شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الثامن: إغماءة...وتقاعد عاطفي!
* دخل ((فارس)) بهذه الحبيبة / سارة إلى ذاكرة الحلم.. فلم يعد يدري الآن: هل هي حبيبته؟ هل هي عنوان فرحه؟... أم أنها: هذا الجمال الذي يكثف رغبته في البكاء خوفاً من فقدها في كل مرة؟!
في بدء معرفته بها.. كانت ((صغيرته))، ذات السبعة عشر عاماً، وكان هو في السابعة والعشرين... هدهدها، وركض ورائها.. أحبها حين كانت تعامله بمعنى في قصيدة للشاعر ((هنري ميشو)) قرأَتْها عليه ذات ليلة:
- ((أمسيات.. أمسيات
كم من مساء لصباح واحد))؟!
كان هو في بعض الوقت: أماسيها.. وكانت هي في كل الزمن: صباحاته وأماسيه معاً.
والأمسيات: أروع، والصباح: بداية... فمزج فيها الأمسية بالصباح، فإذا هي تتشكل في حياته: لوحة الحلم... كأنها بغرستها في عمره تصبح هي: تاريخ ذلك العمر.... وحدها.
كانا يتحدثان في زمن التعارف، ثم اللقاءات غير المنتظمة.. عن الحب: قُبْلة، وشهوة، وامتلاكاً أو استحواذاً... جنون رائع ذلك الحب، كنا - معاً - يختتمان به أمسياتهما التي كانت حبلى بالشجون وبالوله.... فأين هما الآن من ذلك الجنون؟!
قصيدة.. إحساس.. نفس مبعثرة.. أحلام تحترق كالسيجارة بسرعة!
ثم.... مغادرة هذا الفرح المختلط بدمعة، بصمت ما بعد الوداع، أو الغياب، أو القطيعة منها له... لكنهما عاشا ذلك العمر بانحياز شديد منهما إلى الفراشات التي تحوم حول اللهب، وتتحاشى أن تحترق!
هي هذه ((اللذة)) التي قال عنها شاعر الهند / طاغور: ((ابتغوا اللذة في الألم)).
أما في هذا الزمن / ((الواقع)).. فلم يعد أحدهما يحدِّث الآخر عن الحب، ولم يعد يستمتع باللذة في ابتعاد كل منهما عن الآخر... صار الحب - في مجتمعهما - من الشبهات!
- قال لها ذات مساء وهي تتوجس من لقائهما: تصوري.... أي إنسان تغتصبه الشبهة بالحب، أو الاشتباه بالحب (؟!).. وإذا سطعت لحظة حب بيننا، أو من ظروفنا: ركضنا خلفها مثلما يركض الناس في المناطق الباردة نحو البقعة التي تنتشر فيها الشمس، ولو.... لدقائق!!
يذكر ذلك المساء الذي التقيا فيه، و ((جدة)) / المدينة: يغرقها المطر.
كانت للمطر رائحة متصاعدة من الأرض، وهو يحب رائحة المطر... تقابلا، كل منهما احتل طرف الكنبة المستطيلة، والفراغ بينهما شاسع كالفراق...
لم يتكلما في ذلك المساء إلا بكلمات قليلة مقتضبة تبادلاها، وبقي كل منهما صامتاً في مكانه.
ـ سألها قبل الصمت: ماذا فيك؟!.. نفسيتك الليلة تبدو كسماء جدة، عليها غيوم!
* أجابت باقتضاب: لا شيء... كل ما في الأمر أنني غير راغبة في الكلام معك!
- سألها: هل يعني هذا أن أمشي.. أتركك الآن؟!
* قالت: لا... لا أعني رحيلك، ولكن لو أردت أن تمشي.... إمشي!
كان متأكداً أنه لم يغضبها تلك الليلة.. ربما كانت غاضبة من أحد غيره، من شيء ما.. وربما هي ليست غاضبة ولكنها تبدو مثل المكتئبة.
طبعا..ً لم يخرج تلك الليلة من عندها، أبقاه إصراره على قراءة أعماقها حتى يعيد البسمة إلى شفتيها!
* * *
* الليلة... تذكَّر ذلك الموقف الذي تقادم، وضحك في الموقف الجديد الذي تميز هذه المرة بالمرح.. مرح ((سارة)) في قمة نبرة الحزن التي لاحظها في صوتها.
لقد عادت البارحة - فجأة - من رحلتها الطويلة، وانتظرت إلى الليلة التي تلتها - هذه - لتكلمه، وتعلن له خبر عودتها.
ـ سألها: لماذا لم تتصلي بي لحظة عودتك؟!
* قالت ضاحكة: ((يمكن... لأني ما أبغى أكلمك البارحة)).
ـ سألها: لماذا... ما هو السبب؟!
* أجابت: بدون سبب.. يمكن ما لي نفس!
ضحك من أسلوبها... فهذه لقطة طريفة من تجلياتها معه!
لديها تعبيرات تبدو جديدة في تركيبها، تفاجئ بها المستمع لحوارها معه.
هو لم يحبها طوال السنوات التي غذَّت بهما في العمر فقط... بل شعر أنها (ضرورة) هامة في حياته... حتى في قطيعتها المتكررة.
كان ((فارس)) يظن أنها تقتل الحلم في نفسه، أي أنها: تقتل نفسها في داخله لأنها هي حلمه.
عرف تأثيرها العميق، التوحُّدي في قلبه... وها هي نفسه تطيب الآن من الحالة التي أغرقته أثناء سفرها.
في قطيعتها المتعددة.. لم يفكر - مجرد التفكير - في نسيانها، لأن حضورها في ذاته يمثل تشكيل لحظات الصدق... لم ييأس من وصالها مجدداً، ولا من طلوعها - فجأة - كشمس بعد أمطار غزيرة ورعود وبروق، لتقول له عبارتها الدائمة:
ـ ((ها... إيش أخباراتك، إنت ما مُتْ))!!
الآن... اختلف تقييم الذاكرة فيه، ولكن... لن يستطيع أحد أن يعبث برعشة الحب، فهل تصورت ((سارة)) يوماً؛ أنه يطاردها كظله؟!
أحبها منذ ذلك الزمن، وفي ذلك العمر المتلع بالشباب.. ولم يشعر في لحطة ما: أن حبه لها يتعرض للنسف من امرأة غيرها.. لا من اللواتي حاولن اقتحامه عنوة لاغتصاب مشاعره، ولا من اللواتي عبَرْن لحظاته المؤقتة.
يسترجع أبعاد معاني عبارة ((فيكتور هيجو)) لحبيبته جوليات القائلة:
ـ ((كم هو الحب عقيم.. إنه لا يكف عن تكرار كلمة واحدة: أحبك.. وكم هو خصب لا ينضب، فهناك ألف طريقة يمكنه أن يقول بها الكلمة نفسها))!
في يده رواية أهدتها له ((سارة)) من سفرها.. توقف عند عبارة فيها، وقهقه وهو يقرأها بعد أن وضعت له تحتها خط:
ـ ((أريد أن أحال إلى التقاعد العاطفي... أيمكنك أن تبلّغي قديسك طلبي هذا))؟!
حقاً... هل تتقاعد العواطف، ويكف القلب عن الحب وهو لم يمت بعد؟!
* قال: صدقيني لا أعرف.. كنت أقرأ في هديتك/ الرواية، وتوقفت عند عبارة إحالة الإنسان إلى التقاعد العاطفي، ضحكت، ثم بلَّمت... شيء من القرف سكنني منذ فترة، وأخذ يحفر بين ضلوعي وحتى في أفكاري: خنادق وحفراً ومتطلبات.. شعرت: أنني ((وحيد)).. أن الحب مخطوف، والفرح ملطَّخ بكميات هائلة من المساحيق.. وأن الحلم أفسدته بشاعة وقسوة الحياة المادية، وغير المستقرة.. فلا الزمان هو الزمان، والمكان تشيع فيه غربة النفس والروح.
أحس أن خيبات الناس - في واقعهم اليوم - تتكاثر ولا تتفاعل لتتغير... والأعياد: ممنوعة، ومطلوب من الإنسان - المعاصر/المعصور - أن يتبرأ من كل خطوطه المستقيمة، ويركض في أزقة ملتوية الدروب.
صمت هنيهة، وهي تصغي إليه.. قال:
ـ لماذا لا تردّي عليّ... ناقشيني، غيرك لا يستطيع أن يفهمني، ويعجز أن يُفْهمني.
* قالت: إني مصغية... حزنك هذا هو حزني، وينبغي علينا - بأمر الواقع! - أن نعاني منه في السر، أو نجعله كالحب وكالحرية: سرياً!
ـ همس: أحبك... حتى لو ساد صمت بيننا، ولكني أرجوك - بأمر الحب - أن تبقي هنا في كوكبي ما بين غروب الشمس وشروقها.. لا تسافري حتى لا يكرُّ عليّ النزيف.
* قالت: ((برغم أن الدنيا ما زالت تحفل بتواجد أناس صادقين جداً، لكن... حين نتكلم مع بعض، أشعر أنني وأنت فوق الناس كلهم، ويمكن أَصْدق منهم.. حتى لو كان الناس يقولون مثلنا)).
ـ قال: تنقلينني دائماً إلى عالم أجمل.. عالمي الذي أبحث عنه من زمان.. تنقلينني إلى أعماق نفسي، وإلى نصاعة تفكيري، وإلى نقاء عواطفي... وحدك أنت التي أتوحَّد فيك وأتوحّد بك!
* قالت: أحس بك.. أنت تعبان، شيء طبيعي أن تتعب، لكني أحس كلما حدثتني عن نفسي وعنك وعن الحب، كأنك تريد أن تسجنني... في كلماتك، وفي رسائلك إليّ: عواطف كثيرة تنتشلني من هذا الضجر على الأقل (!!) وأحياناً - أصارحك - أتأفف منك، أقول: ((أنت تريدني علشان ما تطفش وبس... أقعد أشوف حالي بيني وبين نفسي حتى أقدر أيضاً أشوف حالي على الناس وليس بينهم!!.. أحس بيني وبين نفسي أني أحسن من الناس.
لا تقاطعني من فضلك.. سأحدثك عني. ها؟!
مطلوب مني أن أكون ((سمبوطة)).. يعني: مبسوطة.
أنا من زمان: أحزاني سرية حتى لا أضايق كل مَنْ حولي.. والشيء الوحيد الذي أقدر أن أعلنه هو: فرحي.. دائماً أظهر للناس أني مبسوطة حتى لو لم أكن كذلك.
حين أستعد لزيار أمي، ولرؤية طفلي الوحيد، وللقاء صديقاتي... أعمل نفسي مبسوطة، فقط... حتى لا أجعلهم يتضايقون مني أو بسببي.
أنت تحدثت عن ((الإغماء)).. وهناك فئة لا تقدر أن ترتفع إلى مستوى الإغماء الذي أحسست به وحدثتني عنه.. اختاروا برغبتهم أن يخدروها - نفسهم وحياتهم ووعيهم - والبعض يستعمل المخدرات!
هناك ((ناس)) كثير عرفتهم في أول حياتي.. صاروا اليوم: إما متبلدين تراهم يمشون كالقطيع، أو هم خدّروا أنفسهم حتى أغمي عليهم.. وبعضهم: اتجه دينياً، أو هكذا ينعتون اتجاههم - بتطرف شديد - لماذا؟!... لأنهم يحتاجون أن يتمسكوا بشيء، ولا يمكن أن نلوم أحداً... جيل كامل عنده إحباط واكتئاب.
وتعال.. نتفرج عليهم هنا وهناك - في غير مجتمعاتنا - في أميركا وأوربا... كنت جالسة أتفرج على حفل ختام الأولمبياد، وكان حفلاً جميلاً، ولكن... لا يمكن لتلفازات العرب كلها أن تعرض الحفل من طقطق لسلامو عليكم.. وهمست لنفسي لحظتها متسائلة: لماذا لا نعبر نحن أيضاً عن أفراحنا.. نتحرك، ونقف، ونرقص.. ولماذا نحاول أن نتعامل مع أفراحنا بخجل شديد كأنها سرية؟!
هل لأنه ممنوع علينا أن نفرح؟!
نلاحظ إذا ما ابتسم أحدنا... تلاحقت وراء ابتسامته الأسئلة: ((إيش فيك.. لماذا تبتسم))؟!.. حتى تشعر أن الابتسامة: قلة أدب!
أيضاً.. لا تقاطعني من فضلك، دعني أفضفض!
ضحكت وأنت تتكلم عن ((التقاعد العاطفي))... يمكن الواحد يستقيل، أو - على الأقل - يأخذ إجازة من الحب (!!) الحب يبقى في داخلنا: ذكرى حلوة.
التعايش: استمرارية الحب.. إن الحب لا يموت حتى لو انعدم الاتصال، وربما هذه مشكلتي!
مشكلة الواحد منا: ليست هي الحب، فمن حق الإنسان أن يحيا هذه المشاعر الجميلة، في مقابل أنه أيضاً قد يحرم منها.. المعاناة في الحب بكل ما فيها فهي إحساس لا يهون!
أنت تحدثني عن ذكريات لنا مضت.. أدعوك أن لا تتمسك بالماضي، ولكن... دعنا نغرس ذكريات في تربة هذا الحاضر.. وما أُعبِّر عنه ليس هو التمسك بالماضي، بل هي: الاستمرارية!
خلاص... انتهت خطبتي، فهل لك من تعليق؟!
كان ((فارس)) يطرد وراء تحليلها، وتوصيفها، وآرائها... كأنها جرّته وراءها ليلهث.
ـ قال لها: لماذا تحاولين أن تغمضي قلبك، وتصيبي عقلك بكدمات من أفكار الاكتئاب؟!
كأنك تحولين قلبك إلى (مقبرة).. تضم رفات من أحبَبْتهم وأحبوك، وصرت تتعاملين مع هؤلاء - برفضك للتمسك بالماضي - بأنهم ((موتى في قلبك))، ولا بد أن تقومي بعملية مسح بين كل فترة وأخرى للاطمئنان على موتهم في قلبك؟!
* قالت: أسألك الآن.. هل أنت تحبني علشان الحب، وأنا.. هل أحبك، أعشقك، أم لأنك - فقط - تثريني عقلياً (؟!)
لا بد أن أقول أنك تثريني عاطفياً أيضاً........
ـ قاطعها: وعطائي هذا لك... الا يثريك عاطفياً؟!
* قالت: ما أدري... يمكن أيوه، يمكن لأ!!
أحس أن قلبه شهق مع إجابتها... كأنه يقول لها وللزمان معاً:
ـ أرجوكما... كُفّا عن الدوران في حياتي!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1141  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 156 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.