شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رأسها في الجدار
* تملّك الخوف ((إلهام)) على زوجها بعد خروجه من السجن.. كان يقلقها ويخيفها.. هذا الصمت الذي يدخل فيه ساعة وأكثر، وربما يوماً بكامله.. دون أن ينبس بكلمة.. لعلها ردة فعل السجن، والتجربة القاسية التي عاشها، وعانى منها.. لعلها فترة محاسبة النفس على كل ما كان، وأودى به إلى وراء أسوار السجن.
ولم تحاول ((إلهام)) أن تناقش زوجها، ولا أن تسأله عن صمته.. لا بد أن تحتمله، وتهدهده.. وتحاول بذلك أن تغسله من الداخل.. لقد كانت التجربة/ الصدمة: قاسية عليه جداً، ويحتاج إلى وقت للتخلص من آثارها وترسباتها.. لكن الحياة العادية التي تعوّدتها هذه الأسرة.. لم يستطع أي فرد فيها أن يسترجع لحظة واحدة من لحظاتها.. تغيرت حياة الأسرة.. لا، بل نفسية كل فرد هي التي تغيرت.
الرأس/الأب: ((خالد))، المطلق سراحه من سجن الإعسار.. يشعر أنه قد دخل إلى سجن أكثر قتامة... كأنه لم يعد ذلك الإنسان القادر على تحريك وجه البحيرة، ولا على ملاحقة الهواء، واصطياد نسمة رقيقة.. يجمد بها تنفسه.
إنه مثل سفينة بلا صارية.. بيت تآكلت جدرانه.. لم يصارح زوجته، ولا ابنه وابنته.. لا أحد يحس أنه يحتمل مصارحته هذه!
سيقولون عنه: إنه مكتئب، محبط.. يتقطر تأنيباً، بسبب ما ارتكبه فأدخله السجن، ولذلك.. سيمر بهذه الحالة النفسية، ولا بد أن يشفى منها، لأنه قوي.. يعرف أنه قوي... لكن المرحلة القادمة من العمر: أقوى.
ـ لا... بل هي مرحلة أقسى، وأكثر تفريغاً للمعاني، وللقدرات.
حاور نفسه.. بواسطة ذلك الصمت الذي يدخله، فلا يخرج منه إلا على نداء زوجته، أو ابنته.. فيتنبَّه، ويسمع صوتاً يقول له:
ـ ما بك؟.. الحمد لله على كل حال.
زوجته تحاول أن تخفف عنه.. أن تنشله من غياهب الصمت والشرود.
ـ يقول لها: الحمد لله دائماً.. لكن الصمت ليس جريمة، بل هو نعمة وفضيلة في هذا الوقت!
ـ وهل سيطول صمتك؟!
ـ ما الفارق؟!
ـ الفارق كبير بين الصمت، وبين الكلام الذي يدفعك للحركة.. لتخرج إلى الناس، وتباشر حياتك وعملك.
ـ حياتي... عملي؟!
ـ هل تريد أن تبقى في البيت على طول؟!
ـ لهجتك تبدلت يا إلهام... كأنني أصبحت عالة عليك!
ـ هذا البيت سفينة نقودها معاً.. لكني أردت أن أخرجك من هذه القوقعة التي حبست نفسك داخلها.
ـ من حقي أن أتأمل قليلاً.. أن أفكر، وقبل ذلك: أن أشفى!
ـ وهل أنت مريض؟!
ـ مشاعري، وحوافزي.. تحتاجان إلى طاقة جديدة، تختلف كثيراً عن طاقتهما الأولى.
ـ لا أفهمك... ولكن لا يطول صمتك، حتى لا تنسى الكلام!
ـ ألم أقل لك أنك تبدلت كثيراً!
ـ لا تلمني.. أريدك أن تستعيد نفسك، وحوافزك، وقدراتك. أكبر خسارة للإنسان: أن يفقد نفسه، أو حتى يخرسها!
ـ ماذا أفعل؟!
ـ اسمع... عندي لك خبر عائلي سعيد.
ـ السعادة: أن نعرف كيف نحيا.
ـ لنتجاوز الفلسفة الآن.. إنه خبر يخص ابنتك عهد.
ـ أعرف.. ستقولين: إن شاباً سيتقدم لخطبتها.
ـ ومن أخبرك؟!
ـ وجهك، وطريقة إعلانك للخبر. من فضلك لا تحدثيني. في هذا الموضوع، واتركي ((عهد)) تكمل دراستها الجامعية.
ـ وإذا وافقت ((عهد))؟!
ـ إنها صاحبة الشأن.. فإذا رغبت، أكون مستعداً للتفاصيل.
ـ أمرك غريب!... كأنك تسلم كل شيء، ولا تريد أن تحمل معي أية مسؤولية؟!
ـ لأنني أعرفك.. ستلحين على ما تريدينه حتى نستسلم، ولأنني لست مهيئاً الآن لجدالك، فأنا متعب، ومازلت ألهث، وأنت لا تحسنين التوقيت.
ـ لا بأس.. سأتجاوز رأيك فيّ. لكن صديقتي ((ليلى)) نقلت إلي رغبة أهل العريس في زيارتنا لرؤية عهد!
ـ عجيب... هل هذا الأسلوب مازال متبعاً؟!
ـ العجيب أنت.. لا بد أن يزورنا أهل العريس، ليعرفوا كيف نعيش، وكيف نتعامل؟!
ـ هل سيسكنون معنا عدة أيام، لتتم لهم هذه المعرفة؟!
ـ إذا جاء أهل العريس، سيتحدثون مع البنت، ويتعرفون على حماة المستقبل، ولا بد أنهم أيضاً يكتشفون طريقة حياتنا.
تعرف؟!.. بعضهن يدخلن حتى الحمامات والمطبخ، قال إيه... علشان يعرفوا مستوى نظافة أهل البيت، وترتيبهم، وذوقهم.
ـ هذه استهانة بقيمة الإنسان. ومن يريد أن يعرف السلوك، فهناك طرق أخرى.
ـ لا بد من هذه الطريقة.. حتى لا يحدث الغش!
ـ غش؟... يبدو أننا تقدمنا في القشور والمظاهر، وحدث الانحطاط في الجوهر!
ـ المهم... بعد أن يشاهدوا البيت، وينقلون أوصاف العروس للعريس، ويوافق... سيأتي العريس مع أهله لخطبتها!
ـ الله أكبر عليكم!... والبنت، أليس من حقها أن ترى الرجل الذي سيشاركها رحلة العمر... (فتقلِّبه) هي الأخرى، وتفتشه، وتعرف مستوى نظافة أهله؟!
ـ من حقها طبعاً.. لا يحدث شيء إلا بموافقتها، ولكن.. عيب أن تطلب البنت مثل ذلك. إنها مرحلة ثانية.. يأتي فيها دور الرجال!
ـ يا سلام... ترى أي عصر هذا الذي نعيش فيه؟!
ـ طبعاً.. هو عصر التطور، والحضارة، والجامعات، والفضاء، والابتكارات، و.... الحداثة، والصَّرْعات!
ـ معلوماتك ممتازة.. فكيف تتعاملين عكس العصر؟!
ـ بالعكس... هذه المراحل توفر لنا التفكير، والتأنّي، والسؤال، والحصول على الأجوبة التي نريدها!
ـ وتبقى البنت، مثل السلعة... للعرض!؟
ـ أنت لم تفهمني.. ماذا يُنقص من البنت إذا رآها أهل العريس؟!
ـ تصرَّفي كما يحلو لك.
ـ لا تغضب... المهم أن توافق ((عهد)) على المبدأ!
* * *
لكن ((عهد)) لم توافق!!
تعلَّلت أن نفسية والدها وظروفه.. لا تسمحان الآن بمثل هذه الخطوة.. تعللت- أيضاً- بأن دراستها في الجامعة.. تتطلب منها تركيزاً، وجهداً، ومثابرة.
لم تقتنع أمها. لم تيأس... أخذت تلح عليها وتحاورها، وتطاردها، لتقبل الخطوة الأولى. لعل الشاب يعجبها.. لعله يسعدها.. لعله فارس أحلامها!
ابتسمت ((عهد)) لكلمات أمها.. استغرق التفكير وقتاً طويلاً من يومها وليلتها.. ومازالت تصر على الرفض.. ومازالت أمها تلاحقها لتقنعها.. أعلن عقل ((عهد)) الأحكام العرفية على مشاعرها.. صممت أن تواصل دراستها الجامعية.. أعلنت عاطفة ((إلهام)) الأحكام العرفية على رفض ابنتها.. وضيَّقت الخناق عليها.. وقفت تبكي أمام ابنتها، وهي تقول لها:
ـ فكري في مستقبلك. أبوك مريض ونفسيته متعبة. أخوك سيتخرج ويستقل ببيت وزوجة، وأنا... كبرت، وتكفيني المعاناة مع والدك!
ـ قالت عهد: مستقبلي في شهادتي وتحصيلي العلمي. المستقبل لا يضمنه زوج، أو شخص. كل إنسان لا بد أن يعتمد على قدراته ومؤهلاته العلمية.
طال الجدال بينهما.. استغرق أياماً وليالي.. حتى خضعت ((عهد)) في النهاية لبكاء أمها المتزايد، وإن كانت تشفق كثيراً على صمت أبيها!
حددوا الليلة التي سيستقبلون فيها أهل العريس. لكن ((عهد)) أصرت أن ترى الشاب، مثلما يريد أهله ويريد هو أن يروها.
ـ قالوا لها: هذا غير ممكن، ولكن في الخطوة الثانية بعد زيارة أهله!
ـ قالت: تقصدون.. بعد أن ((يقلّبوني))؟!
أعلنت حلاً وسطاً: لا بد أن يأتي العريس إلى أبيها يراه، وهي تقبل بحكم والدها!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :887  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 116 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج