شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(50) (1)
صادفتني ـ في هذا اليوم ـ بعض المصادفات العجيبة،، جاءت على منوال واحد.. في البداية والختام.. فهنا صدام بين سيارتين.. وهنا مضاربة بين اثنين على خفيف.. وهناك مخالفة رسمية من موظف ضبطه متلبساً بها مديره المسؤول.. ومخالفة فظيعة.. من سائق متهور!..
وفي كل واحدة من هذه الحوادث.. أو المخالفات الهينة مادياً.. والخطيرة قانونياً مهما كانت بساطتها كانت زحمة أفراد.. وأصوات مختلطة.. وعالية في البداية.. إلا أنها كانت تنادي كلها في النهاية بجملة واحدة.. موجهة إلى المعتدى عليه.. وتتردد كأنها ((مارش)) محفوظ.. وهي لا يراك الله إلا محسناً.. لا يراك الله إلا محسناً.. لا يراك الله إلا محسناً!..
ويعنون بهذا المارش الوطني البلدي الشعبي المصون أن يتنازل المعتدي عليه عن حقه إكراماً للخاطر.. ومنعاً للأخذ والرد.. واجتناباً لشهادة الشهود.. وأولاً وأخيراً الحرص على الشيمة والمروءة والتراث القومي الخالد.. بتقدير تلك اللحى الغانمة.. والوجوه الغالية.. وذلك بمسح الأمر في أحدهما كما يقولون نصاً.. أمسحها في وجهي.. يا سيدي.. ولا يراك الله إلا محسناً..
ونحن بهذا المارش المصطلح عليه نحدد نوع الإحسان الذي لا يرانا الله إلا به.. وهو التنازل عن الحق مهما كان هذا الحق.. أو مهما ترتب على إطلاق سراح المطالب به قانوناً.. لردع.. أو للأجر أو للتنبيه.. على الأقل.. بأن لكل مخالفة جزاء يذكر المطبق عليه بعدم التكرار له.. لو فكر في تكراره..
ومن الغريب جداً.. فيما رأيت اليوم.. أنه كان لهذا المارش التقليدي أثره السحري في فض النزاع دون أن يصل في مداه إلى جهة الاختصاص.. فما هو إلا أن تردد الجوقة في وجه صاحب الحق.. لا يراك الله إلا محسناً.. حتى.. ينجيه.. أخيراً.. وينزل على رأي الجماعة، فيؤدي لها ولمارشها التحية اللازمة.. ويتم السماح.. فالتنازل!!
ولقد كان يركبني عفريت ((الأصول)) في كل مرة.. راغباً في أن يسجل الحادث رسمياً.. وألا يتدخل في فضه بسرعة هذا المارش الموروث.. ولكن كان الجواب على رغبتي هذه في كل مرة على سؤالي.. لماذا لا تأخذ الأمور مجراها؟.. من كل الحاضرين.. لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟ بأسلوب أغنية فيروز الحلوة.. لماذا نحن أغراب؟
وكان كل الحاضرين ـ أو المجتمعين يرددون كأجزاء متفق عليه.. يا عمي سيبك.. الإجراء اللي بالك فيه طويل.. طويل.. والناس ما عندها وقت. لا للشكوى نفسها من الحادثة.. ولا للشهادة.. من مشاهديها..
وفي الليل.. كنت أروي ذلك.. فأمن جميع الحضور.. على سلامة ((أصول)) النغم في هذا المارش.. وأفضليته على سلامة ((الأصول)) التي أدعو لها. ويعقب كل منهم بحادثة تؤكد ذلك.. ولقد كان أطرفها الآتي:
قال أحدهم.. وهو صاحب مطبعة شهيرة وله شهرة في عمل المقالب بسواه.. تصوّر إنني أنا الذي أخذت مقلباً هذه المرة.. فقد كان لدي عامل سيء الطباع.. وصاحب يد طويلة.. وخفيفة.. وصادف مرة أنني رغم خفة يده سبقتها عيني.. فرأتها وهي تمتد إلى ظرف بداخله حوالى خمسين ريالاً.. فضبطتها.. وبالتالي ضبطت صاحبها.. فلم أشعر وأنا بسبيل اتخاذ الإجراء الرسمي إلا وقد بدأ المارش من بقية العمال.. ومن زوّار المطبعة.. بألا يراني الله إلا محسناً.. وقد كان.. فسامحت.. وضربت التحية للمارش المألوف!
فهل تدري ماذا كانت النتيجة بعد عشرة أيام فقط.. من حادثة الظرف؟ قلت لا.. قال لقد امتدت اليد الطويلة الخفيفة.. ولكن في غفلة من عيني هذه المرة.. فأخذت موجود الصندوق.. وكان به رواتب زملائه جميعها..
وتجاسرت.. وقررت سد أذني عن سماع المارش إذا عزف.. ولكن.. لم يتجاسر أحد منهم بعزفه إطلاقاً.. لأنها رواتبهم. وكانت الشكوى.. وكان التحقيق.. وكان في النهاية أن أعيد المبلغ.. إلا أنه جاء ناقصاً مبلغ مائة ريال.. فما كان.. برضو.. من بعض المسؤولين أيضاً والحاضرين حين رد المبلغ إلا أن قالوا: لا بأس سامحه في الباقي.. ولا يراك الله إلاّ محسناً.. أيضاً!
فعقبت على روايته في سخرية لا تخلو من المرارة.. كما كنت أعقب بعد كل حادثة تنفض بهذا المارش.. يا بخت كل من وفق بين راسين.. في الحلال!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :639  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 89 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج