شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
العالم على ساقين متناقضين!
أحتاج إلى شجاعة..
شجاعة تدعم تأملاتي، وتتعاطف مع أفكاري، وتغذي نظراتي المنطلقة إلى أعلى.. إلى أبعد من مدار ((أبوللو 8)).. إلى مدار الزهرة!
أفكاري.. تقف الآن بين ساقين طويلتين، هزيلتين، متناقضتين!
تأملاتي.. لا تريد أن تعبر هذا الممر.. حتى تأخذ الانطباع الموضوعي.. انطباعنا كبشر من أبناء هذ الجيل.. نحتاج إلى شجاعة مؤكدة عندما نقرر أن نتخطى هذين الساقين، أو الجانبين المتقابلين بلا تكافؤ!
نظراتي.. ترفض دعوة ((الرؤية)) لمحور الساقين (!).
لقد أضحى ذلك غير مجد. ما دام النقاش يستهدف فقط - الساقين - لأن الساقين فعلاً هما الموضوع!
وأعذروني..
مثلما بدا احتياجي إلى شجاعة مطلب مرغوب.. أيضاً فقد احتجت إلى هذه المقدمة التي تعكس لكم صورة الساقين، بالوصف - بتحديد نقطة الوقوف - وبهذا الإصرار الكبير على التناقض!
* * *
أحتاج إلى شجاعة فعلية.. ذلك أن هاتين الساقين تمثلان شطري هذا الجيل الشاب المعاصر.. الذي يملأ مدرجات الجامعات، ويتدفق إلى مراكز الأعمال باندفاع ضئيل، ويضيع في الطرقات، ذات الأضواء الخافتة وذات الظلال، وهو يصرخ تارة، ويئن أخرى، ويعلن قائلاً:
ـ أنا جيل هذا العصر.. أنا الزمن الحاضر!
وأنا - هنا - أتحدث عن الشباب في العالم كله.. وبالذات في مناطق العالم التي أصابت حظاً كبيراً من الحضارة والتقدم العلمي، وتخلصت من العقدة التي تعوقها عن أفكار الإبداع الإنساني!
إن الأمريكتين، وأوربا عامة.. يمثلون جانباً عظيم الوزن والقيمة من تعبير الإنسان عن رغباته، وحياته عامة، وأولئك الشباب - برغم هذه الهزات النفسية التي يتعرض لها، ويخوضها على اعتبار أنها تجربة من الضروري التعرف عليها - برغم ذلك فإن إقبالهم على العلم، وعلى الجامعات، وعلى التخصص العالي.. لم تؤثر فيه الهزات النفسية، أو ما أسميه ((أثقال)) الاقتناع بالحياة ككل.. بأشيائها الرائعة والجميلة، وأشيائها الرديئة والقبيحة!
إن شباب هذا العصر يتمثل في هاتين الساقين الواقفتين.. بكل الطول، وبكل الهزال، وبكل الانفعال، وبكل التناقض!
ـ الساق الأولى: دائمة الحركة والانفعال والاضطراب.. إلى درجة ((الرفز!)) أحياناً. وهي تمثل الشباب الغاضب جداً.. الرافض دائماً.. المنفعل لأبسط الأحداث والأقوال، وهو الجيل الذي ظهر في بريطانيا، وتشيكوسلوفاكيا، وفرنسا، وألمانيا، والمكسيك وبعض دول أمريكا اللاتينية!
ـ والساق الثانية: تحتاج إلى قوة تسحبها.. تجرها.. تخبط عليها لتخلصها من الخدر، و ((التنميل))، لتوقظها وتدفعها أن تخطو لتواكب على الأقل الاستماع إلى صيحات الغضب، وهي تمثل الشباب الضائع، أو ما أسموه ((الشباب المنهك)).. أنهكته الخيالات، وطواحين الهواء في القرن العشرين!.. أضاعته الأشياء التي يتعاطاها لينسى أفكاراً لم تصل بعد إلى ذهنه، وقد عبرت عن هذه الفئة جماعة ((الهيبيز)) في أمريكا.. تلك التي ينام أفرادها على قارعة الطريق، ويلبسون عدة ألوان ومزق، ويمشون حفاة، ويتركون شعرهم تعبيراً عن الفوضى والاتساخ!
ومن أبعاد هذا الواقع في عالم اليوم.. كان لا بد أن تشارك الكلمة في التصوير، والتعبير، والحوار!
كان لا بد أن تثبت مرآة.. ليرى كل فريق نفسه، وليستمع إلى نقاش طويل من تصرفاته، وآرائه التي أعتنقها وأصبح يدعو إليها!
بعض المفكرين نظر إلى هذه ((البركانية)) على فوهة مجتمع الشباب المعاصر على أنها نتيجة حتمية ومتوقعة في عصر القلق والحروب والقتل الذي أصبح مهمة بسيطة وسهلة.. في عصر ((تأمل)) فيه الشباب قوانين مجتمعهم وأساليبه في استمرارية الحياة وامتهان ((التفاعل)) الصادق الذي تعطيه النفوس الشابة!
وبعض المفكرين - بعد إصغاء وترقب - قال: إن أساليب التربية ومفاهيم التعليم ينبغي أن تتغير، وأن تماشي عصراً جديداً وأن تعي جيداً هذا التناقض الفاضح في سلوك الشباب داخل العالم اليوم!
وظهر لكل فريق: مفكرون.. يعبرون عن حالته، ويصفون معناها، ويسبرون الأعماق.. حتى أن بعض أولئك الكتَّاب.. قيل عن ما كتب:
ـ إنها فضيحة للجيل المعاصر.. تخزي!
لكن ذلك لم يجعلهم يحجمون، بل إن بعض النقاد يصفون أدبهم.. بأنه أدب العصر، أو الأدب الجديد!
وقد جاء على قمة كتاب ((الجيل الغاضب)) في بريطانيا آنذاك.. كاتب شاب اسمه ((جون أزبرن)).. ذلك الذي أصدر قصصاً وروايات تعكس حالة الجيل الغاضب، وتحمل أفكاره وآلامه، وقام النقاد - في البداية - بحملة على هذا الكاتب.. لكن يبدو أن حموة غضبه لم تؤثر في مواجهته لهم بالمنطق وبالجدل المسكت!
ثم جاء على قمة كتاب ((الجيل المنهك)) أو الجيل الضائع.. كاتب أميركي شاب اسمه ((جان كرواك))، وقد لاحظ أن نسبة الكتّاب المعبرين عن هذا الجيل الضائع أكبر من نسبة كتاب الجيل الغاضب في بريطانيا، ورغم أنه جيل منهك، ولم يعد يعرف نفسه ومناخه، فإن الكاتب ((جان كرواك)) أصدر: مجموعة من القصص والأقاصيص، وديوان شعر، وكتابات في الفلسفة، ومختارات من آثاره مسجلة على أسطوانات!
* * *
وبالاستقصاء، والبحث عن أسباب هذا الضياع والإنهاك اللذان أسلم جيل أمريكا المعاصر مقاليده لهما.. فقد قرأت استعراضاً كتبه الدكتور محمود السمرة.. أورد فيه رأي علماء الاجتماع هناك.. فقال:
ـ ((دفعت هذه الحالة علماء الاجتماع لدراسة هذه الظاهرة، وانتهى العالم الاجتماعي في كتابه - الصفوة الحاكمة - إلى أن السبب في هذا كله يعود إلى أن أمريكا خرجت من الحرب العالمية الثانية منتصرة.. لتقع في قبضة حفنة من رجال المال وكبار العسكريين.
وقد أكد هذه الحقيقة الرئيس أيزنهاور في مذكراته التي نشرها بعد انتهاء مدة رياسته! (C. Wright Mills).
وهناك فريق من الكتّاب الجدد المعاصرين.. اعتبرهم في رأيي في الوسط - في منطقة المحور - لا ينتمون إلى الساق الغاضبة، ولا يؤيدون الساق المنهكة الضائعة.. ومنطقة المحور هذه قد لا يستطيع الكثير من المتأملين، أو الواقفين، أو المستطلعين أن يرفع نظره إليها ليحدق فيها طويلاً؛ فهي علو.. بمقدار ارتفاع الساقين والتقائهما، وهي - على هذا البعد - تبدو منطقة غير مرئية كثيراً، وكان يمثل هذه المنطقة أو هذا الفريق الثالث: كولن ويلسون، ويوجين اونيسكو!
وقد يكون القصد: أن هذه المنطقة - اللامعقول - هي جامع النقيضين، أو منطقة التقاء رأسي الساقين.. برغم أن ممثليها قد لا ينتمون كما قلت إلى أحد فريقي الساقين!
إنها منطقة ((اللامعقول)) التي تشرف حيناً على انفعالات الغاضبين والصائحين، وتشرف حيناً آخر على المنهكين والمغذين في طريق الضياع!
من هذا الإشراف الفكري، أو ((الخواطري)) ما عالجه، وصوره كولن ويلسون في روايته ((طقوس في الظلام))!
هذه الرواية هي استشراف لدور المرأة في الحياة، وبالتالي هي أيضاً ((ربا)) في مطالب هذا الرجل التي يريدها من المرأة!
إن بطل رواية طقوس في الظلام يدعى ((جيرارد سورم)) وقد وصفه أحد النقاد.. فقال عنه:
ـ ((إنه نموذج إنسان القرن العشرين.. الذي تعذبه نفسه قبل أن يعذبه غيره.. تعذبه وحدته كما تعذبه معرفة الناس.. عانى من بعد المرأة، وقاسى من لقائها بعدما عرفها))!
والمرأة لم تعد هي مشكلة شباب هذا العصر، لأنها هي أيضاً استطاعت أن تجتاز بعض أدوار الحياة، وأن تتخطى الحواجز في المجتمعات الغربية!
إن من الإمكان أن نقول الآن: إن الرجل أصبح اليوم هو مشكلة المرأة!.. لقد فقدته كلمحة تختلف، وفقدته ((كتغيير)) في حياتها.. فأصبحت المشكلة اليوم في ((التمييز)) سلوكاً وفكراً، ودوراً في الحياة!
إن ((جيرارد سورم)) بطل رواية ويلسون: طقوس في ظلام .. أضاعه عذاب النفس ذاك.. فاضطر أن ((يجرب)) العديد من أدوار الحياة، والعديد من ((الممارسة)) البشرية حتى تردى في الشذوذ وهو يصيح.. باحثاً عن المرأة!
ولكولين يولسون رأي استمهلته حتى أهضمه وأفكر فيه، ثم لم أحتمله.. لأنه قال: ((الرجل اكتشف الكثير من الحقائق الغامضة.. واكتشف أموراً كثيرة معقدة هداه إليها جهده وذكاؤه، لكن المرأة أقرب من إليه لم يعرفها.. بل ضاعفت من حريته))!
هذا الرأي ليس فيه أي خطل، ولا يحتاج لتصويب جذري.. غير أن مشكلة العصر اليوم لا تنحصر أبداً في المرأة وغموضها.. إنها مثلما تبدو غامضة، فهي أحياناً كقطعة البلور في يد ساحرة.. ترى عبر سطحها كل ما تريد!
إن ((برنارد شو)) تحدث من زمن بعيد قبل كولن ويلسون عن المرأة.. وعن مشكلة الإنسان مع الحياة، أو مع التعايش في عصره!.
برنارد شو قال: ((إن المرة هي التي صنعت الرجل.. لكي تجعل منه شيئاً أفضل منه ومنها، ولكنها أخطأت حينما جعلت لا هم للرجل سوى إنجاب الأطفال، غير أن الرجل تجاوز بعد ذلك.. فعندما كان وقت فراغه كبيراً ولا عمل له.. صنع الحضارة الإنسانية بدون أن يستشيرها))!
وكاتب إيطاليا الكبير ((البرتومورافيا))لم يهتم أحد مثله بالمرأة والكلام عنها وفلسفتها، وفضحها، والانصياع لها.. لكنه في كل قصصه، وفي كل ما كتبه وقرأناه أو قرأنا عنه.. لم يحاول ((مورافيا)) أن يربط مشكلة العصر بالمرأة.. ذلك إنها ليست هي كل ((المشكلة)) وإن كانت بعض جوانبها!
إن الوقوف ((تحت)) - بين ساقي هذا الجيل - تحتاج فعلاً إلى شجاعة فكر يتأمل بحرص، ومثابرة، وتحتاج إلى دعوة فالحة.. تشد النظرات لترى ما فوقها.. ترى ((المحور)) حتى لو كان ((لا معقول)).. لكنه نقطة التقاء، ومكان الأضداد والتناقض!
إن شباب هذ العصر.. لا أعتقد أن كلمة ضياع، أو إنهاك تنطبق عليه بحذافيرها، وبهذا الجور في الحكم.. ورغم أن ((جان كرواك)) نفسه - قال: ((أنا من جيل الضياع)). لكن النظرة الفاحصة للأسباب الجوهرية التي تمخض عنها هذا الواقع للشباب.. هي أن يستخرج من دقتها الوصف الذي ينطبق على هؤلاء!
أما الشباب الغاضب.. فليس أكثر من ((فترة)) انتقال تمر بها أوروبا كلها بعد أن سئمت طيلة هذا الردح من الزمن الأساليب القديمة في ((التفكير))!
ولا يمكن أن يكون هذا يعني ((العطف)) على أسلوب هذا الجيل المتناقض.. بقدر ما يعني محاولة لتبصُّر الأسباب.. فالحضارات تأكل كثيراً، وتحصد أكثر.. لكنها تنبت جديداً على أرض جديدة!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :871  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 352 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج