شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وداعاً أيها المربي القدير (1)
بقلم: محمد أحمد العربي
سبحان من له الدوام! في فترات زمنية متناهية القصر، تتهاوى وتذوي أغصان في دوحة العلم والمعرفة مورقة مثمرة، فبالأمس القريب فقدنا المربي القدوة الصالح الأستاذ الشيخ عثمان بن ناصر الصالح ولم نفق من اللوعة والشجن عليه، حتى رزئنا بفقد المربي الجليل أستاذ الأجيال الأستاذ عبد الله عبد المجيد بغدادي، رحمه الله وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ما أعجب هذه الحياة، وما فيها من غرائب؟! أفراح تتلوها أتراح، وفي خضم الأسى تنثال الذكريات، مبهجها، وأليمها، في صراع نفسي رهيب، يكر فيه شريط الذكريات بسرعة هائلة ونكاد لا نلتقط أنفاسنا ونحن نتابع تلكم الأحداث والذكريات، حلوها ومرها، بحيرة وانبهار معاً. فمنذ فترة وجيزة في عمر الزمان هي عامان ونيف، وبالتحديد في 18 ذو القعدة 1424هـ تم تكريم أستاذنا الكبير الأستاذ عبد الله بغدادي، في (الاثنينية) العتيدة، ذلك المنتدى الأدبي الثقافي الرائع، والذي يقوم ربانه القدير الأستاذ الخوجه بتكريم روّاد الوطن بكل الوفاء والسخاء، كانت لنا أمسية من أمسيات البهجة والحبور إذ كان فارسها هو العلم الشامخ، والرائد الفذ البغدادي، وكيف لا نبهج بتكريمه؟ وتسابق أبناؤه ومحبوه ومريدوه في المساهمة في هذا المهرجان الرائع مستعرضين بكل الفخر والتقدير ما بذله لأجلهم من جهد كريم، ممهداً لهم سبل الرفعة والتقدم، وقد اكتفى بذكر اسمين منهم هما معالي الدكتور محمد عبده يماني ومعالي الدكتور رضا عبيد وأسهمت كوكبة أخرى في التكريم ضم أسماؤهم سجل (الاثنينية) في عدده الواحد والعشرين ص 249 وما بعدها لمن يشاء الرجوع للتفاصيل، تجنباً للإطالة، وقد كانت لي مشاركة متواضعة عبارة عن أبيات في تحية الرائد الكبير وكلي غبطة وسرور بهذه المناسبة قلت فيها:
اصدح بصوت وفاء أيها الشادي
وانثر بمسمعنا أصداء أمجاد
في ليلة من حفاوات معطرة
برائد شع من نبراس روّاد
يا أيها العلم السامي بهامته
مهدت للنشء درب الطامح الغادي
تزجي لك الحب أجيال مقدرة
أستاذها الفذ عبد الله بغدادي
هذي مشاعرها بالحب تنثرها
في راحتيك بترنيم وإنشاد
سبحان الله من هذا الجو المفعم بالبهجة والحبور منذ عامين مضيا، إلى حالة من الحزن والأسى للفقد والفراق! ألا ما أمضَّ غياب الأعزاء وفراقهم، وهل للإحساس أن يتبلد في حالة كهذه؟!!
يا لدنيانا! كم فيها من مضحكات مبكيات، هكذا ما بين عشية وضحاها تنقلب الأفراح أتراحاً؟ سبحان من له الدوام، ويسرع شريط الذكريات في الكر مستدعياً القصة كاملة ويكاد يشمل كافة التفاصيل:
منذ ثمان وخمسين عاماً وبالتحديد عام 1369هـ نقلت (مدرسة تحضير البعثات) من مقرها في قلعة (جبل هندي) لمقر آخر في عمائر الأشراف بالقشاشية، والذي كانت فيه قبلها (مدرسة الفلاح) بمكة المكرمة، ويبدأ العمل فيها شاب مربوع القامة بهي الطلعة، بالغ الأناقة والتهذيب، مشرق الوجه باسماً حلو المحيا، رصين العبارة، ممتلئ حماسة وتدفقاً ونشاطاً، وقد كان حضوره هذا ملفتاً، وقد كان حديث التخرج ضمن باقة من الجامعيين العائدين للإسهام في خدمة الوطن. كان ذلكم هو (الدرعمي) المتألق الأستاذ عبد الله بغدادي، الذي عيّن مساعداً لمدير المدرسة سيدي الوالد السيد أحمد العربي ثم خلفه في إدارة المدرسة العتيدة (رحمها الله) وقد عاد بعد تخرجه للوطن مع باقة من الجامعيين أذكر منهم مع حفظ الألقاب (محمد فدا، د. حسن نصيف، إبراهيم العنقري، عبد الوهاب عبد الواسع، السيد محسن باروم، علي غسال، عبد الله منيعي، عبد أبو العينين، أمين جاوة، علي زين العابدين، عبد الرحمن أبو السمح، وآخرون لا تحضرني الآن أسماؤهم) ومضى الفارس على خطى الروّاد يبذر الغراس في رياض التربية، فتؤتي أكلها جنية بإذن ربها، وتنمو وتثمر في شتى مضامير الحياة، علماء وقادة، تسنموا عاليات الذرى في مناصب الدولة المختلفة، وهو يتابع خطاهم ويرمقهم بمحبة الأب الحاني، وهو يبذل كل ذلك في صمت وقور وسخاء كريم، يسعده ما يراه من جني غرسه ويباركه، وكان معه نخبة ممتازة من أساتيذ أفذاذ أذكر منهم ـ مع حفظ الألقاب ـ: محمود قاري، محمد نور الجماوي، عبد الله الخليفي، السيد أمين كتبي، السيد سعيد الدباغ، طلحة شيبي، جميل شقدار، خليل طيبة، سراج خرازن وغيرهم من خيرة الروّاد ومجموعة منتقاة من مفتشي ومدرسي مصر الشقيقة الأوائل.
ثم انتقل لذكر أسماء بعض تلامذته: د. محمد عبده يماني، د. رضا عبيد، د. طالب عبيد، د. جمال فطاني، د. عزت خطاب، د. أمين سراج، د. عبد الرحمن بخش، د. عبد الله باسلامة، د. سعيد فارسي، د. منصور فارسي، د. حسن كامل، د. حسين خوجه، والأستاذ عابد خزندار، عبد الرحمن منصوري، عباس غزاوي، جميل ششة، سعيد خوجه، رضا أبار، راشد المبارك، الشريف حسين أبو نمي، السيد عبد الله شطا، السيد عبد الله نوري، إبراهيم قاري، جميل عبد الرزاق، السيد حسن جفري، عبد الله أبو السمح، عمر سجيني، سعيد عقيل، فهد النصار، منصور الخريجي، سعيد أبو السعود، أجواد الفاسي، محمد علي عرداتي، محمد علي أمان، محمد عمر عامودي، وأخيه أحمد عامودي، الألوية: عبد الغني جاوة، السيد سالم البار، عبد الله مؤمنة، عبد القادر كمال، يوسف فاضل، فريد وفاء، ومن نسور الجو الطيارين، لواء د. صادق جواهرجي، لواء رشاد ششة، عقيد عبد الواحد البكري، كل هؤلاء الزملاء وغيرهم كثر يضيق النطاق عن حصرهم، وذلك غيض من فيض، من تلامذته، نماذج بفضل الله مشرقة رعتها يده الكريمة، ويذكرون له بكل العرفان تلك الرعاية الأبوية الصادقة.
رحمك الله (أبا محمد) جزاك أفضل ما يجزي به المحسنين، وأسكنك فسيح جناته، تعازينا القلبية الخالصة لأبنائك وأخوتك وآلك، ألهمهم الله الصبر والسلوان لفقدك، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أما قبل: فيعز عليَّ إنهاء حديثي عن الفقيد، قبل استعراض نبذة ولو يسيرة عن مشواره المضيء الطويل، في حقل التربية والتعليم، فقد بدأ عقب تخرجه في كلية دار العلوم بالقاهرة عام 1367هـ وعيّن معتمداً للمعارف بالطائف (وهو ما يعادل اليوم مدير التعليم بمنطقة الطائف) وفي الوقت نفسه عين مديراً للمدرسة الفيصلية الثانوية بالطائف، وفي مطلع عام 1369هـ نقل إلى مكة المكرمة، وعيّن مساعداً لمدير مدرسة تحضير البعثات، آنذاك فضيلة المربي الكبير السيد أحمد العربي وما لبث أن خلفه ـ بعد نقله إلى مديرية التعليم الابتدائي والثانوي ـ فعيّن مديراً لمدرسة تحضير البعثات، وظل بها حتى أنشئت وزارة المعارف، فعيّن مديراً عاماً للتعليم الابتدائي والثانوي والثقافة الشعبية بالوزارة اعتباراً من أول عام 1374هـ حتى عام 1377هـ حيث نقل إلى مكة المكرمة مساعداً للمشرف على التعليم بها فضيلة الشيخ عبد الله عبد الغني خياط، وحتى عام 1379هـ حيث تأسست مديرية للتعليم بمنطقة مكة المكرمة، فأسندت إليه إدارتها ليكون بذلك أول مدير للتعليم بمنطقة مكة المكرمة، وشغل هذا المنصب حتى عام 1385هـ حيث نقل عميداً لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة حتى عام 1391هـ حيث ضمت الكلية إلى جامعة الملك عبد العزيز فتم تعيينه مستشاراً للجامعة حتى تاريخ 19/11/1401هـ حيث تمت إحالته إلى التقاعد بناء على طلبه بعد خدمة هذه المهنة السامية لمدة خمسة وثلاثين عاماً متصلة في شتى حقول التربية والتعليم، مسهماً خلالها بتمثيل المملكة في عدة مؤتمرات تعليمية عربية وعالمية، كما قام بإسهامات مباشرة في النشاط الاجتماعي والثقافي والأدبي، فهو عضو في مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، وأحد مؤسسي وفرسان ندوة المسامرات الأدبية ـ بمدرسة تحضير البعثات ـ بعد أن كان قد توقف نشاطها بعد سفر رائدها الأول الأستاذ عبد الله عبد الجبار لمصر، فضخ فيها دماً شاباً جديداً أعاد لها بهاءها ورونقها (وكانت هذه أول ندوة تقام في المملكة ـ قبل أكثر من نصف قرن ـ للنشاط الأدبي والثقافي ـ بل وحتى (المسرحي) وكان من روّاده (عباس غزاوي، رفعت دشيشة، أمين عبد المجيد، وغيرهم) وقد سجل ببراعة جانباً من نشاطها في كتابه (ندوة المسامرات الأدبية) وإن كان هذا الكتاب هو باكورة إنتاج الأستاذ البغدادي فيما أظن، فإن ما بين أيدينا من إنتاجه: ذلك السفر التربوي القيم الضخم الصادر في ثلاث مجلدات وكان كتاباً تربوياً فريداً في مادته ومحتواه ومرجعاً لكل المختصين بالعملية التعليمية والتربوية ذلكم هو كتاب (الانطلاقة التعليمية في المملكة العربية السعودية) ولا يستبعد أن يكون له إنتاج آخر ـ لم يشهد النور ـ كدراسات وتجارب في التربية والتعليم بحكم خبرته الطويلة في هذا المضمار، وإلا فأين ما قدمه من أوراق عمل في المؤتمرات التي مثل فيها المملكة عربياً ودولياً؟ ليت أن نجله (محمد) يسعى إلى جمع إنتاجه تمهيداً لنشره، فهو بكل تأكيد يستحق الجمع والنشر، بل إن المشاركة في ذلك واجبة أيضاً على تلاميذه، وعارفي فضله، وفاء لذكراه، وتكفيراً عما لقيه من جحود ونكران في مجتمعنا الدفان كما قال أستاذنا الزيدان، رحمه الله وذلك أقل ما يجب نحوه.
وبعد هذه المداخلة المسهبة أعود لإكمال سيرته الذاتية ـ فأذكر ـ بأنه كلف أيضاً من قبل وزير الداخلية ليكون رئيساً للمجلس التأديبي بالمنطقة الغربية. انتهى.
هذه السيرة الذاتية بقلمه نقلت بتصرف عن كتابه (الانطلاقة التعليمية في المملكة العربية السعودية).
سجل حافل وتاريخ مشرق مسطر بأحرف من نور، نسأل المولى أن يجعله في ميزان حسناته، رحمه الله رحمة الأبرار، وجمعنا به في مستقر رحمته مع صحبه الأطهار.
وكما كانت البداية هنا بأبيات قيلت في تكريم الفقيد الغالي، فإنني أختتمها بأبيات الرثاء التالية:
ذوي الضياء، وأطفئ المصباح
ومضى الحبور وغابت الأفراح
والدوح أضحى ناكساً أفنانه
وغاب عنه البلبل الصداح
يا من رحلت وفي النفوس مرارة
قد أثخنتها حسرة وجراح
قد كنت فينا مرشداً ومعلماً
ومضيت حيث تخلد الأرواح
فعساك في الفردوس تحيا ناعماً
تحبوك حور في الجنان ملاح
نعم أستاذي الكريم، عساك تحيا ناعماً هناك! (فاللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فقد عانيت في مرضك العضال، ومن جحود أبناء نذرت لهم حياتك، وبذلت صحتك وكان الجزاء هو العقوق والنسيان، وهذه السَنْة السيئة غدت عادة من عادات هذا الزمان الرديء الذي نعيبه، والعيب فينا ولا قوة إلا بالله، وإلا فأين هذا الطابور الطويل من هؤلاء الأبناء يوم رحيلك؟ وأين هم اليوم من تخليد ذكراك؟ في تسمية قاعة من قاعات جامعاتنا باسمك؟ وشارع من شوارع مكة المكرمة ـ التي أحببتها وخدمت العلم وطلابه فيها أعواماً عديدة ـ باسمك؟
حقاً أن الأمم الحية المتحضرة تعرف الفضل لأهل الفضل وتذكره وتحفظه، فهل نحن كذلك؟
وداعاً أيها الفارس النبيل، فقد بكتك القلوب قبل أن تبكيك العيون، وعزاؤنا فيك أنك اليوم عند مليك مقتدر، لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :827  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 195 من 204
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.