شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الآن... ما هو الثابت؟!!
• للشاعر الرقيق/ محمد صالح باخطمة:
ـ إننا نعرف (نانسي) ثم (روبي) ثم (هيفا)
والصبيات الصغار!
لم نعد نسمع عن حمزة أو خالد، حتى ذو الفقار
نحن نحيا في خواء الفكر: غذَّاه غثاء ودوار
لا تلومونا.. ولوموا من تناسانا، وحتى ما يدار!
• الآن!!!
كلمة.. كان يبحث عنها في الشروق وفي الغروب.. ينبش الوقت، ويفتت الثواني ليخرجها زمناً يوحِّد فيه بين البشر وعزلتهم.. بين عزلتهم ومحسوساتهم ودهشاتهم! كان يغوص في أعماق المفكر والإنسان فيه.. ليمتح حصيلة المعاناة والتجربة، ويتحدث عن الحياة ونماذجها المدهشة.. وكان يردد عبارته:
ـ الحياة على الأرض غير مشروطة بالخلود!!
لكنه كان يغازل خلوداً غير مادي.. تُشرق في تضاعيفه تلك الأفكار التي يحارب بها التحليلات الإجرامية من خلال ما يتعقبه الناس ويورطهم!
وابتدأ "فرانسوا مورياك" رحلة طويلة ومضنية في غابات البشر.
كان قد شرَّع نافذة كبيرة يرى من خلالها الأضداد والتآلف في الحياة ومن الناس... وعاش سنوات يكتب الرواية الطويلة، ويصوغ أشعاره المرهفة، ويكتب تحليلاته وانطباعاته الصحفية.. ويقف في داخل نفسه حائراً صارخاً، يتواجد مرة، ويتشرد مرات.. وسئل عما في داخله فأجاب:
أنا غيبي، ميتا فيزيقي.. يشتغل بالمحسوس!! واهتم "مورياك" بأشياء الإنسان التي تشكل جوهره ويحاول إخفاءها.. وذلك أن الجوهر الإنساني ليس احتفالاً معلناً تتردد في جنباته الأصوات العالية، لكن الإنسان منعزل، ومجرَّد، ومجروح.. غير أن احتكاكاته واصطداماته تجعل منه طغياناً جباراً من الماديات على أصائل النفس.
ومورياك يقول: "إن البشر كثافة إنسانية، وهذه الكثافة تتطور وتعتمل من تلقاء نفسها"!!
لكن هذه الكثافة في تطويرها واعتمالها: تتوازعها أدوار البطولة الشريرة في التعامل البشري، وتعتسفها "مآسي الوصول للمستحيل"، بينما هي تعتسف كل محصولها من العلم.
والإنسان في غمرة هذا يعاني من عزلة النفس وتواجد الروح المتألمة!
لقد مات "مورياك" منذ أكثر من سبع عشرة سنة، وكان قبل موته بأيام قليلة يترقب الموت الذي فلسفه وأطلق عليه كلمة واحدة وهي: (الآن)... فكل امرئ يجري على طرقات الحياة ليموت... إنه يعمل ويشقى ويحب، ويتعذب ويفرح لأنه سيموت!!
إن الموت هو نتيجة تلك الكثافة، وذلك الاعتمال!!
أما الذي أعادني إلى تذكُّر "مورياك"، وإلى تأمل ما قاله وكتبه ومات عليه.. فهي كلمة: "الآن"... عصيبة هذه الكلمة ومنطرحة أيضاً/ الآن!!
• • •
• رواية عن اضطراب الإنسان:
لقد كتب "مورياك" الرواية الفرنسية المعاصرة التي صوَّر فيها اضطراب الإنسان، وكان يتساءل حينذاك:
ـ كيف يقدم تمييزاً للأشياء المنتصبة، والأشياء المنعدمة؟!
إن الإنسان مطحون باختلاط الانتصاب والانعدام.. ومن خلال رؤية "مورياك" لهذا العالم المتفجع والمنكفئ، مارس حضوره وغيبته، واستبقى في ذاته القلق الصاهر الذي انطق فيه وبه مثل جواد أصيل يقتحم.
• وقيل عن مورياك: "إن عالمه كعالم بروست.. موجود فيما وراء وخارج روابطه.. مع عالم واقعي، إنه التراب الذي تنبت فيه وترتفع مخلوقات لا تتوقف عليه فقط"!!
وكان "مورياك" خَلْف وفي غمار تلك المخلوقات.. لا يتوقف فوق التراب ولا يرحل عنه، لكنه يستبدل الإنسان أحياناً بالمستنقع الآسن المولِّد للجراثيم... ذلك أن المخلوقات تقتل نفسها بحدودها وبخيالاتها وبرغباتها.
إن الانعدام لا يبدو جزئياً كلما كان صوت الإنسان أعلى من مطالبه، لذلك... فإن المطالب الدنيوية تقسرك أن تصنع عملية تؤدي بك إلى الخسارة!!
• يقول "جاك روبيشون" الفرنسي عن أدب مورياك:
ـ "مورياك دجَّن الإنسان الآبد، وبأربعين سنة من التمرين.. فإن الرواية المورياكية - نسبة إلى مورياك - هي الوحيدة في عصره التي تحملك على القول: هذا من مورياك.. كما كان يقال في السابق: هذا من بلزاك"!!
إن مورياك أعطى في الرواية تعبيراً عن واقع وحالة ونفسية الإنسان.. ما بين الانغلاق والخصوبة، وهو قد تسنَّم مكانة في الأدب العالمي المعاصر.. حتى منحوه عطاء "بلزاك" لحضارته وفكره، وأعماله الروائية اهتمت - كما قال هنري سيمون - بجعل عالم الجسد محسوساً وواقعياً في كل مكان، ومتخلصاً من كل مقصد يشير إلى تصوير الوجود!
كان "مورياك" يعني - بما قدَّمه - أن الأشياء المترابطة والدالة على الحياة والمؤثرة فيها لا يمكن تجزئتها وفصلها.
إن ما نستطيع أن نُقرر أنه عيب.. هو أصل في نوازع البشر.
إن الجدل أحياناً هو مكياج العيوب المترف.. حتى نستسيغ تلك العيوب كتعامل، وكإستعارة مسلكية من واقع مضخم بالتطورات وبالإنبجاسات!!
لقد تأملت عالم "مورياك" من خلال عبارات متعقبة تنفَّس بها قبل أن يعلن عن قدوم موته... فرأيته فيها: زوابع عصفت زمناً ثم انكسرت... ورأيته فيها: إحساساً غنياً أفرط في الإضافات الإنسانية نحو بشر استحقوا حماقة تكثُّفهم.
لكن "مورياك"قد تشبث بالحب، والتزم بالمحاولات التي تبدأ بها الأنثى الداخلة إلى حياة الذَّكَر كأنما للمرة الأولى، ولا تعترف ولا يهمه فيها سوى الوقفة الفريدة التي تستمر.. مادام قد تواجد إحساس الرجل في الحب بعيداً عن انعداميته وغيبيته!!
رأيت "مورياك" الذي عاش طفولة حزينة ومنعزلة، وتربى تحت وقع الصرامة وهو يتطلع حوله كأنه يتساءل: هل كان الناس مثلي؟!
وإذا لم يكن كل الناس مثله، فلأن المرء وحده لا يرى في غيره إلا نفسه.. بالصورة المعيشة وبالصورة المأمولة التي يحلم بها.
ولأن "مورياك" هو ذلك الفنان الأصيل والمأساوي والضاج بالاحتجاج والرفض.. فقد ما حوله لحظة بحث مضمن عن الحب والفرح الحزين.. لحظة فقدان عدمي.. لا يبدو الوصول فيه مشروطاً بالتحقيق، ومن ثم بالخلود.
• • •
مأساة الوصول المستحيل:
• لذلك.. فإن أكثر من ناقد ودارس تحدث عن هذا الجانب الصميمي في المعاناة وتفكير "مورياك"، وكتبت عشرات العبارات.. كان لها هذا المضمون القائل:
• يستطيع مورياك أن يفتخر بأنه وصف عشرين مرة دون تطاول غيبي مأساة الوصول المستحيل للنفوس خلال الأجسام، وبأنه وضع مبتدعاته العطش الذي لا يرتوي لقفر الحب"!!
وعبر هذه الرحلة الطويلة من الحياة والتأمل والتفكير والاضطراب أيضاً.. أعطى "مورياك" أدباً حياً، وأديباً مسعداً من تضاعيف التعاسة فيه.. وأبدع في استنطاق مضامين الإنسان واستشرافاته وارتطاماته، وفي النهاية.. وقبل أن يتوقف نبضه، قال لمرة واحدة:
ـ "كل شيء مرّ.. كما لو أن الباب قد أُقفل إلى الأبد في داخلي"!!
• • •
• الآن... في الساعة الأخيرة، لا أحد يستطيع أن يتكهن، حتى التظاهر بالاستسلام للموت لا يثبت شيئاً!!
وبعد...
فإن الإنسان لا يقدر أن يمتلك "الآن".
أن كل شيء في هذه (الآن) هو محكوم لما يأتي بعده.
إن "الآن": وقفة دهشة وانشغال مؤقت، ثم لا يبقى بعد ذلك شيء!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :859  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 480 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.