شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فقط...غيرتها!
تذكَّر وهو يمسح شوارع المدينة بإطارات عربته أنه مدعو هذه الليلة على العشاء.
إنه متردد.. لا يرغب أن يلبي هذه الدعوة. لقد سئم الليالي المتلاحقة التي يجد فيها نفسه كل ليلة يقود عربته ويتجه إلى بيت من بيوت أصدقائه، ولكن... كيف يقتل الملل؟!
كان يحرص على الحضور قبل الآن.. لا تفوته دعوة، فهو يعتقد أنه يغير مناخ نفسه، ويلتقي بأصدقائه، ويتفرّج على شرائح بشرية متضادة، ومتلونة.. غريبة، وقريبة.. ذات مضمون، وهشة!
هذه الليلة، والليالي التي سبقتها.. كان يشعر بالعزوف عن مثل هذه الدعوات.
كان يقول لنفسه: الناس يجتمعون للسلخ، وليأكل بعضهم بعضاً. الكلام المباح في هذا العصر.. هو الذي ينال من تصرفات الناس وسلوكهم وخصوصياتهم..
كان يتوق أن يراها هي وحدها... إنها كل الناس، وأضواء الدنيا، وصفاء نفسه.
في أول المساء لم يجدها.. كأنها اعتزلته من جديد.
شعر بالضياع، المدينة الكبيرة التي يطوف شوارعها، تبدو مثل حوت كبير يلتهمه، ويغيبه في جوف داكن.. حتى نفسه في داخل هذا الجوف لم يعد يحسن رؤيتها، لكنه يراها ((هي)) دون نفسه، ودون المدينة الكبيرة، ودون العالم. أين يذهب إذن.. وهو لا يريد غيرها؟!
ضاق صدره أكثر. أخذته الشوارع الطويلة والعريضة إلى مسافات غير محددة، ولا مرئية. وحاصره الإرهاق النفسي.
لفْ مقود عربته، واتجه إلى بيت صديقه الذي دعاه.. فالوقت طويل ممل.
اتخذ ركناً في المجلس المحتشد بالضيوف. تطلع إلى الوجوه أمامه ومن حوله.. إنه لا ينفر منها، فالكثير هنا من أصدقائه.. لكنه هذه الليلة بالذات كلما أغمض عينيه وفتحهما.. رآها هي.
مال نحوه صديقه الذي بقربه يسأله:
ـ ما بك.. أراك شارد الذهن. متوعكاً، وإلا... ((اللي آخذ عقلك مين))؟! تنبه، ابتسم، لم يشعر برغبة في الإجابة... استغرق في الصمت، وسؤال صديقه يلكزه كصدى.
كان يود لو يبوح. لو يقول له: أحبها هي فقط. لو يسكت كل هذا اللغط في المجلس، ويقول للحضور بصوت عال: إنني أحبها. أريدها.. وحدها فقط!
ـ مجنون أنت!
عامل نفسه بهذه العبارة من أعماقه. ابتسم مرة أخرى لصديقه الذي مازال يتطلع إليه مندهشاً:
ـ يبدو أنك متعب. استأذن لترتاح في بيتك.
تسللت عبارة صديقه إلى صدره، لا إلى أذنه، أحس أنه يختنق بالفعل، تسلل من مقعده، وناداها من غرفة مجاورة لصالون الضيوف.
ـ هذه المرة أجابت. سألته: أين أنت؟
ـ قال: طلبتك عدة مرات.. أين كنت أنت؟!
ـ قالت: ذهبت أزور عمتي.
ـ قال: تحبين عمتك أكثر مني؟!
ـ قالت: أين أنت.... من عندك؟!
ـ قال: أنا عند صديقي، وليس عندي أحد.
ارتفعت هذه اللحظة ضحكة عالية.. أطلقها واحد من الضيوف السهارى. طلبت منه أن يصمت. كانت تصغي إلى الضحكة المجلجلة.
تبدلت نبرة صوتها. سألته ثانية:
ـ من معك في المجلس... تكلم؟!
ـ معي أصدقاء من كل لون فرّقنا!
ـ لا تمزح من فضلك.. قل لي من معك في الجلسة؟
ـ عجيب!.. هل أذكر لك أسماء كل الرجال؟!
ـ أيوه.. وحتى أسماء الحريم أيضاً!
ـ حريم؟!.. ليس معنا حريم، كلنا رجال.. جلسة رجال لا يمكن أن يكون فيها حريم.
ـ أنت تكذب.. سمعت صوتاً نسائياً يضحك!
قهقه في الهاتف، كيف تخيلت ذلك؟
ـ قال لها: الذي كان يضحك رجلا.. ربما كان صوته رفيعاً بعض الشيء.
ـ قالت: لأ.. أنت تكذب. تركتني وذهبت لتجلس مع النساء..
ـ قال: أقسم لك.. لا يوجد بيننا نساء. بعدين.. تعرفي أنك كل النساء عندي.. لم تعد هناك امرأة تستهويني سواك، ولا يملأ عيني إلا وجهك وعيناك. صدقيني.
ـ قالت: لا تحلف. صوتك مليان كذب. صارحني وسأسامحك.
ـ قال: يا عيوني أنت.. صدقيني. إنها دعوة عشاء للرجال فقط.
ـ قالت: خلاص. اسمع.. إنت ودك تتركني، لا ترغب في استمرار رابطتنا. خلاص، فليكن.. أقفل الخط، مع السلامة.
ـ قال: لن أقفل الخط. وأنت مجنونة وربي. هذه مجرد شكوك. أنا ودي أتركك ليه وأنا أحبك.. لا أقدر أن تبتعدي عني.
ـ قالت: وأنا لا أحب أن يخدعني أحد، أو يضحك علي.
ـ قال: أنا لا أخدع حبيبتي. وعلى العموم.. إذا كانت رغبتك إني أقفل الخط، فليكن.. لأن التفاهم معك الآن صعب. مع السلامة.
ـ قالت: لأ.. أرجوك لا تكذب علي. مين الحريم اللي معاكم؟!
-- قال: من فضلك.. أنا الآن في طريقي إليك.
ـ قالت: لأ... أرجوك، نفسي أنام.. لكن أخبرني: مين الحريم اللي عندك؟!
ـ قال: يبدو أنك متعبة بالفعل. اقترح عليك أن تنامي لتتخلصي من هواجسك وظنونك.. غير معقول هذا الذي تفعلينه بي. أرجوك.. كفي عن شكوكك، فأنا لا أحب غيرك. بل لم أعد أرغب أن أحب غيرك.. أنت خفقتي، وفكرة عمري.
* * *
تسلل من مجلس السهرة. كاد يطير بعربته إليها.
لم يجدها خلف الباب. فتح له الخادم، ركض يطوي سلالم الدور الأول. رأته يقف أمامها في وسط الغرفة. أصابها الذهول حتى عاقها عن الحركة والوقوف.
كان ينظر إليها مغتاظاً، ومشتاقاً.
كانت تحدق إليه غير مصدقة. مدت إليه يدها، واحتوت يده، ثم جذبته إلى جانبها.. قالت:
ـ جنونك هذا لا تحسبه يؤكد لي حبك!
لم يجبها... أخذ يحملق في وجهها. يتأمل عينيها العميقتين كسّر.. السوداوين كليل يشع فيه قمر منتصف الشهر.. المتحديتين لأشواقه، ولصبره، ولتدفقه هذه اللحظة.
ـ سألته: تعشيت؟!
ـ أجابها: قرأت لك مرة شطراً من بيت شعر يقول: ((يدمرني وقتك الذهبي... فتنتشرين سلاماً وبرداً على وجع الروح... أرجوك يا نخلة الروح فكي قيود حصاري))!
ـ قالت: أنا أحاصرك؟ إذن.. تخلص من حصاري لك هذا الذي تزعمه، وليذهب كل منا إلى حال سبيله!
ـ قال: كأنك ترغبين في ذلك، وتريدينه مني أنا.
احتوت يده بيديها. نظرت إلى عينيه. قالت:
ـ الآن.. لا أقدر، لكنك أنت لو فعلت ذلك، فلا بد أن تحدَّني عليه.
ـ قال ضاحكاً: هذه مراوغة يا حبيبتي. أنا لن أتركك حتى لو طلبت أنت ذلك... ها، ما رأيك؟!
نصبت قامتها الفارعة، وتموّج جسمها الممتد كنخلة شهية مثمرة.
مدت إليه يدها تجذبه هذه المرة ليقف. مشى وراءها إلى طاولة العشاء. جلس أمامها يتطلع إلى عينيها. أخذت طبقه وملأته له. كان يلوك اللقمة ويلتهم وجهها.
