شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الصمت.. قبل العاصفة
* لم تتجرأ ((عهد)).. فتواجه والدها بخبر ((فارس)).. وكما توقع ((فارس)).. فقد شهقت أمه، وخبطت على صدرها، وفرت الدموع من عينيها بفزع.
ـ قالت لهما: لا أقدر أن أخبر والدكما.. أخاف عليه، وهو معه السكر، والضغط.
ـ قالا لأمهما: وما العمل... لا بد أن يعرف؟!
ـ قالت: لا أدري.. أتركوني الآن.
ولم تعد ((إلهام)) تعرف كيف تتصرف.. أصابها حزن شديد، وبكاء.
إنها تتقطر ألماً على زوجها المهدَّد بالسجن بسبب ديونه... وعلى ابنها، وابنتها التي تريد لها أن تتزوج، وتحتمي برجل يؤمن لها المستقبل، ويفتح لها بيتها الخاص، ودنيتها.
إن نظرتها للحياة القادمة.. لم تعد متفائلة قط، مثلما كانت قبل شهور قريبة. وأحست أن جبال بلادها ورمالها.. قد انهالت عليها، ووأدت فرح هذه الأسرة وأحلام ((الأم)) في أن ترى أبناءها يرفلون في السعادة والنجاح.
أصبح ((الهم)) في قلبها.. يفوق أضعاف ما تساقط على ابنها، وهو يتلقى خبر الفصل والإنذار.. ويفوق أضعاف ما يعاني منه زوجها.
ونادت ابنها ((فارس)) من غرفته.. صارخة عليه، وقد ظنَّ أنها أبلغت والده.. فجاء إلى أمه مهرولاً، وهو ممتقع الوجه.
ـ قالت له: إذهب إلى السوق، واشتري لنا غداء.. لقد دلقت كمية من الملح على الأكل. بصيرتي أصبحت عمياء.. لم أعد أدري ماذا أفعل.. يقطع الخلف وسنينه!!
ـ سألها فارس: ألم يعرف أبي بالخبر؟!
ـ قالت عابسة: لا... بأي وجه أخبره؟!.. روح من وجهي الآن.
* * *
تطلع ((خالد))إلى الأكل على المائدة. استغرب أن يجد طعاماً من السوق.. وهو يعرف زوجته لا ترتاح لأكل المطاعم، وتحب أن تطهو بيديها.. ونظر إلى زوجته.. يريد إجابة.
قالت.. وهي تحاول أن ترسم ابتسامة باهتة:
ـ مستغرب من إيه؟!.. سرحت، ووضعت الملح مرتين في الأكل.. صار شرش، وغير صالح للأكل.
خفض ((خالد)) رأسه، وتناول طعامه صامتاً.. لكنه لاحظ اضطراب زوجته وابنه، ولاحظ أن ابنته ((عهد)) تفتعل الضحك، وتحاول أن تضفي على الجو شيئاً من المرح المصنوع.. التفت إلى زوجته، وحدق في وجهها.. نظراته تجعلها تضطرب دائماً.. فكيف بها الآن، وهي في هذه الحالة؟!
ـ سألته: مالك؟!.. معليش، أعرف أن أكل السوق لا يعجبك، فاعذرني.. يبدو لي أنني كبرت بالفعل!
ـ قال: بل.. مالكم أنتم أراكم غير طبيعيين.. فماذا حدث؟!
ـ قالت عهد: يا سيدي كل.. إنت راح تشيل هموم الدنيا كلها.. والا إيه؟!
ـ قال: لا... لا أقصد موضوعي، هناك موضوع جديد.. ولا بد أن أعرفه.
ـ قال فارس: بصراحة يا بابا........
ـ (قاطعته أمه): بصراحة.. كنا نتكلم عن المشكلة اللي مزعجتنا كلنا.. حكاية الديون.
ـ قال: ربنا يسهِّل.
وقام ((خالد)) من أمام المائدة، وتركهم يتجادلون بهمس.. ولم يلبثوا أن سمعوا نداء ((خالد)) من غرفته.. يستدعي ((فارس)).. تبادل ثلاثتهم النظرات بخوف.. وقالت الأم:
ـ أنا قلت... أبوكم لمَّاح، ويفهمها وهي طائرة!!
واعترف ((فارس)) لوالده بما حدث. أطلعه على خطاب الجامعة.. وهو يبعد وجهه عن متناول يد والده، ويتقي أن يهوي بكفه على صدغه!
وطال صمت والده.. بعد أن طوى الخطاب، وأودعه سطح المنضدة بجانبه.
تمنى ((فارس)) لحظتها.. لو أن والده ضربه على وجهه.. لو أنه شتمه، أو بصق عليه! والده.. لم ينطق بكلمة، وكان الصمت ثقيلاً ومنذراً.. وخاف ((فارس)) على أبيه.. لا بد أن يتنفس ويفيض، ويغضب.. واستمر واقفاً في محاذاة والده.. كأنه تحول إلى تمثال.. وطالت وقفته، والأب لا ينبس بنأمة.. وامتلك ((فارس، قدراته، وقال لوالده بصوت خفيض:
ـ أنا آسف يا بابا.
رفع الأب رأسه إلى وجه ابنه.. وخيل إلى ((فارس)) أنه لمح دمعة في عيني أبيه.
ـ قال لابنه: هل أنت راض عن نفسك؟!
ـ يا بابا... أنا........
ـ (قاطعه أبوه): أقصد.. هل ذاكرت بالفعل، وكما ينبغي لتحظى بتقديرات عالية؟!
ـ لا يا بابا... لقد كانت التجربة جديدة بالنسبة لي، وفي الوقت نفسه.. لم أعرها الاهتمام المطلوب.
ـ إذن... أنت تعترف، وسأفيض لك شيئاً آخر مهماً، وهو: أنك قد درجت إلى مسؤولية الرجولة، والاستقلال بذاتك وشخصيتك، ولا بد أن تكون في مستوى هذه المسؤولية، وأن تعرف كيف تبني حياتك، وتجد لك موقعاً ثابتاً في صفوف متزاحمة.. إذا لم تثبت أقدامك، فلا بد أن تسقط، وتدوسك الصفوف. وأنا لن أبقى لك طول العمر.. وأيضاً لا أريد منك مساعدة ولا عوناً، المهم كيف تساعد نفسك وتنجح، وبالنسبة لي.. أنا كفيل بمواصلة مشواري حتى الموت، متحملاً أخطائي، ومستثمراً جهدي.
إن الشهادة التي في يدك.. هي سلاحك، وإن الصحاب الذين تحسن اختيارهم.. هم الدليل على بعد نظرتك أو رؤيتك، والتعامل مع الناس.. مفتاح انتشارك، فإذا وعيت ذلك كله، لن أخاف عليك بعد الآن.. أما إذا واصلت لا مبالاتك، ونزقك، وانفعالك.. فأنت وحدك الخاسر، وإن كنت سأعاني من الحزن الحانق بخسارتك.
* * *
وخرج ((فارس)) من غرفة والده.. يكفكف دموعه.. كانت أمه قلقة مع ((عهد)).. وتطلعا إليه يسألانه عن تلك الجلسة المغلقة.
ـ قال: ليته ضربني.. ذلك أخف من كلامه.
ـ قالت أمه: ألم يضربك؟!
ـ قال: بل تحدث معي كرجل... إنني لا أخاف من أبي، فهو ليس إرهابياً، ولكني احترمه جداً جداً.
إتكأت ((إلهام)) على ذراعيها الممدودتين نحو الأرض، وتحاملت حتى وقفت.. وهي تلحظ أن وزنها في ازدياد، وأن قوامها الذي كان ممشوقاً.. يكاد يختفي.
ـ سألتها عهد: ما بك يا أمي.. هل أنت متعبة؟!
ـ قالت: كل الناس متعبون يا ابنتي.. سأذهب إلى أبيك، وأرتاح قليلاً.
قفزت ((عهد)) تسند أمها.. بينما شرد ((فارس))، بذهنه وحضوره بعيداً.
ـ قالت لأمها تضحكها: الجميل عجّز والا إيه؟!.. إنت لسه شباب يا ((لهومه))!
ـ شباب إيه يا بنتي؟!.. الحياة تضيق أكثر.
ـ لقد ربيتنا على التفاؤل يا أمي، والمشكلات في كل بيت.. إنت كده ارتاحي، وربنا يفرجها. لا بد من الملح والسكر يا ست ماما!
ودخلت ((إلهام)) إلى زوجها، وهي تضحك من حوار ابنتها معها.. لكنها كانت خائفة على زوجها ورفيق دربها.. تريد أن تطمئن على نفسيته- بعد خبر فارس- حتى لا ينعكس ما حدث على حالته الصحية.
ـ سألته: ألا تشرب الشاي؟!
ـ قال: أريد أن أنام قليلاً.. فأنا متعب.
ـ قالت: متعب إيه.. ودلع عجائز إيه؟.. إنت جالس في البيت من فترة، وعليك أن تقوم، وتخرج، وتباشر عملك في مكتبك.. وخليها على الله.
ـ قال: أروح أعمل إيه في المكتب.. يعني الشغل اللي يلاحق بعضه، والا... الأوراق الطافحة بأرقام الديون، والعجز؟!
صمتت ((إلهام))، ورفعت الغطاء، ودثَّرت به زوجها.. خوفاً عليه من برودة جهاز التكييف. استلقت بجانبه.. وهي تقول:
ـ والله أتعودنا على غفوة بعد الظهر.. والأطباء ينصحوننا ببطلانها.
لم يجبها. كأنه أغفى!
وهي تشعر أنه مستيقظ، ولا يريد الكلام.
مدَّت يدها إلى رأسه.. وصارت تمرر أصابعها على شعره، وقبَّلت رأسه، وكأنها تحمل في صدرها هذه اللحظة كل هموم العمر الذي مضى، والعمر المتبقي.. تريد أن تبكي.. دون أن يراها أحد.. تريد أن تحتضنه.. كطفل صغير تطوح به الرياح.. حتى يحس بالأمان.
وفوجئت بيده تحضن يدها إلى صدره. قالت له وهي تصطنع الضحكة:
ـ إنت صاحي... وعامل نفسك نائم؟!
ـ قال: انتهت أيام النوم يا ((إلهام)).. أريد راحة البال، ولا بأس أن لا أنام!
ـ قالت: يا شيخ... خليها على الله، ما ضاقت إلا وفرجت.
ـ قال: الله كبير.. ولكن لا بد أن أتصرف.
ـ قالت: أعرف أن ((فارس)) كحَّلها!
ـ قال: مشكلة ((فارس))، أنا السبب فيها.. أهملته، وما صرت أتابعه ولا أراقبه، وهذه نتيجة طبيعية، ولكني أثق فيه.. لقد أحسنا تربيته؟ أتصور، والولد حي، وضميره متيقظ، ومتأكد أنه سيخوض التجربة بإصرار وتحدٍ.
ـ قالت: خلاص... ومشكلة الديون، قلت لك نبيع البيت، والأراضي، ونسدد ما نقدر على تسديده!
ـ قال: الآن يا إلهام؟!.. بكم سأبيع البيت والأراضي، وحركة البيع والشراء في أسفل السافلين، وديوني بالملايين.
* * *
وحتى لا تزيد أوجاع زوجها بالحوار.. في موضوع مسدود، ليس له طريق مفتوح وواضح.. أخلدت إلى الصمت من جديد.. وغمرها في تلك اللحظة خوف شديد جداً.. تصوَّرت فيه كيف يكون مصير زوجها، وكيف يتصرف، وكيف يصمد، وهل يحتمل؟!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :918  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 109 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالله بلخير

[شاعر الأصالة.. والملاحم العربية والإسلامية: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج