شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
المثقفون الثوريون!
(1)
ـ وجَه الدكتور ((محمد الرميحي)) نداءً عربياً، حُراً: (إليهم... إن كانوا يسمعون)!!
إلى أهل القلم، والفكر... في الأردن، في اليمن، في الجزائر، وتونس... في كل مكان مَنَحَهم حرية التعبير، والرأي!!
إلى أهل القلم، والفكر... من الفلسطينيين بالذات!
وتتّحد أصواتنا المنبعثة من الجزيرة العربية... من الخليج العربي.. من خلال كل ذرة رمل في صحرائنا شهدت على ((الكثير)) ممن وظّفوا الكلمة العربية، ومصداقيَّتنا معهم، ومعاني اللغة العربية.. لشعارات تلفَّعت حيناً بالوطنية، أو بالقومية العربية، أو بمحاربة الاستعمار، وأخيراً... بالخوف على المقدسات الإِسلامية!!
ولقد فعلنا - نحن - هنا فوق وطننا الإِقليمي، ومن أجل وطننا العربي الشامل... ما رسّخنا به: أفعال، وجذور، ومصداقية الوطنية، والوحدة بدعوات التضامن، وتوحيد الصف، والوقوف في وجه الاحتلال الصهيوني، والذين سعوا إلى تمزيق الأرض اللبنانية حتى بعد محاولات الوفاق الوطني المضنية، وإقامة حكومة شرعية من البرلمان.. ومناصرة ((ثورة الحجارة))!
أما ((الإسلام)).. فنحن خُدّامه على الذّروة، والمدافعون عن المقدسات فوق السنام... لن يجرؤ أحد أن يُشكِّك في حقب تاريخية متلاحقة، ولا في مواقف أصيلة، نيّرة.. يحتسبها التاريخ المنصف لنا!
* * *
ـ وينبعث سؤالنا الحزين، والموجوع، والمفجوع:
ـ ما هي ((خلفيات)) هذه البغضاء التي تجد صوتاً أعلى، كلما اندلع حدث في منطقتنا، وكلما ألمّت بأمتنا نازلة، أو كارثة؟!
كأنّ (( نفطنا )) - أي ثروة أرضنا - هو لَعْنَتنا، وهو ميزتنا التي تُصعِّد الحسد، والحقد، وهو الذي يُرسِّب في نفوس الاخرين الشعور بالنقص، وبالعجز، وبالتالي... يولّد الرغبة في: الاستيلاء على أراضينا التي ولدنا فوقها، واحتمل أجدادنا وآباؤنا هجيرها، وجفاف أرضها، وقلة مياهها، وصحرائها، وسغبها، وتشقق أديمها، واحتراق زرعها.. فلما ((عوضنا)) الله باكتشاف ((النفط)) أراد أن يجعلنا من الشكورين له!!
ولم نكن من الناكرين لهذه النعماء... بل تمسكنا بنصوص التشريع الإِسلامي، وبأخلاق الإِنسانية، وبالأواصر التي تعمق الوشائج... فلم نبخل بثروات أرضنا، ولا بعائداتها على الأشقاء من حولنا.. بل ولا على كل الذين استحقوا المساعدة والعون في كل العالم!
أما بعض أشقائنا... فلم يحفظوا لنا هذه النعمة، ولم يكافئونا على مشاعر الأخوة، وصدق التوجّه في أبعاد ومعاني التضامن، والمشاركة في بناء الوطن العربي الكبير... بل انطلقوا بألْسنة إعلامهم، وبعض مثقفيهم نحو وضع رؤوسنا على المقصلة، وتجريح مصداقيتنا، ونوايانا، وأهدافنا، ورغبتنا المتصلة بقربى الدم في توحّد المصير، وخطوة البناء، والوحدة!
سنوات متعددة... ونحن نتعرَّض للتجريح، بل وللسباب والشتائم!
أول من يندفع إلى مقاضاتنا.. هم هؤلاء: المفكرون، المثقفون، (التَّوْعويون)، المعرفيون... ونجدهم يجيدون مع التجريح - تاريخياً، ووشائجياً - ذلك اللون من القذف والسباب!
هؤلاء الذين أرادوا لَوْيَ عنق ((الفهم))، والتوعية على امتداد الشارع العربي.. بادعاء (فقرهم)، وعدم أحقيتنا في غِنَى أرضنا التي حوّلناها من صحراء إلى جِنَأن، ومن رمال إلى واحات، ومن ((داحس والغبراء)) إلى: وحدة القلوب، والضمائر، والعقول.. ووحدة في خطوات بناء الإِنسان، والغد!
هذه بطاقة هويتنا الإِنسانية في الجزيرة العربية، والخليج العربي..
ـ فما هي بطاقة هوية هؤلاء الذين ((يترفّعون)) عن أن يكونوا أشقَّاء لنا.. والذين يدّعون الوعي، والثقافة، والوطنية، والقومية، والثورية، والوحدة العربية... وهم يُغيِّبون الوعي، ويخونون الثقافة، ويطعنون الوطنية، ويمزقون القومية، ويسفلون بالثورية، ويغرّبون الوحدة العربية؟!!
* * *
ـ إن هؤلاء الشاتمين لنا.. المحرّضين على (اجتياح) ثروات أرضنا، وعلى نهبها، وسرقتها، لن يخرجوا عن مستوى السلوك الأساسي في عملية اجتياح (بلد) كامل.. هو الكويت، وغزوه غيلة وغدراً!!
وكانت أولى عمليات الاحتلال، أو الاجتياح: ممارسة السرقة والنهب، والقتل، وهتك العِرْض!!
وهي سلوكيات عصابة.. لا دولة ذات احترام، وتقدير دولي!
وهي سلوكيات لصوص... تدنّت أطماعهم، ورغباتهم، حتى انحدرت إلى (تحميل) أدوات كهربائية، وأكياس مواد غذائية وسيارات، ونقلها إلى بلد السارق!!
ـ إن هذه ((النقطة))/المحور، التي نحاول أن نتوقف أمامها مع (الأشقاء) من المثقفين، والكُتّاب، والثوريين العرب المؤيدين لضم الكويت بالقوة... هي نقطة أساسية في مبدأ التعامل الدولي بين الدول، والشعوب!!
ـ فهل (يؤيدون) الرئيس العراقي عليها؟!!
ـ وهل (يقبلون) أن تأتي دولة عربية، فتجتاح الأردن، أو السودن، أو اليمن، أو تونس، أو موريتانيا... وتنهب أموال (أهلها) وبيوتهم، وتقتحم أمنهم، وتهتك عرض بناتهم؟!!
ـ هل هذه هي (القومية العربية) والتحرر، والثورة، ومعاداة الإِمبريالية، وتأكيد الوطنية؟!!
سيجيب - أكثرهم! - : لا... لن نقبل، وقد أعلنت حكوماتنا عن رفضها للاحتلال والغزو... لكننا نعترض بشدة على وجود القوات الأمريكية الإِمبريالية في المنطقة العربية!!
حسناً... أجيبونا بحياد، وبمنطق:
ـ هل حرصت المملكة العربية السعودية على إيجاد القوات الأمريكية قبل اجتياح العراق لدولة الكويت، وقبل تهديدات العراق بضرب المملكة العربية السعودية، وتفجير منابع النفط؟!!
لم يحدث ذلك إلا بعد الغزو العراقي، وبعد تهديدها بضرب منابع النفط، وتهديد أمنها... بل وبعد أن طرحت القمة الطارئة، ومجلس الجامعة العربية تدخلاً عربياً، وإرسال مظلة عربية لتفصل بين العراق، والكويت... والجلوس إلى مائدة مباحثات لمناقشة كل مطالب العراق!!
وإذن... هل يُغالط (المثقفون) الثوريون، فيتركون (الفعل) الأساسي، ويدورون حول ردود الفعل.. كما يفعل الرئيس ((صدام))... بهدف إسقاط القضية الأساسية، أو الجريمة البغيضة في التاريخ العربي: جريمة احتلال قُطْر عربي، لقطر آخر مجاور له... وإطلاق الإعلام، وأصوات المثقفين (التقدميين) للدفاع عن جريمة الاجتياح، والاغتصاب للأرض، وللبنت العربية... وكأن ((كل شيء)) قد انحصر تماماً في التواجد العسكري الأمريكي!!!
ـ نحن هنا لسنا (أمريكان)..
ولكنكم أنتم هناك - بانحيازكم للجريمة، وللهتك - تُساعدون المجرم على التفاخر بجريمته، واعتبارها: ثورية، وقومية، ووطنية!
أنتم هناك.. تُعينون ظالماً، ليوغل في ظلمه، وطغيانه، وتجاوزاته حتى أخلاقياً، ووشائجاً!
أنتم هناك... تذبحون الكلمة فوق نطع العصر الصدّأمي، الذي اشتهر بالدماء، والتصفيات، والتجني على معاني الحرية.. حتى ألبسها القهر، واضطرّها للانتحار علناً!!
(2)
ـ تُراوح الكلمة العربية في هذا العصر ما بين التصاعد، والإِنكفاء.. ما بين المواجهة، والإِقعاء.. ما بين الحقيقة، والتزوير.. ما بين النضال، والمعايشة!!
وينجذب الكاتب العربي إلى نوعية السؤال الذي يطرحه:
ـ هل يطرح سؤالاً (مسؤولاً) عن تفنيد الحقيقة، وعن إثبات المعلومة الصحيحة، وعن صياغة إجابة تحفل بالمنطق، وبالوضوح، وبنبذ الخوف والارتكاس؟!
ـ أم يطرح سؤالاً (متسائلاً)... قد يحمل التشكيك، وقد يُفتِّش عن الأجوبة، وقد يُطوّح بالمنطق في الجدل، والسفسطة؟!
و ((الحوار)) عن أبعاد الأسئلة التي يطرحها ((المثقفون)) العرب في هذا الوقت... يبدو حواراً مدبباً وحاداً، لأنه ينطلق من اتجاهات فكرية متعددة.. وتستعبده أيديولوجيات وافدة، ترشح بكثير من غيبوبة اليقين، والحُجَّة.. وتسرقه ((غوغائية)) مقصودة، وذلك بهدف نشر المزيد من صخب القول، ومن اعتساف الشواهد، ومن تغريب ((المسؤولية)) التي يلتزم بها المثقف، الأديب، الفنان!!
و ((الحوار)) - في عصر الكلمة/العار - يُحقن بأمصال مختلفة: هَلْوسة، ذيلية لشعار أو نظام سياسي، تركيع الإِحتياج الشخصي، والرغبات في النفوس التي تضعف!!
بينما ((الحور)) - في استشرافه لنظافة العقل والنفس - يشرئب بدور المثقف، والفنان، إلى أهمية، وقيمة ((الحدث)) الذي يمسّ الانتماء، والوحدة الوطنية، والعقيدة، والمبادئ الشريفة... مثلما يختلط هذا ((الحوار)) بالدماء الزكية فوق ساحات الشرف، والاستشهاد!
وقد عايشنا - في تلك المعاناة الأقسى - بعد نكسة حزيران: ذلك الانكفاء الذي أصاب الإِنسان العربي، من خلال أدوات تعبيره: كلمة، وثقافة، وفناً!!
وكانت ((الكلمة العربية)) متوتِّرة/ متهاوية حيناً.. ومتظلمة، منكسرة بالهزيمة، حيناً آخر!
ولما أرادت أن تجمح، وتتخلص من الأطواق التي ضُربَت حولها... حاول البعض أن يكسر بالكلمة كل الحدود، والمعايير، متطلعاً إلى ما ينتشل ((الشعور)) العربي من الظلم، والتوتر، والانكسار، والخوف القاسي!
وكان لتلك الصورة مخاض شوكي.. أعطى نماذج من أدب ساخط، أو متمرد، أو ناقم... إلى درجة ((الحقد))!
وأعطى ألواناً من التعبيرات المضطربة، والمنتكسة في النهاية!
وخرج ((المقف)) العربي، بل والقارئ العادي، بحصيلة واحدة، لم يستَفِدْ منها أي طرف... فكانت بكل أسف تشير إلى محتوى سلة الثقافة العربية.. التي تجمعت فيها حقيقة محزنة، وبالغة الإيلام.. هي:
ـ إصابة الفكر العربي الحديث بالانفصام!
وكانت هذه الإصابة، تُشكّل المرحلة الأولى في أبعاد الخلخلة، والشروخ العربية التي أحدثتها أنظمة الحكم السياسية المتعارضة، والمتلاحية.. بل والمتآمر بعضها على البعض الآخر!
ثم ما لبثت أن تفرَّعت من هذه الإصابة: عاهة أشد ضراوة، وتفتيتاً لوحدة الفكر العربي.. تمثَّلت في عدة ظواهر، تفشّت في وريد الثقافة العربية!!
ولعلّ مجموعة ((الظواهر)) هذه... قد اتصلت بنفسية المثقف العربي. وأعملت فيها ارتكاساً، وانفلاشاً، وقلقاً، ومشياً على الماء بشرط أن لا تهتز القدمان!
والتأثير بهذه الظواهر على نفسية المثقف العربي.. قد أوجد ذلك الاصطلاح الحداثي، القائل: (تهميش) المثقف العربي، وإحداث الانقلاب ضد جذور الثقافة العربة!!
ـ فهل استقر ((المثقف)) العربي في هذا الهامش، أو التهميش وسقط فيه؟!!
ـ يجيب أحد الذين يفتشون عن ((رؤية نقدية)) من خلال (إدانة) عصر النفط، أو - كما يسميه -: الإِنقلاب النفطي، وهو الدكتور ((غالي شكري))، فيقول في صحيفة ((الأهرام)):
ـ (المثقف إما ((حليته)) متلألئة على الصدر بألمع الماسات وإما ((شوكة في الزور))، يستحسن خلعها، وتحنيطها، وحفظها في مكان أمين!
وبين صدم النظام، وأمكنته الأمنية.. أصبح المثقف هامشياً بلا دور فاعل)!!
من وجهة نظر ((غالي شكري)) التي تنتمي إلى موجات أيديولوجية: أن واقع المثقفين العرب قد أثّر فيه ((النفط))، ولم تؤثر هذه الثروة في أدباء أقطار النفط فقط، بل وحتى في مثقفي الأقطار الذين سمّوا أنفسهم اليوم بـ ((الفقراء))!
ونحن نعرف أن العلم الحديث، والتجارب العلمية المتلاحقة، قد استهدفت - بالذات - رأس (الفأر) لإِثبات: أنه لا عقل لديه... بينما أهملت رأس الإِنسان، أو (الرأس المثقف) الذي يتلقّى الكثير، والمتناقض، والمؤثر، والمغري، والدافع إلى الإِنفعال!
وعندما طرحنا مثل هذه (الخاطرة) الطريفة إلى حد ما، وبعد غدر الرئيس العراقي ((صدام حسين)) بجارته ((الكويت))... أخذنا نتساءل عن ردود فعل بعض من المثقفين العرب، الذين توّج أفكارهم التقدمية بمنحهم جائزته المسمَّاة باسمه، ولماذا تواروا في الصمت أكثر من شهر على الكارثة، دون أن يُفصحوا عن رأيهم: ضد غزو عربي لعربي، أو... معه، استشهاداً بداحس والغبراء؟!!
أم تراهم - هؤلاء الطلائع من مثقفي العرب اليوم - قد استهدفتهم تجارب ((صدام حسين)) التي تشبه التجارب على رأس الفأر؟!!
لقد استطاع الرئيس ((صدام)) - عبر مهرجان المربد السنوي، وعلى امتداد احتفالات متواصلة طوال العام - أن يستقطب العديد من الذين حملوا الطبول، وأشادوا، وغنوا لـ (قادسية صدام) التي سفحت دماء لا تُحصى.. واعتبروها من أمجاد العرب العظمى (!!).
وأحسب أن مثقفاً واحداً من الذين (خلع) عليهم الرئيس العراقي جائزته... قد نجا من ريبة الصمت الطويل، منذ الغزو، وهو الدكتور ((محمد مصطفى هدارة)) أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، الذي أعلن تبرُّؤه من ((جائزة صدام)) التي فاز بها عام 1988!!
* * *
ـ وإذن... ما زال المثقف العربي يعاني من حالة "الانفصام"!
بل إن النماذج التي قرأناها - في شكل قصص وروايات - أثناء الحرب العراقية/الإيرانية، وروّج لها الإعلام العراقي، وارتفع بمستواها إلى (عبقرية) الإِبداع في العصر الحديث... كانت هي الأخرى من الشواهد على حالة ((الانفصام)) التي أصابت الثقافة العربية الحديثة... خاصة إذا أفصحت خلفيات تلك الأحداث عن سقوط بعض أقرباء وأهل أولئك المثقفين، والقصاصين، والمبدعين، في ساحات القتال... وإرغام السلطة في العراق أولئك الكُتّاب عى كتابة (إبداعات) الحرب، وتصوير الجريمة في مسوح الشرف، والدفاع عن الوطن!
وهذا ((الانفصام)) يدفعنا إلى طرح سؤال مباشر في مناخ (التهميش) الذي أشار إليه الدكتور ((غالي شكري)) للمثقف العربي، وللثقافة.. وهو:
ـ هل لدينا في العالم العربي حركة أدبية، وثقافية (إيجابية)... تخلصت من تبعيتها لليسار، أو لليمين، أو للشعارات.. وأخلصت للحوار، وللرؤية المجردة والصادقة؟!
ـ إذا كنا من (المتواضعين) جداً، أو من الذين تعوّدوا على مجاملة أنفسهم بالتعبير الرقيق، ومن واضعي الرؤوس في الرمال كالنعام.. فلا بد أن نجيب:
ـ نعم.. لدينا حركة ثقافية - أدبية، وعلمية - وفنية - تتطلع إلى دور الإبداع، والرؤية، والنضج!
وهذا الجانب من الإجابة، نتمنى أن نؤكد به صدق التطلع، والابتعاد عن السخرية!
وهناك جانب آخر من الصورة، أو من الملامح... يجيب بنبرة ساخرة، فيقول:
ـ نعم... لدينا في عالمنا العربي الكبير: مجلات أدبية متخصصة، ولدينا دور نشر، ولدينا معارض أدبية، وكتب تصدر بـ (الكوم!) كما الليمون!
ولكن... كل هذا (الْكَم) الهائل يفقد (الكيف)، وتسقط أهدافه الأسمى في التوجيه، أو التوظيف، أو التحجيم... وكلها أسباب تقود المثقف العربي إلى مناخ (التهميش)، وإلى الدوران حول رؤية أيديولوجية، أو ((نظريات))، أو ((شعارات))، أو خصام مع حرية التعبير، والرأي!
ولدينا - أيضاً - مناوشات على صفحات الجرائد والمجلات.. ونقرأ عن الأديب الفلاني الذي يشتم الأديب العلاّني، ويُسفّه آراءه، ويلعن (سنسفيله) بمشاعر المحبة، والروابط العربية!
ونقرأ عن المثقف (الثوري) الذي يتأبط شراً، ويتجنَّى بالهجوم على مثقف (نفطي)... لمجرد أنه من مواطني هذه الأقطار التي أنعم الله على أرضها بالثروة... فصات نقمة الآخرين!!
وتُسارع الأقطار العربية بمؤسساتها (الثقافية) إلى الاشتراك في معارض الكتب، والمهرجانات... ولكنَّ أصداء تلك المشاركة، لا تتعدى كتابة خبر عن تلك المسارعة... والكثير من الطرح يتم حجبه خوفاً من (الغواية)، أو التأثير... وكأنّ هؤلاء المثقفين، لا يزيدون في وعيهم ونضجهم عن رجل الشارع العادي!!
وهناك بعض أنظمة الحكم العربية التي تُصعّد (الحَجْب)... في تعاملها مع الكتاب، ومع الندوات، ومع المهرجانات... ولا تُعلن وسائلها الإعلامية إلاَّ ما يتفق مع نظرياتها، أو شعاراتها، أو أيديولوجيتها... ولا تُبرز من المثقفين إلاّ الذين نجحت في توظيف كلمتهم للإعلام عن تلك النظريات، أو الشعارات!!
* * *
ـ والسؤال: ما هو السبب إذن؟!
هل هي حرية التعبير التي صار القارئ العربي يُفتش عنها... بينما يجد تلك الحرية في الدول الحضارية المتقدمة، تعني: حق التعبير، والحوار... وحتى حق الاعتراض، واختلاف الرأي؟!!
ولكن... حتى في تلك الدول الحضارية المتقدمة، التي لم تغب عنها حرية الرأي والتعبير.. نكتشف عدة ظواهر، أو نُدوب، ومنها:
ـ أن ((الكتاب)) فيها يكاد أن يغرق في هموم العالم!
ـ أن ((الكلمة)) تتحوَّل إلى: سلاح نووي!
أن القصيدة، والقصة.. صارتا كما فأر مرتجف، صغير الحجم، أمام هجمة الوسائل الإعلامية والثقافية الأخرى، الممثلة في: التلفاز، والفيديو، والعقول الألكترونية، أو الإعلام المرئي في هذا الانتشار المفزع!
وتأتي الأنظمة السياسية التي عملت على (تهميش) الثقافة والمثقفين.. لتسيطر بواحد من تلك الظواهر، أو الندوب - لإثبات تحضُّرها - أو تستغل (الكلمة) لإِعلام مهيمن على وسائل تلقّي المواطن العربي لغذاء الثقافة.. أو حتى تلقّيه للمعلومة، في عصر أطلقوا عليه اسم: (عصر تفجّر المعلومات)!!
إن الحوار مع العقل.. لا يعني ضرورة (تحويل) إستنباط العقل، وفهمه، ليكون العقل موظفاً لأغراض الدعاية.. بل يعني: تفتيت المتناقضات، واستخدام مباشرَةَ النضج للحوار، وللعلاقة (الاجتماعية) المتطورة دائماً بين المثقف، وهموم الإِنسان، وطموحاته.. وبين التأثيرات، والنظريات الغير قادرة على لتطبيق!!
وإذا كانت بعض المهرجانات الثقافية العربية - كالمربد - قد ركّزت على تحقيق انضواء الكاتب، أو المثقف، تحت شعاراتها، وأغدقت عليه الجوائز، والسيارات.. فتلك حالة ضعف تولّدت من أبعاد ((الانفصام)) الذي استشرى في واقع الإدارة العربية!!!
ـ إن ((صدام حسين)) قد استهدف قبل عام 1980م، وأثناء إشعاله الحرب مع إيران.. أن يوظف ((الإعلام العربي)) لأغراضه، ولأطماعه التي كان يُخطط لها، ويحدد توقيت التنفيذ!
ولا ننكر أن ((الإعلام العربي)) قد سقط حقاً في خديعة هذا ((الفرد)) العراقي، المتطلع إلى السيطرة، والقوة، ليجعل من نفسه: زعيماً عربياً.. يدين له الشعب العربي بصفات: الفارس، والزعيم الذي يهدف إلى توحيد العرب، أو إلى تحقيق وحدتهم، وإلى تخليص الأراضي المحتلة من براثن الصهيونية!
ولقد وظّف (( الإعلام العربي )) في إطار هذا (الصوت) الذي أعلنه من خلال كل وسائل الإعلام العربية: مسموعة، ومقروءة، ومرئية..
وأيضاً.. استطاع أن يُسخِّر المنافذ الثقافية لأطماعه، ونواياه.. سواء كانت: مهرجانات، أو مؤتمرات، أو ندوات، في مجالات الثقافة، والآداب، والفنون بأشكاله المتعددة!
وكان نظام صدام.. يستهدف دعوة ((المثقفين)) الذين يعرف إعلامه عن ميولهم اليسارية، أو أفكارهم التقدمية، أو مناداتهم بعودة العرب إلى الوحدة العربية، والتضامن العربي.. وذلك ليعكس - من خلال هذه الدعوات المدروسة والمخصصة - أنه يرأس نظاماً تقدمياً، قومياً، وطنياً!
ولم يكن مهرجان (المربد) الأدبي السنوي.. هو الوحيد الذي كانت بغداد تقيمه في كل عام، وتدعو إليه ذلك الحشد المتكاثر من المثقفين، والصحافيين، ووكالات الأنباء!!
* * *
إن النظام العراقي في حَمْوة حربه التي أشعلها مع جارته ((إيران))، وكانت أجواء العراق تعاني من الحرب، والضغوط النفسية.. كان يقيم مهرجانات متلاحقة على امتداد شهور السنة.. ومنها:
ـ مهرجانات للمسرح العربي: تستضيف لها بغداد نخبة كبيرة من الفنانين والفنانات، وتشغل وقت الناس بندوات عن المسرح وتاريخه وتطوره.
مهرجانات للأغنية العربية: بنفس النظام، والهدف، والإِشغال، وتبذير آلاف الدنانير، ليس من أجل الكرم العربي، بل لخدمة أهداف إعلامية مكشوفة.. ولمحاولة (استمالة) أو كسب تعاطف العديد من الكُتَّاب، والمثقفين، والمتخصصين، والفنانين، والفنانات.
وكنا نستطيع مشاهدة أي (مثقف) أو أديب.. وأي فنان، أو فنانة،من أي قُطْر عربي.. في تلك المهرجانات، والندوات!!
ويُلاحظ أن تلك المناسبات.. يقيمها ((الإعلام العراقي)) ليحقق مِنْ ورائها مكاسب الدعاوة للنظام، وتكريس الإشادة، والإِعجاب ((بالقائد!)) صدام حسين.. الذي يستقطب: الثقافة، والعلوم، والفنون، ليقال أنه: يرعاهم، ويحرص على تشجيع المثقفين، والعلماء، والفنانين.. لخدمة القضايا العربية، والوطنية، والقومية!!!
وقد رصد مبالغ ضخمة لإِرضاء غروره، وأطماعه، وهيولته.. وذلك من خلال تسمية جوائز كبيرة (باسمه!).. ولعلّه كان يتطلع إلى أن يكون في مستوى (نوبل) أب القنبلة الذرية.. ليصبح هو: أب السلاح الكيميائي العربي، وأول قائد عربي يقتل أخاه العربي، ويدمر قُطراً عربياً، ويسرقه!!
وهكذا.. وظّف ((صدام حسين)) الإعلام العربي، وحاول سرقة عقول، وضمائر المثقفين العرب باسم: الوطنية، والعروبة، والحرية، ومهاجمة الإمبريالية... لتكون هذه الشعارات القاصرة عن التطبيق، هي إغراءاته للمفكِّرين، وللمثقفين، وللفنانين العرب.
ولعلّه نجح في مصادرة أصوات بعض المثقفين والأدباء العرب.
كما نجح في مصادرة أصوات الشيوعيين، والعلمانيين مثله، وسماسرة الشعارات التي يَثْرون من وراء ترديدها!!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :867  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 395 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.