وضعت أمامها طبقها وفيه القليل من الطعام، وكأنها لا تريد أن تأكل. رفعت ذراعيها ووسدت ذقنها على كفيها، وهي تُخالسه النظر، وهو لا يأكل وإنما يحاول أن يشبع من عينيها ووجهها.
تلون وجهها بالخفر. ابتسمت بشعور السعادة. قالت له:
ـ لا تتطلع إلي بنظرتك هذه. قلت لك إنها نظرة غير عادية، تجعلني أضطرب، أرجوك تعشىّ.. ألست جائعاً؟!
ـ قال: أنت غذائي الحقيقي.
ـ قالت: لكنك ((تحوسني))... لا تجعلني أعرف كيف آكل!
ـ قال: نظرتك كأنها تصدني عن التعمق في عينيك، وفي نفس الوقت تطلب مني أن أستغرق في العينين. في عينيك: الحب والهروب.. الفرح والحزن.
لم تبهت ابتسامتها. غابت قليلاً خلف شفق من الحزن، ثم تربعت فوق شفتيها، وانهلّت من عينيها. وشاع الخفر في أرجاء وجهها.
تركا طاولة الطعام. أحاط خصرها بيده: أراحت رأسها على كتفه، همست:
ـ ((قل لي... ويش اللي حدّك تحبني))؟!
ـ أشياء كثيرة... أهمها أنك دورة تاريخي. وجدت فيك شبهي. وجدت عندك ارتوائي وتكاملي. أفكارنا تتشابه أو تتقارب.. حتى حين نختلف، يكون اختلافنا وقوداً أشد لاقترابنا.
ـ لكنك ما تحبني.. اعتبرتني معركة لتنتصر فيها!
ـ انتصر على من.. عليك أنت، أم على الذين أحبوك؟ إذا كان التصور الآخر، فلا بأس.. لكنك تحبينني، والانتصار عليك هبل، لأنني أريد أن نصبح معاً إنساناً واحداً. أنت فقط تغيرين، والغيرة عند المرأة تعني الحب.
ـ ودك تطمئن أني أحبك، وبعدين تتصور أني أركض وراءك.. هذا ((هبل)) منك. أنا لا أركض وراء أحد، لكن الناس يركضون ورائي.
ـ حتى هذا الذي تقولينه ((هبل)) آخر.. لأن الراكضين قد يطمعون في شيء واحد فيك، لكني أنا أركض وراءك كلك.. أطمع حتى في تناقضاتك، وجنونك. لا تظني أني غضبت من غيرتك.. بالعكس، فأنا سعيد، لأن هذا يعني حبك الشديد لي.
ـ أنا ما أحبك.. خلاص لا تصير مغرور. لا توجع رأسي بمبرراتك وملاحقتك لمعرفة شعوري. هذه لقافه منك!
ـ بل أنت تحبينني.
ـ أنت ما تتعب. بليتني. صحيح أنك تُهْمَتي، لكن.. لازم نبعد عن بعض.
والسبب؟!
ـ ما أدري.. أنت ((لخبطت)) كل حياتي.. حتى لما ودي أقرأ ما أطيق.. ألاقي نفسي أما أفكر فيك، إما أعيد قراءة رسائلك، إما أكلمك. صديقاتي ((يتساءلون))...
ـ (قاطعها ضاحكاً): على رأي ((عَبْحليم)).. يتساءلون، يتهامسون، يطقون، يطسون.
ـ كنت أقول لك: ((أظن)) إني أحبك.. لكن الآن ((ابتلشت)) خلاص.
ـ نادمة أنت يا عمري؟!
لم تجبه... شردت بنظراتها بعيداً. أعطاها حرية التفكير أو التأمل، وبقي شاخصاً نحوها.. والدقائق بينهما موال زمن. زحفت يدها ببطء حتى بلغت يده، واحتوتها في صمت. ودقت الساعة منتصف الليل!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2322  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 131 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتورة مها بنت عبد الله المنيف

المدير التنفيذي لبرنامج الأمان الأسري الوطني للوقاية من العنف والإيذاء والمستشارة غير متفرغة في مجلس الشورى والمستشارة الإقليمية للجمعية الدولية للوقاية من إيذاء وإهمال الطفل الخبيرة الدولية في مجال الوقاية من العنف والإصابات لمنطقة الشرق الأوسط في منظمة الصحة العالمية، كرمها الرئيس أوباما مؤخراً بجائزة أشجع امرأة في العالم لعام 2014م.