أَلْقَيْتُ بين أَحِبَّتي مرساتي |
فالآنَ تَبْدَأُ ـ يا حياةُ ـ حَياتي |
الآن أَبْتدِئُ الصِّبا ولو أنني |
جاوَزْتُ ((خمسيناً)) من السَنَواتِ |
الآن أَخْتَتِمُ البكاءَ بضحكةٍ |
تمتدُّ من قلبي إلى حَدَقاتي |
الآن يَنْتَقِمُ الحبورُ من الأَسى |
ومن اصْطِباري ظامئِاً كاساتي |
أنا في ((السَماوة)) .. لنْ أُكَذِّبَ مُقلتي |
فالنهرُ و ((الجسرُ الحديدُ)) هُداتي
(1)
|
وهنا ـ جِوارَ الجسرِ ـ كانت قَلْعَةٌ |
حَجَريَّةٌ مكشوفةُ الحُجُراتِ |
هذا هو ((السجنُ القديمُ)) .. وَخَلْفَهُ |
جِهَةَ ((الرُمَيْثَةِ)) ساحُ إعْداماتِ |
وهناكَ بيتُ أبي .. ولكن لم يَعُدْ |
لأبي به ظِلٌّ على الشُرُفاتِ |
لا يُخْطِئُ القلبُ الترابَ .. شَمَمْتُهُ |
فَتَعَطَّرتْ بطيوبِهِ نَبَضاتي |
وهناكَ بُستانُ ((الإِمامي)) والذي |
عَشِقَتْ نعومةَ طينِهِ خَطَواتي |
النخلُ نفسُ النخلِ .. إلاّ أنه |
مُسْتَوْحَشُ الأَعْذاقِ والسَعْفاتِ |
لكأنَّ سَعْفَ النخلِ حَبْلُ مشيمةٍ |
شُدَّتْ به روحي لطينِ فراتِ |
* * * |
أنا في ((السماوةِ)) .. لا أشكُّ بما أرى |
فَلَقَدْ رأيتُ بأَهلها قَسَماتي |
سأصيحُ بالقلبِ الذليلِ: كفى الضنى |
فاغلقْ كتابَ الحزنِ والنَكَباتِ |
وأنامُ مقروراً يُوَسِّدني الهوى |
ريشَ الأماني بعد طولِ أناةِ |
مَرَّتْ عليَّ من السنينَ عِجافُها |
ومن الرياحِ الغاضباتِ عَواني |
أَلْقَتْ بأَشْرِعتي إلى حيثُ الندى |
جمرُ يُمَرِّغُ باللظى زهراتي |
يشكو لساني من جَفافِ بَيانِهِ |
في الغُرْبَتَينِ فأَصْحَرَتْ غاباتي |
وَحْشِيَّةٌ تلك الهمومُ .. وديعُها |
أقسى على قلبي من الطَعَناتِ |
أنا يا عراقُ حكايةٌ شرقيَّةٌ |
خُطَّتْ على رَمْلٍ بِسَنِّ حَصاةِ |
غَرَّبْتُ في أَقْصى الديارِ فَشَرَّقَتْ |
روحي .. وَحَسْبُك مُنْتهى غاياتي |
مولايَ! كم عصف الزمانُ بِمَرْكبي |
فَأَغَظْتُ مُزْبِدَ موجِهِ بِثَباتي |
ناطَحْتُهُ ـ وأنا الكسيحُ ـ فلم يَنَلْ |
من حَزْمِ إيماني وَعَزْمِ قَناتي |
وأسَيْتُ حرماني بكوني حَبَّةً |
عربيةً من بَيْدَرِ المأساةِ |
واللَّهِ ما خِلْتُ الحياةَ جَديرةً |
بالعيشِ إلاّ هذه اللحظاتِ |
واسْتَيْقَظَ الزمن الجميل بمقلتي |
من بعدِ أجيالٍ بِكَهْفِ سُباتِ |
اللَّه! ما أحلى العراقَ وإنْ بَدا |
مُتَقَرِّحَ الأنهارِ والواحاتِ |
سامَحْتُ جلاّدي وكنتُ ظَنَنْتُني |
سأنالُ منه بألفِ ألفِ أداةِ |
وَطَرَدْتُ من قلبي الضَغينَةَ مثلما |
طَرَدَ الضياءُ جَحافلَ الظُلُماتِ |
فَوَدَدْتُ لو أني غَرَسْتُ أضالعي |
شَجَراً أُفيءُ بهِ دروبَ حُفاةِ |
جَهِّزْ ليومي في رحابِكَ فُسْحَةً |
وَحُفَيْرَةً لِغدي تَضمُّ رُفاتي |
((أُفيَّشْ يا ريحَةْ هليْ وطيبَةْ هليْ |
وكهوةْ هلي وشوفَةْ هلي لعلاتي))
(2)
|
* * * |
عاتَبْتُهُ ـ أعني الفؤادَ ـ فَضَحْتَني |
فاهْدَأْ .. أخافُ عليكَ من زَفَراتي |
هَوِّنْ عليكَ .. فَقَدْ تُعابُ كهولةُ |
تَرْفو ثيابَ الصَّبْرِ بالعَبَراتِ |
أمْ أنتَ أَهْرَقْتَ الوقارَ جميعَهُ |
فَعَدَوْتَ عَدْوَ طريدةٍ بِفَلاةِ؟ |
هَوِّنْ عليكَ فإنَّ حَظَّكَ في الهوى |
