شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سطر...بدفء ذكرى!
(1)
● قرص الشمس ينحدر عند الأفق.. قانياً، مضجراً بحصيلة النهار كله!
الشاطئ أخذ يستعيد أنفاسه.. وهو يتخلَّص رويداً من الأقدام التي ركضت فوقه. وجرت فوق رماله، وتقافزت على حصاه.
الزحام في كل مكان.. حتى عندما تنحدر الشمس للمغيب. ونظراته - تلك اللحظة - ضائعة..ترحل خلف الغروب، ممتزجة، مطوية بين المياه الزرقاء الداكنة، وبين ترددات الموج الخفيف وهو يصطدم هيناً بحجارة الشاطئ!
لا شيء مما كان مرئياً: لا الزحام ولا الانطلاق، ولا حتى ذلك التواجد المؤقت في الوقت.. بل كل شيء الآن - في العينين - هو ذلك الكل، المازال في الضلوع من المحسوس، ومن الرجع، ومن أصداء الزمان الذي تفوق على الوقت، وكبر بالعمر، وبالوفاء.
إنه هذا الصمت النبيل.. حينما تغرورق العين بدمعة لا تهون.. وفي الدمعة تختال صور الذكرى، وتكبر الأيام، وتضيء النفس براحة العهد للحفاظ على الغالي.
فهل الصمت حزن.. هل الصمت إدانة لعبث الإنسان بصدقه، وبقيمه؟!
كان الصمت حوله وكان على امتداد البصر شعاعاً في البصيرة، ودفقاً دافئاً في القلب. أما سرحة النظر فقد كانت تطارد ذلك (الذي يأتي ولا يأتي) كما قال الشاعر!
أما الرجع والأصداء.. أما الإصغاء للمترسب بين الضلوع وهو يطفو الآن.. فقد كان تذكراً منه لعبارة ترددت في الزمان الذي لا مثيل لعنفوانه.. تقول:
ـ "يصفونني بأنني حزين.. بل يدينني البعض بحزني، مطالباً بإبعادي عن مدينة المستقبل. ودعاوى هذا البعض إنني أفسد أحلام الحاضر وأمانيه بما أبذره من شك في قدرة المدنية على تجاوز زيفها"!
(2)
تمتد يد هذا المبحر في مكانه مع الصمت والتأمل وتدير مؤشر المذياع فيأتيه الرجع ثانية من البعيد.. من خلال أغنية لا يطيق سماعها حتى لا تضطرب قدرته حينما يربط الأمس بالغد.. لكنه مشدود على النداء العفوي والصادق فيها:
ـ "يا أغلى من أيامي.. يا أحلى من أحلامي"!
ويسارع.. فيفر بمؤشر المذياع من جديد.. يركض به هارباً من دمعة لا يستطيع احتمالها. ويبحث عن برنامج ضاحك.. عن نكتة سخيفة. لقد امتلأت أغنيات العرب بالدموع. بينما تكاد تنضب مآقيهم من الدموع!
وتمتد نظراته إلى البحر ثانية، في رمق النهار الأخير، يتأمل.. كيف يغرق هذه النظرات، وكيف يدع ما يختال في الدمعة يسبح حتى يبلغ الشط؟! إنها سرحة من الإشعاع الروحي تتهادى به فوق مياه البحر حافظ الأسرار!
إنها لحظة من إمتاع الذهن.. كما "فلتر" ينقي من أوشال الألم، ويشذب الحزن.. عندما يقدر العقل على الانطلاق بعيداً، حتى يتصل مداه بمدى الأحلام العريضة.. تلك التي تسقط غالباً مع قرص الشمس الآفل!
لكن الزمن يتحول إلى مجرد "وقت".. عندما يخلو من الانتظار، ومن الوعد، ومن الكلمة ذات الصدى.. فالزمن هو عهودنا، وقيمنا، وهو معاني الإنسان في الوجد، وفي الفكرة.. وبذلك تبقى موانئ النفس مضيئة رغم غارات الكراهية في عالم الإنسان.. رغم التفاهة!
إنها مازالت الموانئ التي تستقبل أشرعة بيضاء قادمة.. بينما البحار تقذف الأصداف والوشل، و.. "مازال الحنين لظى"!
سأل نفسه: هل في إمكان التجربة الإنسانية أن تعبر بإحساس الإنسان من ارتطاماته، وما حوله من إحباطات.. إلى قناعة بجدوى الزمن؟!
إنه يسكن الموانئ، ويرضع من سحابة تلوح بالغيث!
إنه - كما يرى نفسه - يقف فوق صارية رست سفينتها، وكلهم يرحلون، ويبقى وحده يستقبل الوقت، ويودع التجربة خلف التجربة والموج يقهقه، والبحر يعلو وينحسر، والصارية تنتشر على وجه البحر.. ومازالت السفينة تتمايل بلا تعب!
وعندما كانت نفسه كمحارة تائهة في الموج.. كانت ضلوعه تستقبل النداء المتجدد في دعوة للحياة وللأمل. إنه لا شيء يقدر أن يتحول إلى فراغ.. طالما حافظت نفوسنا على عمار الحب لها.
إن الفراغ الحقيقي.. هو أن لا يبقى شيء تفكر فيه، ولا يبقى لك من تحبه ويحبك.. لحظتها يتحول الزمان إلى وقت، وتكف الحياة عن الحياة!
(3)
كان يمثل الفرح المتفجر.. وكان يغرق في الألم النازف!
ضدان اجتمعا فيه في لحظة اكتشاف واصطدام.. في عودة روح، وفي عجز عن امتلاك الأمل.. في مواجهة حقيقة صادقة، وفي شحوب انتباهه!
كأنه سيد الزمان حينما يشعر بالتواجد..
والذكريات المستقرة في القرار لا تقدر على التلاشي.. والعمر الجديد يطلع في الوقت... ويهدر في النبض!
ولكن الحقيقة لا تتغير.. إنه الغريب الذي أمضى سنوات العمر جوالاً، يذرع الحياة ويفتح أبواب الليل بحثاً عن "توأم" الروح التي ترضعه استقرار الشعور، وتهدهده في أرجوحة النشوة.. فأضناه تعب البحث، وهدّه التصوّر عند كل محطة توقف.. يحسب الخيال تجسيداً "لتوأم" تحتضنه وتنهي عذاباته!
وكادت الأيام أن تهرم به وتشيخ.. ولكنه في اعتراكه بالضنا، عادته الأصداء من البعيد.. كأنما انتصبت في حدقتيه أشجان صوت يشرق بالغربة.. ينجرح بالأسئلة التائهة.. يبح بالنداء الذي يبحث عن قرار!
كان الصوت القديم يتجدد. بينما الزمان يوغل في الشيخوخة!
صوت ينزف الوجع، والحزن، والآهة.. يفتش في نداءاته عن كل ما يفجر التذكر!
وكطفل خطفه الزحام.. بكى، وكقلب تراكمت عليه السنون.. ارتعش، وكعين كادت الأضواء الكثيفة أن تعشيها.. حدق في الظلال وانكسارات الضوء، فإذا به - بكل ما فيه - يقترب من الصوت القديم وهو يتجدد.. يمتزج به، ينغمر فيه كأنه هو.. كأنها حنجرته.. كأنه يردد أمانيه التليدة، وأشجانه الغريقة، وأفكاره الراحلة، وسخافاته، وكل حزنه!
وأضاءت الكلمات صدره تمحو التذكر، وتقتلع غرسة التناسي، وإذا الماضي كالأرض البكر التي تستقبل أول غرسة فيها لتزرع الغد!
عاد "الغريب" يتمنى، ويحلم، ويتصور، ويجسد الخيالات.. فإذا الجراح خفق، والحزن شجى، والغربة لقاء!
ولكن.. كم يطول عمر الأماني؟!
إنه بعمر الخفقة الأولى التي تكبر في الحس حتى تصبح وجوداً لا بديل له..
فالأحلام القديمة لا تتجدد، لأن الزمن الذي انبجست فيه قد ولى، والحاضر لا أكثر من صدى حنون فقط!
عاد "الغريب" يصغي، ويتعذب!
كأن الأسى يسيل صبراً ويغور في رمال السنين التي تغذ المسير!
إنه الدمعة.. في لحظة اصطدام الصدى بالواقع المفروض!
إنه البسمة.. في لحظة الخروج من الزمن المعاش.. إلى عالم رحب من الروح!
فهل يعود غريباً كما كان؟!
دمعة رحيل دائم هو.. تحتشد اللحظات والمواقف، وأصدق الكلمات في حدقتيه، ثم يواصل السفر.. كأن الملامح دوائر صغيرة على سطح البحيرة.. تتسع، وتتسع، ثم تتلاشى!
كأن أصداء ما سكن إصغاءه تصطدم بالشمس وبالنجوم، وبتعاقب الليل والنهار.. باليوم وبالأمس، وليس في الغد مطمع.. لكنه مدعو بالضرورة للوقوف، وللترقب.. في انتظار فرصة التعرف على الغد الذي سيرحل فيه بكل غربته!
الغد.. كل آماله: أن نواصل الوفاء للأنبل، وللأعمق!؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :961  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 40 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.