ذاك المساء.. |
كان هو السفر الطويل محشوداً.. |
مختصراً في ساعة من الزمان. |
برّاق ذلك الزمان ((الساعة)).. |
كأنه زفاف الخفق. |
كأنه قوس قزح بعد سحب متراكمة. |
فجائيّ ذلك الزمان ((الساعة)).. |
كأنه الميلاد الجديد بعد الموت.. |
كأنه المطر.. الذي انهمر على الجفاف.. |
كأنه النداء بعد عجز الكلام! |
* * * |
ذاك المساء الساعة.. |
كان هو الزمان الأهم في العمر المبدد.. |
في الانتظارات المتعاقبة كالمحل. |
كان زمانه الذي أفتقده.. |
كان الزمان الذي يملك الإنسان.. |
ويعجز الإنسان أن يمتلكه! |
* * * |
ذاك المساء... |
كان هو السفر الممزق المؤقت.. |
يفيض من ساعة في زمان.. |
قاهر ذلك السفر في زمانها الذي عثرت عليه بالبغتة. |
لا.. بل كان العثور على زمانها بالتلباثية.. |
عندما ارتعش خفقها: |
في أمسية أخيرة كانت تودّع فيها السفر المؤقت.. |
لحظتها تذكرت زمانها وتساءلت: |
ـ أين يكون الآن؟! |
هل يذرع الشاطئ المسكون بالغروب.. |
على سيف بحر ((جدة)) كعادته. |
يدفع خطواته كأنها شموع. |
يشعلها للسمك الذي يلتحف الماء.. |
كأنها خطوات الضائع.. |
وهو يحسب أن كل حبة رمل. |
هي أصداء سأمها، |
وهي أحياناً صخب ركضها.. |
فهل يكون هناك، |
أم أن الـ ((هناك)).. |
في تصوره دائماً تبقى أنا؟! |
* * * |
وجاء ذاك المساء.. |
يدعوها أن تقفل حقيبة السفر، |
وتعلّقها على كتفها الحزين يتيماً.. |
في بعده عن إغفاءة زمانها عليه. |
كأن هذا هو الضياع! |
ولكن.. لماذا تحس الضياع.. |
وأضلاعها تزف كل لحظة اسمه إلى قلبها؟! |
إنه يأتيها دائماً عبر خفقها.. |
يبث في هذا الخفق رائحة الحنين، |
وشظف الغياب. |
يسكب في هذا الخفق مولودهما معاً: |
الحب الذي لا يلتقي رغم أنه يتوحد! |
* * * |
ذاك المساء... |
كانت بعيدة عن الرؤية، |
كانت حميمة مذابة في رؤاه، |
تذكر زمانه وتساءل: |
ـ ترى أين تكون الآن.. |
هل توغل تخيلاتها في مفاوز التنهدات، |
وتصعد ((أجاوسلمى))، |
ثم ترتد شاخصة إلى الغد.. |
ترى البعيد بعيني زرقاء اليمامة، |
ثم تتلفت في الأصداء من حولها، |
حينما يتصاعد ((النغم)) قادماً بنداءاته إليها؟! |
* * * |
وجاء ذاك المساء.. |
يدعوه أن يفتح حقيبة السفر. |
في محطة الوصول المؤقتة.. |
يتحسس كل شعرة تنام على صدره العاري. |
في شتاء المدينة الأوروبية الغائمة. |
هنا فوق هذا البيدر الذي لا ينبت إلا اسمها، |
ولا يطرح ثمراً إلا عهدها. |
هنا تمنى شعرها أن يسكن هذا البيت.. |
أن ينزرع فيه نخلة صابرة على الظمأ! |
إنها تأتيه دائماً عبر فراغ هذا البيدر.. |
فيفيض بالحنين إليها. |
ثم يغرق في الأطياف والأشياء الباردة! |
* * * |
لم يمتلئ بأبعاد الحكاية. |
كانت الحكاية.. مفاجأة العثور: |
ـ هل أنت هنا؟! |
ـ هل أنت الحقيقة أم الطيف؟ |
النغم أم بقايا أصدائه.. |
الزمان أم لعبة الوقت؟! |
ـ أركض.. أدعوك، |
فلا وقت يثبت في الزمان الذي يمتلكنا! |
ـ بل أريد أن أصلك.. |
بعد أن أقشر من أذني مفاجأة العثور! |
ـ لا وقت. ألاّ تذكر، |
إنه ليس العثور بل رائحته! |
ـ ولكني لا أريد الإبحار المؤقت والمنفرد، |
أدعوك أن نبحر معاً، |
لنقتلع الشوق ونبذر مكانه التوق! |
ـ أعدك أن أحمل معي هذا العثور. |
وأنتظر إيابك، |
ـ لا أطيق المساء بدونك. |
لا يرويني المطر عندما أبقى أنا الأرض التي وحدها، |
لا أرى وجهي عندما يغيب وجهك عني!.. |
سأحمل حقيبتي بعد ساعة.. |
إلى ميناء مؤقت آخر، |
فلا تجعلني أضيعك! |
* * * |
ذاك المساء... |
هطلت الأمطار بغزارة، |
تكاثفت السحب فكأن حبات المطر المنهمرة هي النجوم. |
كان السفر - من جديد - |
هو ساعة العثور، |
وهو ساعة الفقد، |
هو زمان الوصل، |
وهو رحلة أخرى إلى موانئ الانتظار! |
كان السفر - ما زال - |
هو العهد الذي لا يفي، |
ولكنه لا ينمحي، |
وتبقى حكاية ((الدنيا الصغيرة))
|
هي التصبّر الذي يتذكره الفاقدون، |
ويلوّح به الذين يعتادهم الحنين، |
فينبعثون في النغم المهاجر!! |
* * * |