شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
فقط...نفسها!
كبرت الدمعة في عينيها... حتى تحولت إلى صوت.
وقد أوغل الليل في مشواره.. حتى يمتزج بالفجر، ويذوب فيه.
واضطربت أحاسيسها في صدرها.. حتى ضجت الأضلع بذلك النشيج الذي همهم به صوتها، وقطّر دموعها.
وانزلقت الدمعة التي كبرت.. من عينيها الواسعتين كبحر، المتوهجتين تلك اللحظة بحزن غامر.
ولمعت الدموع فوق خديها في ظلال الليل.. كمدار يستحوذ على فرحة بها، وبقربه منها.. فيطوي الخفقة في موجة قلق.
احتوى وجهها بين كفيه.. وهو فعل مضطرب ما بين الخوف عليها، والحيرة منها.
تأمَّل عينيها الحزينتين، المخضلتين بالدمع. مرر أصبعه بلمسة يمسح بها آثار الدمع.
خذله الاستنباط لذلك الشعور المفاجئ منها نحوه.. وهي تعاني من عصف الحزن والغضب بها. تموهت قراءته لنفسيته تلك اللحظة!.. جعل سؤاله همسة:
ـ ماذا حدث.. حتى تتذكر عيناك دمعة، ظننتها فارقت حدقتيك منذ التقينا؟!
أسدلت جفنيها هروباً من عينيه، حتى لا يرى دموعها.. حتى لا تلتقي عيناها بعينيه.
دائماً تقول له كلما أمعن النظر إلى عينيها:
ـ أرجوك.. لا تتطلع إلي. عيناك تجعلاني أضطرب.
خفضت رأسها.. كأنها تود أن تزرع هذا الرأس الجميل في صدره وترتاح.
أعاد سؤاله قلقاً:
ـ يا عمري.. تكلمي. هل أغضبتك؟!
هذه اللحظة.. يقرأ في عينيها كراهية له.
ـ أنت غريبة. متقلبة المزاج أحياناً. قبل قليل كنا نضحك. كنت تمتلئين بي، وكنت أفيض بك. فجأة.. أرى هذه الدموع. هذا الحزن. هذا الرفض المتوتر لوجودي معك.. فهل ترغبين أن أخرج، وأترك لك المكان لتحادثي نفسك؟!
فزعت من اقتراحه. تشبثت بيده. قالت:
ـ لا... أرجوك لا تخرج. إبق معي.
ـ وإذن.. كيف أفسر هذا السلوك المتناقض منك نحوي.. ترفضينني، ثم تطالبينني أن أبقى.. تنفينني وتريدينني؟!
لم تجبه... كانت تركض على امتداد الغرفة، مجنونة، متوترة، حزينة. وجهها مازال يعكس لمعة دموعها.
ـ خيّل إليه أنها أغلقت قلبها دونه هذه اللحظة، وقذفت بحبه في العراء.
ـ كيف يكره فجأة من يعشق؟!
حمل نفسه من الغرفة إلى الصالة، وأخذ يرتدي ملابسه. هرعت إليه تشده نحوها. كانت تلح عليه أن يبقى.. أن لا يتركها فريسة لهواجسها.
ـ صدرك المشكلة، ألْهم، السؤال!
خاطبته بهذه العبارة.. ثم ارتدت إلى صمتها، ودمعتها.
ـ صدري أنا؟!.. إنه أسوارك التي تحميك من الرعود والشهب والصواعق.. ما به صدري، ماذا فعل بك؟
سألها حائراً... فهو يخاف عليها من أن تجرحها نسمة.. يخاف عليها من نفسها وتقلبها.. يخاف عليها أيضاً من تعمقها في قلبه.. من نفسه يخاف عليها.
ـ أجابته: صدرك حيرتي، وشكوكي!
ـ عدنا للشكوك والظنون من جديد.. حاولت أن أؤكد حبي لك في كل لحظة.
ـ أصارحك.. أنا أخاف منك، أشك فيك.. وتقتلني فكرة الابتعاد عنك. يمحلني مجرد التصور لغيابك عن دنيتي.
ـ وإذن؟.. ما هو داء صدري فيك؟!
ـ أنت تريد أن توقع بي.
جرحت قهقهته سكون الليل. ظن أنها تمزح.
ـ قالت له: لا تضحك.. وأنا لا أمزح.
خدشته لهجتها الجادة والحادة. قال:
ـ طالما أنَّ شكوكك بلغت فيك إلى هذه الدرجة، فاتركيني أمضي.. أخرج من حياتك.
ـ هل تطيق هذا الخروج؟!..
ـ أنت تعرفين عمقك في وجداني.. فأنت قد اختلطت بدمي ونبضي، لكني أختفي من حياتك لترتاحي من الظنون والشكوك. يهمني أن تهدأ خواطرك.
ـ وِدَّك إني أرجع لحياتي الاعتيادية؟!
ـ لأنني فيما يبدو قد قلبت حياتك، وخلخلت نظامك الذي تعودت عليه طيلة السنوات الماضية التي غربتنا عن بعضنا البعض.
ـ لكني أريدك، فرحت بك.. لأنك ستعيدني إلى حياتي الماضية، وتذكرني بحيويتي، وانطلاقتي، وحتى بجنوني.. قلت لك أحبك مجنوناً، وأكون سعيدة بجنوني معك.
ـ وهذا التقلب ضدي.. لحظة أجدك تحبينني جداً، ولحظة أحس أنك تنتزعين نفسك من قلبك، أو أنك تشدين وجودي من أعماقك، وتحتارين.. كيف يمكنك أن تتخلصي مني؟!
ـ بس! أنا أحبك.. واجد أحبك.
ـ وأنا سأضيع في فقدك.. صدقيني. أرجوك لا تجعليني أفكر في كلمة قرأتها يوماً ما عن ارتباط الرجل بالمرأة.
ـ أرجوك.. قل لي هذه الكلمة.
ـ الكلمة تقول: إذا شعرت المرأة بحب قوي لها من الرجل.. عذّبته!
ـ لا تعقّدني من فضلك.. أنا أعذبك، وكيف أكون عذابك وأنا أحبك؟!
ـ لا أدري.. أحياناً أعتقد أنك تحبين نفسك فوق كل من تحبينهم!
اختلج صوتها.. احتدت نبرة الصوت. بهتت ابتسامتها. قالت له:
ـ صح.. أحب نفسي كثيراً.
ـ هذه أنانية.. أنت تحبينني لنفسك، أو لإرضاء نفسك.
ـ أهم ما لدى الإنسان نفسه. أنت أيضاً تحبني من أجل نفسك، لتسعد، لتستمتع بشعور ملأ كيانك.
ـ كأنك إنسانة أخرى الآن. دعيني أسألك: لو وقع لي حادث.. ألا تخافين علي... ألا تقلقين من أجلي... ألا تحاولين مساعدتي؟!
ـ لا أدري!!
ـ لو مت.. كيف تكون حياتك؟!
ـ عادية.. يمكن أحزن عليك لحظة الخبر.
ـ لماذا تشعرينني أحياناً بقسوتك، وأنت تمنحينني في وقت آخر كل حنانك؟!
ـ أسألك أنا.. إذا اندلع حريق في المكان الذي أنت فيه، وبجانبك ابنك وابنتك، والحريق أقرب لك.. ألا تسارع بالهرب؟!
ـ بل أفكر أن أنقذ ابني أو ابنتي.
ـ لكن الإنسان يقول دائماً: نفسي أولاً، أنا ثم الطوفان!
ـ صحيح أن الإنسان أناني.. لكنه عاطفي ومرتبط بهذه العاطفة. أمام من يحب يفضل أن يضحي، ويتعذب هو.. دون أن يعاني حبيبه. أمام أولاده.. يراهم قبل نفسه، بدليل أن الإنسان يفني عمره من أجل أن يكبر أولاده، ويصبحوا أحسن منه. عندما يمرض أحد أولاده يتعذب.. يتمنى الألم فيه.
ـ وبعدين... أولاده يرموه للإهمال، أو للشيخوخة.
ـ هذه نتيجة أخرى.. لا يمكن أن تعمّم صدق العاطفة وعفويتها.
ـ خرجنا عن الموضوع.
ـ نتكلم عن الحب الشامل. لكن.. يبدو لي أنك تودين لو كان حبك لي مؤقتاً.
ـ أرجوك لا تتهمني. أنا لا أتسلى.. أنا أحبك فعلاً.
ـ وفية الأنانية العالية هذه.. كيف أفسرها؟
ـ أنت تردد في سمعي دائماً قولك لي: أنت أنا، يعني هذا أنني نفسك، وأنك تحب نفسك.
ـ صحيح.. وقد قصدت أنك هدمت كل الحواجز، وألغيت كل التناقضات حتى تعمق هذا الشعور عندي بك.. بأنك أنا، أو أنك نفسي.
ـ إسمع يا أهبل.. أنا ما حبيت واحد مثلك.
ـ تقصدي إيه.. مثلي في الهبل؟!
ـ أقصد رجلاً ما، لم أحبه بهذا الجنون.. أنا مجنونة بك.
ـ تُرضينني.. أم أنها لحظة هدوء تغمر نفسك فتشعرين بحبي الآن؟!
ـ أعترف أنني أحياناً متناقضة، ولكن.. لا بد أن أصارحك بكل ما أشعر به.. حتى قلقي، وحزني، وإحباطي، وكآبتي.
ـ وأنا لا أرفض ذلك.. بالعكس، أريدك أن تفتحي قلبك. لو أردت أن أنبض بدلاً من قلبك في صدرك ليرتاح قلبك قليلاً.. لفعلت. يهمني أن تكوني سعيدة. تنسجم لحظات عمرك مع مد الحياة وجزرها.. لأنك نفسي.
* * *
أراحت رأسها على صدره... حين كان الليل يغذّ في الرحيل، يطوي معه ساعات مضت دون أن تعود بزمنها، ولا بملامحها. قد تتجدد في الغد الأحلى حين يتفاءل المرتقب، وقد يتحول الزمن إلى مساحة من الرمل تمتص حتى الذكريات!
((سكت الكلام)) بينهما... ولكن الخفقات بين ضلوعهما يعلو وجيبها.. كأنها تركض بهما مع رحيل الليل في لحظة استقبال الفجر، وميلاد يوم جديد.. يخاف هو منه، لأنه يتوجس من تقلّب نفسهما.. من رفضها ودعوتها.. من حبها له وتعبها فيه.
وتمهل هي النهار.. لا تُعيره اعتباراً، كأنها في ثمالة كل ليلة تقبض على خفقاتها، وأحاسيسها، وحبها له، وتعتقلها جميعاً في خزانة صماء لا يخترقها الصوت ولا الضوء.. حتى إذا عزف موكب الليل نشيده من جديد.. أضاءت وجهها بالحب، وغسلت صوتها بالشوق والنداء.، فيأتيه قلبها عبر صوتها:
ـ أحبك أيها المجنون. لا أحب غيرك.
لحظة بزوغ الفجر تولد.. وقد لبس هذا الوشاح القادم من بعيد نوراً.
وقفا أمام البوابة الداخلية.. يستقبلان الفجر، ويدثرهما وشاحه الفضي.
وسدّت رأسها فوق كتفه، وهمست:
ـ أنا أحبك.. لا تتركني.
ضمها إليه.. كأنه يريدها أن تخترق بكيانها كيانه، وتبلغ نقطة القلب، ويتأكد عندها حبه!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1277  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 129 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

وحي الصحراء

[صفحة من الأدب العصري في الحجاز: 1983]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج