شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
نزار قباني
ـ كانت الفكرة المتداولة في أوساط المثقفين من غير أقطار النفط: أن اهتمام ((إنسان)) الخليج العربي النفطي، ومثقفيه أيضاً.. ينصبّ على ((الثروة))، أو ((الفلوس)) وزيادة الأرصدة المالية، والشركات، والبذخ، والترف الاجتماعي.. على حساب المواطن العربي الآخر!!
لكنّ أقطار النفط الخليجية.. خيّبت كل تلك الظنون، والإِدّعاءات الظالمة.. ودحضت كل تلك الإِتهامات المجحفة، بجدارة، وبشواهد ملموسة.. برزت بشكل مكثف خلال السنوات العشر الماضية!
لقد وظّفت أموال (( النفط )) للاهتمام بغذاء عقل وروح الإِنسان (( الخليجي ))، ولدعم مسيرة الثقافة، وحركة النشر.. مُسْتقطبة إبداعات، وأعمال المثقفين العرب، من شعراء، وقصَّاصين، ومسرحيين، ودارسين، وعلماء في حقول العلم المتعددة.
وإذا توقفنا قليلاً أمام (( الإصدارات )) التي كانت دولة (( الكويت )) وحدها تضطلع بنشرها، وبطباعتها، وتحريك النشاط الثقافي العربي من خلالها... فإننا نجد نسبة هائلة من تلك الإِصدارات المتنوعة، من صحف، ومجلات أسبوعية، ومجلات متخصصة، وسلاسل كتب شهرية، ودوريات.. مما يعكس أبعاد تلك الحركة الثقافية المائجة بألوان الثقافة، والإِنفتاح الفكري والإِبداعي على الثقافات والحضارات الأخرى!
وشهدت دول النفط الخليجية: نهضة لافتة في شتى المجالات.
وانطلقت تلك النهضة: راكضة، ومنتشرة في كثير من الأقطار العربية.. لتدلل على أن هذه الأقطار الخليجية ((الصغيرة))، وحديثة العهد في نهضتها وانطلاقتها... قد استطاعت - في سنوات قصيرة ومحدودة - أن تبني قاعدة راسخة، يقف فوقها الإِنسان الخليجي، المثقف، والمبدع، والفنان، والمتطور!
ـ ومن ثمار الانطلاقة:
ـ قيام نهضة مسرحية واعدة، ومدروسة، ومؤهلة.. في الكويت بالذات!
ـ إنشاء منابر للكلمة، وللرأي، وللثقافة، وللإبداع.. حتى تفوّق (التكنيك) الصحافي، والطباعي، في دول الخليج من خلال إصدار مجموعة مطبوعات: يومية، وأسبوعية، وشهرية، ودورية.. اهتمت بالحدث السياسي، وبالرؤية الاقتصادية، وبالتطور الأدبي، وبالنشاطات الثقافية والعلمية، والفنية!
وكان هاجس دول الخليج (النفطية!): أن الأقطار العربية وِحْدة تتجمع في اتصال الفكر، والفن... وفي تلاحم المشاعر الواحدة بالمصير الواحد... واستفادت، وأفادت أيضاً من تعاون الكفاءات العربية الثقافية - المبدعة، والمؤهلة، والمتخصصة - للانطلاق معها بعقل وروح الإِنسان المشرئب إلى تنمية (( الإِنسان )) قبل الاقتصاد!!
وإذن... لم يكن هذا الدور الثقافي الذي اضطلعت به أقطار الخليج النفطية: دوراً يتباهى بملامح الترف المادي، ولا مجرد حِلْيَة، يتمُّ الاستغناء عنها.. بل هو دور حضاري، فاعل، ومطور!!
* * *
ـ وفي هذه الانطلاقة التي تعتز بها أقطار الخليج النفطية.. كان هناك (( نفر )) يُصدر فحيحه كالأفاعي من بين صفوف المثقفين العرب: حقداً على أقطار الخليج، وثرواته النفطية... في محاولة منهم للابتزاز، وقد استغرقوا في ذلك الاصطلاح الفكري الذي استخدمه - في البدء - عالم الاجتماع الألماني (( إرنست ترولتيخ )) .. وهو يحدد معنى: الجاذبية الشخصية في فرد مثقف.. يريد أن يلمع في مجتمعه!!
لكنّ عالماً آخر، هو: (( ماكس فيبر )) قد وضع تعريفاً محدداً لصاحب هذه الشخصية التي تعتني بإظهار جاذبيتها... فكان تعريفه بهذه الكلمة: (الكاريزما)!!
ـ ويشرح العالم (( ماكس فيبر )) معنى هذا التعريف.. فيقول:
ـ ((إن صاحب الكاريزما.. لا يستطيع تحقيق تأثيره، واستغلال مواهبه، إلاّ في اللحظات الحاسمة من تطور جماعته، أو مجتمعه.. حين يكون المجتمع مليئاً بالتوقعات، والمخاوف، والتيارات))!!
وإذا تلفّتنا حولنا.. لتحديد ملامح هذا ((النفر))، ممن يتطلعون نحو صفة (الكاريزما) بإبداء الاستعلاء على مجتمعهم، وأمتهم... فإننا نتعثر - على سبيل المثال - بالشاعر (( نزار قباني )) الذي قيل عنه، أو فيه:
ـ إنه الشاعر الذي (تفوّق) على كل شعراء أُمته القدامى، والمعاصرين.. في هجاء أمته العربية، ولَعْنِها، والسخرية منها!!
لكنه - في الوقت نفسه - قد ركّز أحقاده، ولعناته، وسبابه على أقطار الخليج العربي النفطية!!
وقد يعترض عبارتي هذه المجروحة، المتألمة: قارئ عاشق لشعر ((نزار)) ولِصُوَره الشعرية المتجددة، والأنيقة، والإِبداعية!!
ـ وبكل حزن غامر.. أجيب: إن (( نزار/الشاعر )) يمثل في انطباعي، وتأثري عبق الكلمة، وأريجها، واقحوانها... فقد أجمع نقاد الشعر العربي المعاصر على وصفه بـ (( جواهرجي )) الكلمة، والصورة المبتكرة!!
ولكنّ هذا الانطباع، والتأثر أيضاً.. ينحصر في قصائده الإِنسانية، والوجدانية، والرومانسية.. أما قصائده السياسية، و (( التنظيرية )) فقد شطَّ فيها، وابتذل رقيَّ الشاعر الفنان، وانحطّ بانتمائه العربي إلى الحضيض‍!
إنه يلوح في زحام ما يُهرق من كلمات، وكأنه: سيف مشرع بالباطل.. أو أن عبارته مثل خنجر يطغى على حدّه، فيجسّدا انخذال الشاعر، ورفضه حتى لوشائجه وانتمائه!
وهو يلوح.. مثل صارية في عرض البحر يصطخب بالأمواج العاتية.. وعلى شراعه رُسَمِت جمجمة، ووجه قرصان!!
* * *
ـ والآن... أين هو ((نزار قباني)): الشاعر الذي حاول في قصائد سنواته الأخيرة، أن يعكس لقارئه من خلالها.. أفكاره الجديدة، وانتماءه لأمته العربية واشتعال قوافيه بالثورة، وبالاحتجاج على كثير من الممارسات الإِنهزامية، والخلافات العربية؟!!
أين هو ((نزار قباني)).. الذي لم يكن في السنوات الأخيرة سعيداً بأرومته العربية... وكان - في الوقت نفسه - متمرداً على ذلك السياج الذي أقامه النقاد حول شعره، منذ أن وصفوه بقولهم: ((إنه شاعر المرأة الذي دخل إلى مخدعها منذ مراهقته، ولم يخرج منه))!!
أراد ((نزار قباني)) أن يعلن للقارئ العربي بلاغَهُ الشعري الفاصل بين حياته الأولى، وحياته الجديدة.. منذ ارتبط عاطفياً ((بغزالته)) العراقية، واندلاع جنونه الذي تمثل في نغمة (الاستعلاء) على قومه العرب، وتجريحهم، وشتمهم... بعد أن ((نشّنوا)) على غزالته، وأرسلوا الانتقام منه.. بقتلها تحت الأنقاض في بيروت!!
ـ يومها.. شتم ((نزار قباني)) أمته العربية في قصائده التي صفق لها: الثوريون، والحاقدون، والضائعون، والبائعون، وسماسرة القضية... وهم أنفسهم الذين اغتالوا له ((غزالته))!!
ـ يومها - أيضاً - لم يجرؤ ((نزار قباني)) - الشاعر، الثوري، الوطني - على فضح قَتلة غزالته، ولا على إعلان الحقيقة... ولكنه وجد في شعب ((الخليج العربي)) - البدو، القبليين، المتأخرين! - ذلك الصدر الحنون، المفتوح له بالحب،والمشرع أمامه لامتصاص آلامه، وحزنه العميق على اغتيال غزالته!
وحين نتساءل اليوم: أين ((نزار قباني)) عن نصرة كلمة الحق، والعدل، وانطاقها: مُتَحدِّية ممارسات الظلم العراقي في الكويت... فإننا نتذكر - مع التساؤل - تلك الأمسية الشعرية التي أحياها في حضن دولة ((الكويت))، وأضاءت أكفُّ شعبها الفرحان بالحب بذلك التصفيق الحار لأشعار ((نزار))، وحتى لشتائمه التي صبّها على رأس دول النفط (!!).
ـ يومها... جاء إلى ((الخليج العربي)) النفطي: هارباً من جحيم موانئ القتل، والسَّبْي في بيروت!
جاء ينوح بقصائد قديمة... فلم يكن قد نطق بقصيدة جديدة حينذاك، بعد أن ذبحوا له ((غزالته))، واجتثوا له نخلته التي اختارها من بين كل نخلات العالم العربي!
جاء يومها، وقد جفّ البوح فيه... وكأنه أشاح بوجهه، وبقلبه، وبعقله عن قضية أمته العربية.. وأخذ يتلفَّت مثل ((طربادور)) مجنون، يعزف على قيثارة الحزن، والفقد، واليأس، والحقد!!
ـ وقال نزار في أُمسيته تلك: أنه يئس من الدفاع عن القضية العربية... وأنه عائد، عائد إلى مخدع الأنثى، من المكان الذي بدأ منه أشعاره، وغناءه.. من: السامبا، والرومبا!!
لكنّ نزار - منذ ذلك الوقت - لم يعد إلى مخدع الأنثى، ولم يبق في موقع المدافع عن قضية أهله العرب... ويبدو أنه سقط في التيه، والضياع حتى الآن!!
ـ فأين هو ((نزار قباني)) من هذه ((الفتنة)) التي نسفت القضية العربية الأولى، واقتلعت ما ظنناه بذرة للتضامن العربي؟!
ـ ألم تُثِرْه الأحداث... أم تراه يقف - ولو بالصمت - في جوقة الحاقدين على من أسموهم بالأغنياء النفطيين؟!
ـ ألم يستفزه انتهاك عِرْض ((جُلَّنار)) في الكويت، وهو الذي كان يتقلد سيف ((قطز))، ويغني لكل العرب ((من العراق مقاماً))... أم أنه فقد ذاكرته نحو: النخيل، والأرز، والكافور، والزيتون، وصار ((المقام العراقي)) بالنسبة له: إنتحاب الصمت.. في ليالي شديدة الضباب؟!
وفي أمسيته الشعرية تلك بالكويت.. كانت الآذان والمشاعر المصغية إلى قصائده، أكثرها ((أنثوية))... تُصغي إلى حكاياته التي باح بها ذلك المساء.. بدءاً من: اغتيال مدينة، ومروراً باغتيال ((بلقيس)) التي كانت تمثل له نبض الحب!
ـ واليوم... هناك في العراق ألف ألف ((بلقيس)): محاصرات بقرار (فرد) واحد... يظن نفسه ((شمشون)) الجبار، الذي سيُحطم كل شيء فوق راسه، ورأس الوطن، ورأس الحب... بعد أن حشد الوطن، والأهل في زنزانة أهوائه، وطموحاته الفردية!!
ولكن... كيف نتساءل عن صوت شاعر مهزوم؟!!
* * *
ـ لقد تجوّل ((نزار قباني)) فوق أرض الخليج العربي، وعبر مياهه... بل استوطن شعره جوانح، وأفئدة، وعقول قراء لا يُستهان بوعيهم، ولا بحسِّهم، ولا بانتمائهم في الخليج العربي!
ذهب ((نزار/الشاعر)) إلى الإمارات العربية المتحدة في نيسان من عام 1976، وسكب فرحه بهذا الدخول، فقال:
ـ ((ينفتح البحر أمامي كسيف من الفيروز.. قَبْضته هنا، ورأسه على حائط الصين العظيم))!!
يومها.. كان ((نزار)) يفتش - كما قال - عن: السندباد!
ـ قال: إنني أعطي نصف عمري لمن يدلني على عنوان سندباد الجديد... فلماذا؟!!
فسّر السبب، واستطرد يقول:
ـ ((أنا قادم من الزمن الرديء في لبنان.. لأبحث عن الزمن الجميل في أبو ظبي..
قادم من القارة التي شاخت، وتعبت، وأكلت نفسها... إلى القارة التي لا تزال تلبس ثوب العافية))!!
كان ذلك التوجّه منه: جميلاً.. يحمل الإِصرار على وحدة الأرض العربية، وشجبه لتمزيقها!!
إشراقة رائعة.. قبل أن يتحوَّل (( النفط )) داخل منطق ((نزار قباني)) إلى لعنة ضد أهل الأرض، من أهل أرضه!!
وكنا نعتبر ((نزار قباني)) واحداً من أهل أرض النفط.. سواء كانت في بيروت، أو في دمشق، أو في (( أبو ظبي )) أو القاهرة، أو في باريس... لكنه هو - بنظرته الكاريزما - كان يمرّر من نسيجه الشعري (( الْيَشْمك )) : نظرة الاستعلاء، والحقد على إنسان اقطار النفط... وتجسّد ذلك في ندواته، وأمسياته التي عقدها في بعض أقطار الخليج العربي، وشتم فيها النفط، و ((مترفيه))... وكان أهل الخليج العربي المستمعون إليه يَلهبون أكفّهم بالتصفيق له!!
وكما قال ((نزار))، وبقية النفر من أشباهه الذي أعلنوا رفضهم وتمردهم، وانخذالهم نحو الانتماء لهذه الرقعة من الأرض العربية، حقداً على ثروتها:
ـ قالوا: إن النفط هو المسؤول عن الفوضى، والعبث، والحرب الأهلية في المنطقة العربية!!
ـ قالوا: إن النفط مسؤول عن الحرب الأهلية في لبنان، وعن انقسام الفلسطينيين، وعن تعدد المليشيات، وعن احتلال الجنوب اللبناني... وأيضاً عن محادثات السلام التي أعادت إلى مصر سيناء، وطابا (!!).
إن أية دولة نفطية في الخليج العربي.. حرصت على: وحدة المقاومة الفلسطينية، وليست هي التي شرذمتها... وحرصت على فتح خزائن ثروتها لإِمداد الجيش العراقي بالعتاد، وبالمؤن، وبالدعم المالي المتدفق، حتى بعد انتهاء حرب العراق مع إيران!!
وحرصت الدول النفطية - وعلى رأسها المملكة العربية السعودية - على المساهمة في خطط التنمية، والتطوير، وتسديد الديون، والإِصلاح الاقتصادي.. سواء في العراق، أو في اليمن، أو في الأردن، أو في السودان... وفي كل قطر عربي يتطلب المساعدة، والإِسهام المادي!!
لم يكن (( النفط )) الخليجي شراً.. وهو يمنح من ثرواته من أجل دعم (القضية) دائماً، ومن أجل دعم الاقتصاد العربي في كل قطر!!
حتى أسباب موت (( بلقيس )) يرحمها الله... أرجعها (( نزار قباني )) إلى النفط!!
وهو يعرف القاتل الحقيقي لزوجته، وللمقاومة الفلسطينية، ولقضية الحرية في العالم العربي... ولكنه يأبى الاعتراف بالحقائق ويخفي وجهه في الرمل كالنعام!!
كأنَّ ((نفط)) الخليج العربي.. قد صار هو (( قميص عثمان )) عند هذا النفر من المثقفين: (( الكاريزما )) المنخذلين، الموتورين، الرافضين... الذين يوظفون طبول الثورة، بدون ثورة!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1058  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 401 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.