شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الرابع عشر: القرفانة!
* من أعماق صوتها الذي افتتح انتباهة سمعه.. أبصر لها ملامح رسمها خياله عن: ذلك السباق المميز في داخلها بين عقلها وعاطفتها... ومن منهما لا ينتصر على الآخر، بل يتواءمان ويتكاملان؟!
هي ((امرأة)) - إذن - تصر على تأكيد حق قيمتها كإنسان في شريان مجتمعها الذي علَّم المرأة، وأدخلها الجامعة ليعزلها بعد ذلك في وظائف محددة بأعمال البيت اليومية!
وهذا الإصرار.. دفعها إلى جولات من النداء على رجل يثق في نفسه أولاً، ولا يوظف حماس الكلام وحده لإرضاء مضمونها الذي صمم أن يستحوذ عليه!
مضمونها.. يتشكل من: إنسانة مُتعبة بنضجها، في سطحية الكثير من شرائح مجتمعها المخملي.
وتعبها هذا يطرد خلف أفكارها، وتأملاتها، ورؤيتها، ورؤاها... يجلدهم تارة، ويحثهم تارة أخرى.
* في ثمالة ليل سهَّدها فيه: القرف، والوحدة.. سألت (سارة) نفسها بشجاعة ومباشرة:
ـ تُرى... لماذا لم أفكر في ((احتياجي)) كأنثى لرجل؟!
نعم... أرفض أن يطلق عليّ رجل صفة ((أنثى)) بتحديده الذكوري لمطلبه مني... لكني في وحدتي، وحميمية لحظاتي، أحس أن ((أنوثتي)) تطغى، وتنغل في عمقي كالحمم.. وأصير لحظتها مجرد ((أنثى)) تفتش عن دفء رجل تحبه حتى الثمالة!
تُرى.. هل رمتني الشيخوخة بدائها في سن مبكرة؟!
تشكيلها الإنساني.. يبلور تجربة عميقة في العمر، لأنثى داخل سياج، كانوا يسمونه في بدء عصرها: ((عش)) الزوجية.. ولم يجد في جنبات هذا العش: الأمان، ولا الحنان، ولا الفهم.. بل كانت تبحث في ذات مَنْ (عيّنه) أهلها زوجاً لها: عن ذلك التوحد العاطفي، والتكامل الإنساني.. سنوات طويلة، حتى تمردت أخيراً على ((العش)) الذي تحول إلى قيد، وعلى ((التعيين)) الذي أثمر للشركة: أولاداً، وبدد الحب والألفة: الأكثر عمقاً في هذه الرابطة الإنسانية!
واليوم... تُحس أنها صارت قاسية!
فهل كانت في الوقت الماضي: قاسية بطبيعتها!!
أم أن القسوة جاءت مخاضاً لكل هذه المعايشات لواقع بليد ومرهق، ومحاصر بتهمة العيب دائماً؟!
لم يعد هناك في حياتها اليومية، ولا في حياة من تعرفهم، ومن لا تعرفهم من مجتمعها.. ما هو: جديد، ولا مثير، ولا متطور، ولا مفرح... لم يعد ((الحلم)) غفوة بعض يومها، ولا التخيل الماتع للغد بعض ليلها.
حتى أنها فزعت من حقيقة جديدة في حياتها تقول:
ـ لقد انحسر عن حياتها الصديقات.. لم يعد لها إلا صديقة أو على الأكثر: صديقتان!!
صار لها برنامج يومي بليد، وسمج جداً... منذ أن تصحو من نومها قبل منتصف النهار بساعة، أو ذلك الحين.. وحتى منتصف الليل بساعات.
الجديد في حياتها قد انحصر تماماً في ((الكتاب)).. صارت مدمنة قراءة.
عافت مجتمعها المخملي، وحفلات السهر، واستعراض أحدث الأزياء.. وصرعات الموضة، والنميمة في الأخريات، والغمز بحكايات خاصة عن بعضهن... ولكل امرأة حكاية خاصة قد تقولها لأقرب صديقة إليها، وقد تحبسها في صدرها خوفاً من اللوك، والولغ في تفاصيل من الخيال!
* * *
* ولكن..... يبقى في حياتها حتى الآن: ذلك الرجل الذي دخلت حياته مع انتباهة سمعه لصوتها.
وصوتها كما وصفه هو لها: يوحي بدلالات، وينضج، ويحزن الأسئلة.. متمازجاً هذا الإيحاء مع فيض الصوت الآخر لها، هذا الذي يسكب دفء ((أنوثة)) محفوظة بحرص في خزانة العمر التي لم تسمح لأحد أن يقترب من رتاجها... وإن كانت قد سمعت طَرْقاً متلاحقاً على بوابة أنوثتها، وما زالت تسمع... وهي تكتفي بالإصغاء لهذا الطَّرْق، وكل غطاء أنوثتها جعلته ينساب من ابتسامتها.. ومَنْ اصطفته: منحته ضحكتها المتماوجة كبحر يستقبل سطحه شروق الشمس!
وتحنُّ إلى صوت هذا الرجل (فارس)، وتهم بالقيام حيث الهاتف لتطلبه، ولتسمع صوته، و.... ربما لتدعوه إلى لقاء ينتشلها - على الأقل! - من هذا القرف، والملل، وفساد الحلم، وابنطاح الحياة في إحساسها!
إنها تبتسم الآن في هذه اللحظة التي تسترجع فيها أصداء صوته، وهو يهمس في أذنها يوم اللقاء الأول بينهما:
ـ أشعر أنك ((الخطر)) القادم إلى حياتي.
أراك تتسللين إلى عاطفتي ولا تقتحمينها.. ((تتخشخشين)) حتى في حزني، وتمنحيني ضحكة التفاؤل.
تعاطفت مع ((تجربته)) التي أرهقه على امتدادها: الالتزام المضني والثابت عليه.
اقتربت من ((فكرته)) التي تراوده.. مع إيحاءات صوتها إليه بفكرة جديدة.
* وتسأل نفسها الآن في وحدتها، وقرفها.. وفي غياب صوته عن سمعها:
ـ هل أردت أن أستحوذ على العاطفة، والحزن، والتجربة، والفكرة.. بابتسامتي، وبضحكتي/ التفاؤل - كما كان يصفها - وبإصراري في ندائي على رجل.. أجد في سمعه، وفي احتواء نظرته لعمق عيني: ذلك الفهم المكمِّل لرؤيتي، وذلك الدفء الذي تفتقر إليه حياتي وحياته معاً؟!
تشعر الآن أن همومها لم تعد تنحصر في وجود رجل أو في غيابه!
لقد شكلت حياتها على نمط من استقلال الشخصية.. ولا بأس أن تعاني من الوحدة، ومن الصمت، ومن الصقيع.
لكنَّ ((القرف)) الذي يغمرها.. لم يكن بسبب افتقادها للرجل.
((القرف)) أكبر من ذلك، وأعمق... إنه ينبع من هذا التفريغ لعقول الناس.. ومن هذا التمدد الأفقي والرأسي للغرض، أو حصر الحياة في الغرض، والرغبة، والأنا.. ومن هذا الصمت الذي يسود أرجاء بيتها وحدها... ومن تفاهة الكثير من الممارسات!!
آهٍ ((القرف))... من تشويه معاني الحياة، وارتكاب ((الأخلاق)) كعقاب!
* * *
* لكنها - رغم كل ما تحسه من قرف - لم تكن فقيرة من الدفء.
لقد رأت نفسها مرة في ذات ((رجل)).. جذاب بمعانيه، وبشخصيته القوية.. كأنها سحر لها، وبأفكاره التي يستنهض بها طبيعة تطور الحياة!
فرحت بتقديره لقيمة الإنسان... وقد جرحه ذلك الاستنهاض في مراحل تجارب عمره، دون أن يركع إصراره في داخله.. دون أن يعطي حدبه وسعيه على درب اختطه ليحقق تلك المعادلة الصعبة والرائعة... بين الحياة ولو كانت بالموت، والموت في تفاهة الحياة!!
تلك ملامح ((رجل))... سرقتها فجأة من تأملاتها، ووحدتها.. واقتحمت بوابتها بشكيمة الرجولة.
لكنها.... ما زالت تشعر بهذا ((القرف)) يفيض من نفسيتها، ومن حولها.
وكأنها.... عادت مجرد ((أنثى)) تشبه الأخريات.. تفتش عن دفء الرجل من خلال لحظات تفريغ الرغبة، وتفريغ هموم الحياة، ولقسوة الزمان.
وتسمى هذه اللحظات: (الاحتواء) من الرجل لضعفها، ولحنانها الذي يشع من صدرها بلا حدود لمن تحب.. رغم شعورها في هذا (القرف) بأنها صارت: قاسية، وربما عنيفة أحياناً في ردودها.. وربما ((باردة)) كثيراً في تلقيها للعواطف، وفي منحها للآخرين.
* * *
* حادثها ((الرجل))... هذا الذي تغرقه كثيراً في عمق بحارها المتلاطمة حتى لا يتنفس... والذي يطفو أحياناً على حفافي نفسها، كأنه يتحدى بحارها وغرقها!
فوجئت بصوته عبر الهاتف.. يقول لها:
ـ لماذا أنت مثل الدنيا: متقلبة؟!!
ولا ينتظر ردها.. بل يقفل الخط بينهما، وتنهض هي من مقعدها إلى غرفة ملابسها، تتهيأ للخروج... وكأن صوته كان مجرد ((ورقة)) بعثها إليها بتلك العبارة فبادرت إلى تمزيقها لتخلص تماماً!
وهو.. كان يخلد إلى التأمل كثيراً.. لعله يستوضح أعماقه عن بعض ذلك الاندفاع نحوها.
حاول كثيراً أن يبددها في غيوم نفسه.
حاول أن يجعلها: غيمة راحلة إلى البعيد.. هي القادمة من الأبعد.
طعنها يومها في قلبه.. بخوفه عليها ومنها.. فقاطع سمعه صوتها، وغاب بعيداً عن بحثها عنه.
جعلها في عمره: ذاكرة مفقودة.
وطفق يبحث في ذاكرته عن عشرات الملامح، والابتسامات، وسوامق الأنوثة، ودفئها!
لكنَّ الزمان من خارجه.. أعادها إلى سمعه في داخله برغبتها ذات مساء.
ـ أراد أن يقول لها: ماذا تريدين الآن؟!
كانت قد أعلنت صوتها على سمعه عبر الهاتف: مرهقة، وأنانية.. تدلع نفسها على حساب شظف وجدانها الذي سعرت به في تلك اللحظات الحميمية جداً بينها وبين ((أنوثتها))!
وفي محادثة عودتها إلى سمعه.. خيل إليه أن صوتها يبترد في سمعه، أو ينسكب بارداً في الوقت الذي كان فيه يحس بكل حرائقها في الداخل.
كان يتملّكه شوق إلى استفزازها، حتى تستقر كلماته في معانيها، وحتى تعود النبرة المخبّاة تلك في صوتها الذي تحرص أن يشيع سمعه مرحاً، وانطلاقاً... نبرة حائرة يتمنى أن تهدأ، وتأمن في أحضان سمعه!
لكنَّ ذلك الابتراد ما لبت أن اشتعل في النظرة الأولى المباشرة بين عينيه وعينيها!
رآها - بحياتها - تقف على قرص الشمس في رابعة النهار... وأرادت منه أن يقف معها - في الحياة - على قرص الشمس لحظة الغروب!
لقد عبرت له عن احتياجها الآني له... وقد كان احتياج رغبة، واحتياج بوح... وهو دور مزدوج ومرهق للرجل، خاصة عندما (تفرضه) امرأة!!
ورآها - بجمالها - المبثوث في ضحكتها، وفي عمق عينيها الواسعتين، وفي سموق قامتها.. كأنها تمرجح عينيه، وتطوح برأسه في النظرة الأولى المباشرة له!
ولم يحسب أنها بتلك النظرة قصدت أن تثير التحدي في داخله، ولا أن تشهر في وجهه تحديها له بالدخول إلى جنون الخفقة المفاجيء!
لعلها أرادت أن تقيم جسراً سريعاً بين تفكيرها وتفكيره.. على الأقل في تلك اللحظة التي شهدت مولد النظرة الأولى المباشرة بعد سنوات الغياب، أو القطيعة، أو التناسي!
* ترى... ماذا تريد منه الآن؟!
ـ قالت له: لا أريد منك شيئاً مما تتلمظ عليه عندي، أو تطمح فيه!
أريدك حين أحتاجك فقط.. حين أشعر بعطش للحوار الدافئ مع رجل يبرع في الحوار!
* * *
* وماذا يريد هو منها بعد موجات القطيعة والوصال، والمدّ والجزر منها نحوه؟!
هل أصبحت - حقاً - كما وصفها أخيراً: مثل الدنيا... متقلبة، وباردة، مقرفة هي الأخرى في أكثر الأحيان؟!
وهل ((القرف))... هو الدخول في التقلب؟!
لقد شعرت أن صوتها - بالفعل - قد ابترد في سمعه.
صرخت بين جدران غرفة نومها:
ـ أوف... قرف، حتى الحب: قرف!
رن جرس هاتفها، وترددت في الإجابة على ندائه.
رفعت السماعة.. وهي تسأل بحدة:
ـ مين يتكلم؟!
ـ قال بصوت مسموع في أذنيها: لا أنا أريد منك، ولا أنت تريدين مني شيئاً... لقد انتهى بيننا ذلك ((الاحتياج)) الشديد!
* قالت له بسخط: قرف... حتى أنت قرف، مقرف!
ـ قال: لعل العبارة الأدق وأنا أتجاوز شتيمتك... أن في داخل كل منا إرادة متحدة على شيء.. على حلم، على أمنية، على حوار يطول ولا يتقطع، ويتجذر ولا يقتلع.. على رغبة تنتهي بزوال الاحتياج الآني!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :925  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 162 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.