادات الملتفة به، ويتكئ على سندها، ويوالي استطلاع الآراء، وتوزيع الأدوار والاختصاصات، وتوثيق روابط المشاركة القيادية في المشروعات المتوالية والمستجدة للمنجز التربوي والتعليمي، وهو يشيح عن نفرة الإيقاع المتوتر في أصوات الغيرة بين المتنافسين من منسوبيه، ويصرف همه إلى بناء لغة التآلف العملي المشترك.
كان قريب المأخذ، سهل القياد، حسن النية، حتى استدناه الطامح والطامع والساعي إلى نوال الأمل والقصد والمرمى. ولكنه كان يستوحي صدقه، ويستهدي بحسن ظنه، وطيبة قلبه، وتلمسه النفع، حتى لقد توسل بشعار (خير الناس أنفعهم للناس) وأقامه في لوحة على هامة مكتبه يتملاه ويستوحيه ويتلمسه وقت مقاربة توقيعه واستجابته لمطالب مراجعيه من شرائح الطلاب والآباء والعاملين والمعلمين وأطياف التربويين في عناقيد إدارته الضاربة في الأبعاد والألوان والدماء والمعادن والشخوص. ولعلّ في هذا الكثير مما أكسبه مهادنة الناس وتوددهم وانحيازهم للاقتراب من تألفه والرضا عنه في أكثر الأحوال، ورضا الناس غاية لا تدرك.
ولقد لمحناه ـ لماماً ـ يؤثر الموادعة؛ فما كان يضيق بتردد ذوي التقرب والتزلف، ومن لا يخجل أن يتدانى إليه للالتفات إلى شخصه ملوِّحاً بذاته المترائية، راسماً لمركز يظفر بكرسيه الدوّار.
ولصاحبنا وزميلنا بوادر استجابات مؤالفة في المواجيب والمناسبات والاحتفاليات ودعوات الأفراد والجماعات والمنتديات والندوات والمؤتمرات.. وسواها.
وللتربية والثقافة والأدب مكان في دائرة تجاوبه مع الحراك الثقافي والنشاط الأدبي في المدارس والمنتديات والمناسبات التعليمية والوطنية؛ فتأخذه البادرة ما يتأخر من مُباهَجتها، ويتوهج احتفاؤه في إضمامات الطفولة والأطفال والفتيان والشبيبة المدرسية، ومشروعات ومنجزات الحركة التعليمية.
لقد عهدناه لا ينحاز عن طبيعة تواضعه وإيلافه الزملاء والأصدقاء والبسطاء في المواقع والأوقات، ويتجاوب مع دعوات واقتراحات الموافاة وجبر الخواطر، والمشاركة في تقدير وتكريم الفضلاء والأعلام الذين زهدوا في البريق أو طواهم النسيان وتجاوزتهم أضواء المناصب البعيدة وارتهنوا إلى خريف الشيخوخة والانزواء في أقاصي الأبعاد.
جئته ـ مرة ـ أدعوه إلى المشاركة بحضور تكريم علم تربوي كبير من أساتذة الأجيال. قلت: ((إن اثنينية الشيخ عبد المقصود خوجه القادمة ستحتضن تكريم أستاذنا الأديب والمربي الشيخ عبد الله بن عبد المجيد بغدادي (رحمه الله)، وهو أول مدير لإدارة التعليم في أم القرى، بعد المشرف الأول عليها المربي والإمام الشيخ عبد الله بن عبد الغني خياط (رحمه الله)، وأنت ـ الآن ـ مدير منطقتنا التعليمية الحقيق بالمشاركة وحضور التكريم))؛ فتلامحت بشاشة أسارير أريحيته مستصوباً ومستحسناً، وكان الترتيب على أهبة الحفاوة.
وعند بوابة قصر الاثنينية الحفي استقبلنا زميلنا وصديقنا التربوي والأديب الأستاذ حسين بن عاتق الغريبي، فبادرت الأستاذ بقولي مداعباً: ((أعرفك بالأستاذ حسين الجداوي.. فسارع بالقول: حلو.. متى صار الأستاذ حسين جداوياً؟.. وهل تعرفني على زميلي ومربيَّ ومدير ابني سابقاً؟..))، وضحكنا.. ودلفنا إلى بهو ترحيب شيخ الاثنينية الذي كان حفيًّا بالأستاذ ووفدنا وإضمامة الأفراد المشاركين من زملائنا في مكة وجدة.
وألقى الأستاذ المدير كلمة رهيفة الصوت والصدى، ومن خطابه: ((.. وإنني لا أخالني أجافي الحقيقة إن قلت: إننا ـ جميعاً ـ نعتز بشخصية وريادة هذا المربي الفاضل، سواء في مكة المكرمة أو على مستوى وزارة التربية والتعليم؛ فهو مفكر تربوي وباحث أودع فكره التربوي وتجربته وخبرته في كتابه الموسوعي المكوّن من ثلاثة أجزاء، ويعد مرجعاً مهماً في التربية والتعليم والحركة التعليمية وأعلام روّادها في بلادنا الغالية. وإن الإدارة العامة للتربية والتعليم بمكة المكرمة تتشرف بتكريم الروّاد في كل عام.. وقد شرفت بتكريم هذا العلم البارز المتألق في سماء التربية والتعليم، اعترافاً بما قدمه لهذا الجيل..)) (الاثنينية: 21/271).
وقد سعد بالبادرة الشيخ المحتفى به، وأفصح عن عبير سروره وامتنانه في فاتحة كلمته فقال: ((الحقيقة إني أشكر سعادة مدير التعليم الحالي الأستاذ القرشي الذي حضر من مكة ومعه خمسون شخصاً من أكابر رجال التعليم في مكة، ومعهم الشاعر الموهوب فاروق بنجر..)) (الاثنينية: 21/288).
وجئته ـ مرة أخرى ـ أدعوه إلى المشاركة في الاحتفاء بشيخنا المربي والمفكر والأديب الناقد الرائد الأستاذ عبد الله عبد الجبار، في نادي مكة الثقافي الأدبي، في أعقاب تكريمه الريادي في (الجنادرية) على شرف حضور خادم الحرمين الشريفين مليك البلاد عبد الله بن عبد العزيز؛ فلبى الدعوة مرحباً وفيًّا لأساتذته وأسلافه.
ووافيته ـ يوماً ـ أقول له: ((إن طابعك خادعنا في تاريخ ميلادك الذي صحفه بعام (1376هـ): فجاءت الطبعة الثانية من (موسوعة تاريخ التعليم في المملكة في مائة عام) وفيها ترجمتك مؤرخة الميلاد بذلك العام؛ فقال: جزاه الله خيراً، فقد مد عمر الوظيفة ثماني سنوات!))، ولم يمهله القدر المواتي فيمتد به العمر سنة واحدة لميقات تقاعده النظامي. وكنا على موعد للتقاعد معاً، وكان يجهر بالقول:
(إننا أصحاب رسالة؛ فلماذا نمنُّ على التربية والتعليم بتبجح وصلف من يقول: روح ارم أوراق التقاعد، واخرج منها!.. ما رأيك؟ قلت: كأن هذا المتبجح يتصور أن يخرج من مزبلة، ونسي أنه خرج من بستان أبرزه مؤرجاً بالعبير، وصنع منه مربياً يشحذ العقول ويهذب الوجدان! قال: صدقت! قلت: بل صدقت بلاغة التربية في سمو صوتها الجهير).
وفقيدنا كان يحترم (العربية) ويجل صوتها، ويستطيب لغة الشعر، ويسمعه ويتذوقه بطبعه وفطرته القرشية، لا بتخصصه وثقافته. وهو يرحب بالشاعر في تقدير لمبدعي الكلمة وصناع نسيج اللغة البازغة المترنمة.. أسفي عليه وأنا أهدي هذه الترنيمة اللاهفة إلى ذكراه، أسبغ الله عليه أنوار الرحمة في فردوس مأواه!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :573  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 197 من 204
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.