شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الشيطان.. يلوح!
* استيقظ (( خالد)) من نومه مبكراً جداً على غير عادته!
تمطَّى وهو يتثاءب بكسل، وشرع جفني عينيه يحاول أن يعرف الوقت، فليس من عادته أن يستيقظ في الفجر!
كان صوت المؤذِّن يرتفع بنداء الصلاة، وشعر أن جسمه واهن، لا يريد أن يترك فراشه في هذه ((الغبشة))، فقد سهر في الليلة الماضية إلى حوالي الثانية صباحاً.. أي إنه لم ينم أكثر من ثلاث ساعات، ولم يأخذ كفايته من النوم!
حاول أن ينظر في ساعة معصمه.. وكان الظلام لم يتبدد بعد، وستائر غرفة النوم تحجب عنه نور الفجر. وتحسس بيده رأس زوجته.. كانت تغط في نومٍ عميق، لكنها نامت قبله بوقت طويل، فما الذي أيقظه الآن؟!
غطَّى وجهه ليستدرج النوم إلى عينيه من جديد، لعله ينام، فمازال الوقت مبكراً!
مازال صوت المؤذِّن يطوف في صمت الغرفة.. يضيء هذا السكون العميق.
استوى فوق فراشه، وأخذ يفرك عينيه، قائلاً:
ـ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. لا بد أن أنهض لأصلي الفجر. فرصة فيها نعمة من الله أن جعلني استيقظ وأسمع الأذان.. كنت أتمنى أن أصلي الفجر حاضراً، ولكنه النوم، والكسل. على الله.. ودي قومه!
وتحرك من سريره، متجهاً إلى الحمام ليتوضأ.
كانت غرفة ((فارس)) تؤدي إلى غرفة نومهما، وأطل ((خالد)) برأسه نحو سرير ابنهما ((فارس)) ولم يبصر شيئاً، وواصل طريقه ليتوضأ، وخرج إلى الصالة يصلي!
وشعر بعد أداء الصلاة براحة نفسية.. كأنه يصلي لأول مرة!
ـ قال يحادث نفسه: الحمد لله.. ليتني استيقظ كل فجر في هذا الموعد.
ولف سجادة الصلاة، وعادت به خطواته إلى غرفة النوم.. أراد أن يغفو الساعات المتبقية حتى يحين موعد الفطار، والذهاب إلى العمل.
وأمام غرفة (( فارس)) توقف.. خيِّل إليه أنه استمع إلى صوت ابنه، ولكن... هل استيقظ ((فارس)) مثله على صوت أذان الفجر؟!
دخل إلى غرفة الطفل على أطراف أصابعه لئلا يوقظه إن كان نائماً.. وكان ضوء ((الأباجورة)) المضاءة كل الليل يعكس ظلالاً في الغرفة، ورأى ((فارس)) في سريره وهو يحرك يديه وساقيه، كأنه يسبح، أو لعله ينادي على أمه وأبيه.
وقف ((خالد)) عند حاجز سرير ابنه، فرآه مستيقظاً، ينظر إلى وجهه ويبتسم، وهو يردد كلمات لا يفهمها الأب: غا.. غا... حمله بين ذراعيه.. احتضنه وقبَّله، وأخذ يلاعبه، يرفعه إلى أعلى ويتلقَّفه!
كان (( فارس)) يبدو سعيداً في حضن أبيه، وكان (( خالد)) في تلك اللحظة يمتلك أغلى الجواهر.. وشعر أن النوم قد رحل من عينيه، وأحسَّ بنشاطٍ يختلف كثيراً عن لحظة إفاقته من النوم العميق.
وسار بابنه ((فارس)) إلى صالة ((الشقة))، وفتح باب الشرفة، واستقبل الصبح الجميل على وجه ابنه، وهو يلاعبه بأصابعه، وبحاجبيه وبعينيه، ويبتسم له بأصدق الفرح.
وفي الشرفة المطلة على الشارع الذي بدأت الحياة تدب فيه رويداً.. أخذ كرسياً وجلس وفي حضنه ((فارس)) يطوح بيديه وقدميه ويضحك سعيداً.. وزادت حركات ((فارس)) يريد أن يتخلص من بين يدي والده.. فأطلقه على امتداد مساحة الشرفة، وهو يتابعه، ويراقب حركاته، و ((فارس)) يحبو، وكأنه يتقافز في الحبو، ويطوف في أرجاء الشرفة، وحاول أن يسحب إليه كرسياً آخر، ويتمسك به في محاولة منه للوقوف.
ـ قال أبوه: بدك توقف؟!
ولكن ((فارس)) لم يحسن النطق حتى الآن، إنه يواصل سحب الكرسي، ثم التشبث به، حتى استطاع أن يقف بعد محاولات شاقة.. فصفق له والده وهو يضحك قائلاً له:
ـ شاطر.. شاطر!
وبكل الفرحة التي غمرت ((خالد)) اندفع ركضاً إلى غرفة النوم، تاركاً ((فارس)) في الشرفة يتشبث بالكرسي، وراح ((خالد)) يوقظ زوجته ((إلهام)) بفرح:
ـ إلهام.. إلهام، قومي!
وجلست ((إلهام)) في فراشها فزعة، وهي تقول:
ـ إيه.. إيه اللي حصل.. فارس جرى له حاجة؟!
ـ ايوه.. قومي شوفي!
ـ باسم الله على ولدي.. ماله، إيه يا ((خالد)) سيَّبت ركبي!
ـ فارس وقف.. فارس وقف!
وتهاوت ((إلهام)) فوق سريرها محبطة، وهي تقول لزوجها:
ـ حرام عليك.. كدت أنشل!
ـ فرحان.. فرحان جداً، قومي شوفي ((فارس))!
وتركها تجمع قدراتها وعزمها الذي تخلخل، وانطلق إلى غرفة نوم ((فارس)) وحمل معه لعبة الطفل ((أرنوب)).. وعاد إلى ((فارس)) يلوِّح له باللعبة، ويضعها على الأرض ويعبئ ((زمبلكها))، ويقول لابنه ((فارس)) كأنه يفهمه:
ـ شوف يا فارس.. هذا صاحبك ((أرنوب)).. شوف كيف يمشي على رجليه.. اعمل مثله، هيا يا روحي، خليك أشطر منه!
وتناول ((فارس)) لعبته، وأخذ يطوح بها ضاحكاً، فرحاً! ووقفت ((إلهام)) عند مدخل الشرفة، تراقب ابنهما ((فارس)) وقد وقف على قدميه، ممسكاً بحافة الكرسي، وباليد الأخرى يلوح لها بالأرنب، وهو يردد بلثغته: ماما.. ماما!
وضع ((خالد)) فنجان الشاي أمامه، وتهيأ للقيام ليرتدي ملابسه ويذهب إلى عمله.
ـ قالت له إلهام: إلى أين إن شاء الله؟!
وتطلع إليها مستغرباً من لهجتها الحادة، وسؤالها المتهكم. أجابها:
ـ إلى العمل إن شاء الله.. أي خدمة؟!
ـ طبعأ.. ماشي طويل طويل من غير ما تفكر معايا راح نتغدى إيه؟!
ـ وهل التفكير في الطبخ من صميم عملي؟!
ـ وهل أنا اللي بآكل وحدي في هذا البيت؟!
ـ إيه.. انت قايمه على جنبك الشمال؟!
ـ لأ.. قايمة مفزوعة ومخضوضة، وكان راح يجيني شلل!
ـ ياستي أنا آسف.. من فرحتي عملت كده، سماح المرة دي!
وتركها تتأفف، بينما دخل إلى غرفة نومه، وارتدى ملابسه، وخرج متجهاً إلى عمله. لكنه كان يعاني من توتر شديد، وكان يسائل نفسه:
ـ لماذا تعاملني ((إلهام)) بهذه الطريقة الفظة؟!
وانتابته حيرة ضاعفت قلقه على الاستقرار في هذا العش الصغير، فعندما تزوج من ((إلهام)) لم تكن تعامله بهذه الغلظة.. بل كانت تشيع جواً من الحب والألفة في داخل البيت، وكان يعتقد أن المرأة عندما تلد طفلاً، تنضج أكثر، وتصبح حريصة على بيتها، وعلى تربية طفلها في حنانها ورعاية أب مسؤول!
كانت فرحة بالطفل، وذات مساء قالت له وهما ينسجان أحلام الغد لهذا البيت:
ـ صدقني يا خالد.. لم أتمنى والداً لطفل مني سواك، ولو لم أجدك لبحثت عنك!
عجيب.. وما الذي غيَّرها بصورة مفاجئة؟!
وأخذ يحدث نفسه، ويسترجع بعض المواقف الساخنة والعصبية بينهما.. إن زوجته ((إلهام)) عصبية، تفقد أعصابها بسرعة، لكنها طيبة القلب، تصفو في دقائق!
هل قصَّر في فهمها جيداً؟!
وما الذي تريده ((إلهام)) بالضبط؟!
واستغرقته هذه الأسئلة في حيرة عصفت بهدوئه، وبإقباله على العمل.. ولم يشعر بمدير الإدارة المالية وهو يقف أمامه محاذياً لمكتبه، والرجل يناديه، ويتطلع إليه في حيرة من أمر ((خالد)) الذي يبدو منشغلاً.. يطرد بعيداً ولا يحس بالرجل أمامه!
ـ يا أخ خالد.. أخ خالد، ما بك؟!
وأعاد الرجل النداء عدة مرات، دون أن يتنبه له ((خالد))، فعمد إلى هزه من كتفه، حتى تنبه إليه، وتطلَّع إلى الرجل الواقف أمام مكتبه، ووقف مضطرباً، وهو يعتذر له:
ـ آسف جداً.. اعذرني.
ـ الله آخد بالك.. أنا واقف من خمس دقائق، ولا انت هنا!
ـ برضه آسف، معليش، أي خدمة.
ـ المدير العام يطلبك بسرعة.
ـ خير.. ما الأمر؟!
ـ لا أعرف.. قال إنه طلبك بالتليفون ولكنك لم ترد.
حتى التليفون لم يسمعه؟!
ترى.. ما الذي سيطلبه منه المدير العام.. ماذا فعل، هل ارتكب خطأ؟!
ربما.. فهو يأتي إلى العمل منذ كثر من أسبوعين في مثل هذه الحالة تقريباً، لا يذكر أنه خرج من بيته صباحاً، قبل أن تصطدم به ((إلهام)) وتوتِّره!
لعله أخطأ في مذكرة، أو لعل المدير العام طلب منه إنجاز عمل ونسيه!
ماذا يفعل الآن.. وكيف يرد على المدير العام؟!
وقام متثاقلاً.. يخطو إلى غرفة المدير العام، وهو يقطع ذلك الممر الطويل، ويشير بيديه، ويحدث نفسه مثل مخبول!
وطرق باب غرفة ((المدير العام)) ودلف إلى داخل المكتب متردداً متوجساً، وبصوت محبوس، قال:
ـ صباح الخير.. هل طلبتني؟!
ـ نعم يا ((خالد)).. هناك بضعة أعمال نريد منك أن تنجزها للشركة في الرياض!
ـ تقصد.. أن أسافر إلى الرياض؟!
ـ نعم يا ((خالد)).. مابالك، ماذا بك؟
ـ ها.. لاشيء يا سيدي، ومتى سأسافر؟!
ـ في الغد إن شاء الله، وإنت وشطارتك إن أنجزتها في يوم أو عشرة، وقد عمدت الإدارة المالية بصرف ما تستحقه من مصاريف الانتداب!
* * *
وخرج، من مكتب المدير العام، يطوح بيده، متسائلاً:
ـ وهل أترك ((إلهام)) و((فارس)) وحدها؟!.. هذه أول مرة أتركهما، فهل أدعها تذهب عند أمها، أم عند أمي؟!
ـ قالت له إلهام وهو يخبرها على الغداء: بل أذهب عند أمي!
ـ ولماذا لا يكون ذهابك إلى أمي؟!
ـ لما أنا أسافر.. روح إنت عند أمك!
فوجئ بهذا الرد منها.. إنها تواصل استفزازه بدون سبب!
ـ حسناً.. الله يسامحك، لنؤجل خلافاتنا لما بعد!
ـ وليه.. أحسن من الآن!
ـ تقصدي إيه؟!
ـ أقصد إنك سئمت مني، وما عدت تطيقني، وإن كانت راحتك إني أجلس عند أمي على طول، ما عندي مانع!
ـ لا حول ولاقوة إلا بالله.. إخزي الشيطان يا بنت الناس.
ـ وإن ما خزيته؟!
ـ خلاص.. أخزيه أنا، وكمان شبعت والحمد لله!
وقام ((خالد)) من أمام مائدة الغداء، وحمل ((فارس)) بين يديه، وجمع له ألعابه، وجلس يلاعبه، وهو يحاول أن يمتص غضبه ويسري عن نفسه مع ((فارس))!!
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1110  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 70 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.