شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(25) (1)
دخلت اليوم أحد المطاعم.. حيث أذهلتني النظافة المنقطعة النظير فيه.. فهو بكل موجوداته.. أرضاً.. سقفا ركناً.. موائد.. كراسي.. أثاثاً عاماً.. مثل نادر يكاد لمثلنا الدارج ـ زي الصيني بعد غسيله ـ يخرج لسانه النظيف كذلك.. في أدب مهذب.
ونحن نعرف.. أن النظافة من الإيمان.. ولهذا فإنها تبهرنا لدى التطبيق باعتبارها نادرة.. لاعتبار التطبيق نادراً في أغلب الأحوال وما علينا من مناقشة ذلك فهو جر شكلاً يجر بدوره إلى مناقشات لا تنتهي عند البعض.. أو لدى الكل.. فالأمر سواء..
ولقد أخذت بعد إعجابي بتلك النظافة.. أراقب الرواد للفرجة.. ولإحصاء الحركات ومقارنتها بالسحنات تمييزاً لأجناس أصحابها.. فلاحظت أن الجميع ملتزمون أتوماتيكياً بمبدأ النظافة السلوكية في كل شيء.. مسايرة للموضع ذاته وللموضوع..
واتجرأ قليلاً. أو كثيراً.. فأقول إنني خرجت من هذه المراقبة.. جازماً بأن الباعث القوي لكل هؤلاء الرواد على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم على التزام قانون النظافة في تصرفاتهم الهادئة دون تكريع. أو تتفيل.. أو مخط.. أو لعلعلة حلق في تناول الشورباء مثلاً.. أو سحب المقاعد بخشونة وصوت.. أو إحداث احتكاك فظيع بين الأطباق وتوابعها من شوك وسكاكين وسواها.. لم يكن هذا الباعث هو تطبيق مبدأ النظافة وحده.. يقدر ما كان الباعث على ذلك الاحترام الملتزم والمطابق مع حيثية النظافة في المكان نفسه تمليه وتجبر الرائد له على أن يكون متماثلاً معه.. في كل شيء.
وتصورت العكس.. ترى لو كان هذا المطعم أصلاً على قدر كبير أو قليل من الوساخة ومن رثاثة أثاثه وموجوداته.. ومن إهمال وضعه منظراً عاماً وخدمات.. هل كان الرواد له.. مهما كانوا.. بهذا التمسك بمبدأ النظافة في كل سلوكهم وتصرفاتهم به؟
أظن أن الجواب كلا! فمن الطبيعي أن تسري العدوى منه إليهم.. وكم من مكان قذر يغريك بأن تعطيه ما يجب له.. فأنت لا بد وأن تتفل أو تمخط حتى ولو لم تكن ذاتياً في حالة استعداد قهري لذلك.. بل إنما تفعل أحد الأمرين وسواهما لتتماثل سلوكياً مع الموضع والموضوع..
وتذكرت أننا كنا جماعة في رحلة لأوروبا.. وكان أحدنا بالذات من المغرمين بالأصوات الحركية من الأنف والحلق.. وسوائلهما.. فكنا إذا غشينا محلاً محترماً يضغط على طبيعته ونفسه فيتورع ألا يمارس رذيلته تلك مضطراً وحتى حين يحزقه شيء منها فإنما يعمد إلى منديله يكتم به الصوت ويدفن فيه قاذوراته.. وكان يتناول كل شيء في هدوء.. وبأسلوب مهذب. ونظيف..
أما حين يقذف بنا الحظ السيء إلى مكان يتناسب ومستوى عادات الأخ.. فكنا نسارع بنسبة قذارة المحل.. والإهمال فيه.. في صيحة واحدة إلى القول له.. تبحبح يا أخا العرب!..
ونعود للموضوع.. وإن لم نخرج عنه بما مر فأقول.. طال عمرك ـ إنني قلت لنفسي في هذا المطعم المنقطع النظير في النظافة التي هي من الإيمان.. يا ترى هل يتناسب مع الوضع والموضوع.. أن نقلب المثل القائل.. المكان بالمكين.. لنقول. إن المكين بالمكان؟..
أرجح أن ذلك يجوز أحياناً.. وربما كنت مخطئاً في هذا التخريج.. الذهني.. لا الحلقي.. بالطبع.. والله أعلم.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :633  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 64 من 168
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.