حَظُّ ((ابنِ عَذْرَةَ)) في هُيامِ ((مَهاةِ))
|
يا صابراً عِقْدَينِ إِلاّ بضعةً |
عن خبزِ تنّورٍ وكأسِ فُراتِ |
ليلاكَ في حُضْنِ الغريبِ يَشِدُّها |
لسريره حَبْلٌ من ((السُرُفاتِ))
(3)
|
تبكي وَتَسْتَبكي ولكن لا فَتىً |
فَيَفكَّ أَسْرَ سبيئةٍ مُدْماةِ |
يا صابراً عِقْدَينِ إلاّ بضعةً |
((ليلى)) مُكَبَّلَةٌ بِقَيْدِ ((غُزاةِ))
|
ليلاك ما خانَتْ هواكَ وإنما |
((هُبَلُ الجديدُ)) بِزيِّ ((دولاراتِ))
|
إنَّ ((المريضةَ)) في العراقِ عراقَةٌ |
أمّا الطبيبُ فَمِبْضَعُ الشَهَواتِ |
* * * |
وَطَرَقْتُ باباً لم تُغادِرْ خاطري |
فكأنَّها نُقِشَتْ على حَدَقاتي |
مَنْ؟ فارْتَبكْتُ .. فقلتُ: حَيٌّ مَيِّتٌ |
عاشَ الجحيمَ فتاقَ للجناتِ |
وَصَرَخْتُ كالملدوغِ أَدْرَكَهُ الرَّدى |
متوسِّلاً من بلسمٍ رِضَفاتِ |
أينَ العجوزُ؟ فما انْتَبَهْتُ إلى أخي |
يبكي .. ولا الشَهقاتِ من أخواتي |
عانَقْتُها .. وَغَسَلْتُ باطنّ كفِّها |
وجبينَها بالدمعِ والقُبُلاتِ |
وَحَضَنْتُها حَضْنَ الغريقِ يَشدُّهُ |
رَمَقٌ من الدنيا لطوقِ نجاةِ |
قَبَّلْتُ حتى نَعْلَها .. وكأنني |
قَبَّلْتُ من وردِ المنى باقاتِ |
وَمَسَحْتُ بالأجفانِ منها أَدْمعاً |
وأنَابَتِ الآهاتُ عن كلماتي |
وسألتُها عَفْوَ الأمومةِ عن فتىً |
عَبَثَتْ به الأيامُ بَعْدَ شَتاتِ |
واسْتُكْمِلَ الحفلُ الفقيرُ بِزَخَّةٍ |
مزحومةٍ بـ ((هَلاهلِ)) الجاراتِ |
* * * |
عَتَبَتْ عليَّ وقد غَفَوْتُ سُوَيْعَةً |
عَيْني .. وخاصَمَ جَفْنُها خَطَراتي: |
قُمْ بي نَطوفُ على الأَزِقَّة كلِّها |
نَتَبادَلُ الآهاتِ بالآهاتِ |
طاوَعْتُها .. وَمَشَيْتُ يُثْقِلُ خطوتي |
صَخْرُ السنينَ ووحشةُ الطُرُقاتِ |
اللَّه! ما أحلى ((السماوةَ)) .. ليلُها |
باكي النَداوةِ ضاحكُ النَجْماتِ |
اللَّه! ما أحلى السماوةَ .. صُبْحُها |
صافٍ صفاءَ الضوءِ في المرآةِ |
فَتّانَةٌ .. حتى نِباحُ كلابِها |
خلفَ القُرى يُغوي ثُغاءَ الشاةِ |
أتَفَحَّصُ الطُرُقاتِ .. أَبْحَثُ بينها |
عن خَيْطِ ذكرى من قميصِ حياتي |
* * * |
فَزَّ الفؤادُ على هتافٍ غابرٍ |
عن أَصْدَقِ الأوهامِ في صَبَواتي |
هل كان حُبًّا؟ لستُ أدري .. إنما |
قد كان درساً للطريقِ الآتي |
كانت تُمَشِّطْ شَعْرَها في شُرْفةٍ |
خضراءَ .. تَنْسلُهُ إلى خُصُلاتِ |
رَفَعَتْ يَداً منها تشدُّ ستارةً |
لِتَصدَّ عن أَحْداقِها نَظَراتي |
فَظَنَنْتُها رَدَّتْ عليَّ تَحِيَّتي |
بإشارةٍ خجلى وباللَفَتاتِ |
كنتُ ابنَ عشرٍ واثنتينِ .. فَلَمْلَتْ |
شفتايَ ما اسْتعْذَبْتُ من كلماتِ |
غازَلْتُها .. ثُمَّ انْتَبَهْتُ إلى أبي |
خلفي يَكِرُّ عليَّ بالصَفَعاتِ |
أَتَخونُ جاري يا أثيمُ وَعِرْضُهُ |
عِرْضي وكلُّ المُحْصِناتِ بَناتي؟ |
تُبْ للغفورِ إذا أَرَدْتَ شفاعةً |
واسْتَمْطِرِ الغفرانَ بالاياتِ |
لا الدَمْعُ يَشْفَعُ والنحيبُ ولا أبي |
سَمَعَ اختناقَ الطفلِ في صَرَخاتي |
واسْتَكْمَلَتْ أُمي العقابَ .. وراعَني |
وَيْلٌ بإطْعامي إلى ((السَّعْلاةِ))
(4)
|
فَنَدِمْتُ ـ رغم براءتي ـ وأظنُّهُ |
كان الطريقَ إلى جِنانِ صلاةِ |
* * * |